"الحماصنة" علّقوا القباقيب على صدورهم وتصدّوا لجيش تيمورلنك
فداء شاهين
الخميس 12 مايو 202203:34 م
ما أن يقع أحدهم في موقف محرج، مثل تلعثم اللسان في أثناء الحديث، أو التأخّر عن موعد ما، أو التعرض للسخرية من قبل الرفاق، وغيرها من المواقف، وصادف حصول ذلك يوم الأربعاء، حتى يتندر عليه الآخرون بالقول: "اليوم الأربعاء... شو معيّد؟". وإن كان ذلك في بقية أيام الأسبوع، يقولون له: "شو صايرلك؟ اليوم مانو الأربعاء لحتى تعيّد وتخبّص". هكذا يتناقل أهالي حمص والمحافظات الأخرى نوادر عيد الأربعاء، كبيرهم قبل صغيرهم.
ومع أن جميع السوريين على اختلاف مشاربهم ومناطقهم، يتحدثون عن "عيد المجانين"، أو "الأربعاء الحمصي" الذي يصادف يوم الأربعاء من كل أسبوع، إلّا أنّ قلّةً من الناس تعرف حقيقة هذا العيد عند أهل حمص، والذي أصبح تراثاً شعبياً شفهياً، خاصةً أن المعتقدات الشعبية اكتسبت في كل مجتمع أهميةً خاصةً بوصفها أعرافاً غير مكتوبة، تؤمن بها الجماعة بإرادتها.
الشيء الغريب أنّ أبناء حمص المعروفين بخفة دمهم ودماثتهم، يتفاخرون في إطلاق النكت على أنفسهم ويضحكون بكل ثقة آخذين الأمر بروح الدعابة والتسلية، بحسب روايات من التقيناهم. وإطلاق النكات أصبح من وسائل التسلية ومن لوازم الحياة في المجتمع الحمصي، فلا تكاد تمرّ مناسبة أو حادثة معينة في البلاد، ويسمع بها أبناء مدينة حمص، حتى يستغلّونها في جملة بسيطة ولطيفة: "نكتة مضحكة"، ومنها: "ليش الحماصنة ما بيصوموا أول يوم بشهر رمضان؟!... لأنه أصعب يوم".
ما أن بدأت الأزمة السورية، حتى سارع أبناء المدينة إلى إنشاء صفحات على الفيسبوك مختصة بالنكات والتسلية والترفيه، وألّفوا النكات التي تواكب الحدث الكبير. منها مثلاً: "مندس مسكوه الشرطة وبعتوه على المحكمة... القاضي قلو: هي المرة التانية اللي بتجي فيها لهون لك ما بتستحي على حالك؟ المندسّ رد عليه بسرعة: إي احكي عن حالك إنت كل يوم هون"، وأخرى: "حمصي بيسأل صاحبه: اللي بيموت في المظاهرات بطلع على الجنة ولا ع النار؟ قالّه: يا أهبل بيطلع ع الجزيرة".
عيد المجانين
لم تختلف روايات عامة الناس في حمص عن رواية الإعلامي والفنان المسرحي، محمد خير الكيلاني، ابن المدينة، الذي تحدث إلى رصيف22، عن عيد "يوم الأربعاء" المعروف منذ زمن عند الحماصنة، عادّاً الأمر من باب التندر ووضع الحماصنة في موقف محرج والتنكيت عليهم بـ"عيد المجانين"، الذي هو في حقيقة الأمر "عيد المجاذيب"، بمعنى أنّ الحماصنة يجذبون الناس إليهم بلطفهم ومرحهم وطيبة قلوبهم ومحبتهم لكل الناس، وكل ما في الأمر أنه إذا أراد المواطن الحمصي أن ينقذ نفسه من موقف محرج، فيقول إن اليوم هو الأربعاء "عيد الحماصنة".
النكتة الحمصية، بحسب الكيلاني، استمرت خلال سنوات الحرب بصيغ مؤلمة وقاسية من باب الإسقاطات على الأحداث ولم تبقَ كما هي، خاصةً في ظل الواقع المعيشي الصعب وعدم توافر الوقود وارتفاع الأسعار في الأسواق والإيجارات وغيرها، إذ أصبحت النكات تعبّر عن الواقع وهذا الشيء جعل "الحماصنة" يؤلفون النكات ويبدعون فيها، ويُعدّ ذلك كله نوعاً من حداثة النكتة في يوم الأربعاء، فهي تفرغ قهر المواطن تجاه السلبيات والتداعيات الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية التي يعاني منها.
وتعددت الروايات عن نشأة النكتة الحمصية، فمنهم من أرجعها إلى ما قبل الميلاد، وهناك روايات أخرى تقول إن أصل النكتة الحمصية نشأ في العصر الإسلامي، في حين بيّن البعض أن أصل النكتة الحمصية أتى من يوم "الأربعاء" ذاته، الذي عُرف فيه الحماصنة بسمة الجنون، وأصبح الحمصي ضحية النكتة، فهو الذي يفضّل أن يشاهد الجميع "مبسوطين وسعيدين وضاحكين" بالفطرة.
يوم الجذبة
بتوثيق رسمي في قسم علم الاجتماع في جامعة دمشق، بحث طالب الدراسات العليا في التراث الشعبي، سليمان فرح، في هذه العادات، إذ تُعدّ حمص ثالث أكبر مدن سوريا من حيث عدد السكان، بعد دمشق وحلب، مشيراً إلى أن "تاريخ أي بلد بما يحتويه من تراث يحمل في طيّاته قصص الأسلاف، والأخلاق والعادات والمعتقدات الشعبية، وهي مجموعة أفكار اعتقادية موازية للدين، تقترب منه أو تبتعد عنه قليلاً".
يقول فرح: "مدينة حمص هي إحدى المدن التي ارتبطت منذ مئات السنين بالنكتة وروح الدعابة ارتباطاً وثيقاً، فما أن تُذكر هذه المدينة حتى يُذكر ‘يوم الأربعاء’، أو ما يسمّيه بعضهم ‘يوم الجذبة الحمصية’، وهو يحتل مكانةً خاصةً في التراث الشفهي وفي الروايات الشعبية التي تجعل منه يوماً غير عادي ولكنه عيد هادئ بلا طقوس، فما أن يستقبل أبناء المدن الأخرى أو البلدان المجاورة لسوريا شخصاً "حمصياً"، حتى يبادروه بالسؤال عن آخر نكتة حمصية. والشائع في تفسير أسباب "التنكيت" على أهل مدينة حمص، أنهم يحتفلون كل يوم أربعاء بـ"عيد المجانين"، ويعود هذا التقليد إلى زمن الاجتياح المغولي لبلاد الشام ومحاولة تطويع البلاد بالحديد والنار، فكانت لنجاة أهل مدينة حمص من بطش تيمورلنك، بتصنّعهم الغباء وإشاعة أنّ مياه نهر العاصي تسبّب هذه الآفة، أكبر الأثر في وسمهم بتلك الصفة، بالرغم من أن هذه الرواية تحمل من الذكاء قدراً غير قليل".
بداية الجنون
يوثّق الباحث في رسالته الأكاديمية أنّ أولى الحكايات التي تُروى في هذا الشأن هي قصة تيمورلنك عندما اجتاح حلب واستباحها، فتداعى أهل حمص للتداول في هذا الخطر الداهم المقبل مع الجحافل التي أحرقت الأخضر واليابس، ليجدوا حلاً للمأزق كان في غاية الطرافة، إذ اتفقوا على استقبال التتر في صورة كاريكاتورية، فارتدوا أزياءً غريبة الشكل ومضحكةً، وراحوا يتفننون في الظهور بمظهر هزلي، فعلّقوا القباقيب على صدورهم كنياشين وحجبوا وجوههم بالغرابيل، واعتمروا الجرار المكسورة واضعين أقراطاً في آذانهم بأشكال مختلفة، وبدأوا يرقصون في استقبال الجيش بتهريج مفرط بالهزل والحركات البهلوانية.
يضيف: "فعل ذلك المشهد الهستيري فعله، ورسم علامات البسمة والدهشة على وجوه تيمورلنك ورجاله إذ بُهتوا بغرابة ما يشاهدونه، فسأل عنهم مستشاريه، وعرف أنه أمام أهل حمص، فقدّر أنّ وقته أثمن من أن يضيّعه مع هؤلاء المجانين، ونجا "الحماصنة" بقليل من الجنون المدّعى، وتجاوزوا بطش الغزاة بهذا المشهد الذي أتقنوا تمثيله ذات يوم أربعاء".
فداء شاهين
الخميس 12 مايو 202203:34 م
ما أن يقع أحدهم في موقف محرج، مثل تلعثم اللسان في أثناء الحديث، أو التأخّر عن موعد ما، أو التعرض للسخرية من قبل الرفاق، وغيرها من المواقف، وصادف حصول ذلك يوم الأربعاء، حتى يتندر عليه الآخرون بالقول: "اليوم الأربعاء... شو معيّد؟". وإن كان ذلك في بقية أيام الأسبوع، يقولون له: "شو صايرلك؟ اليوم مانو الأربعاء لحتى تعيّد وتخبّص". هكذا يتناقل أهالي حمص والمحافظات الأخرى نوادر عيد الأربعاء، كبيرهم قبل صغيرهم.
ومع أن جميع السوريين على اختلاف مشاربهم ومناطقهم، يتحدثون عن "عيد المجانين"، أو "الأربعاء الحمصي" الذي يصادف يوم الأربعاء من كل أسبوع، إلّا أنّ قلّةً من الناس تعرف حقيقة هذا العيد عند أهل حمص، والذي أصبح تراثاً شعبياً شفهياً، خاصةً أن المعتقدات الشعبية اكتسبت في كل مجتمع أهميةً خاصةً بوصفها أعرافاً غير مكتوبة، تؤمن بها الجماعة بإرادتها.
جميع السوريين على اختلاف مشاربهم ومناطقهم، يتحدثون عن "عيد المجانين"، أو "الأربعاء الحمصي" الذي يصادف يوم الأربعاء من كل أسبوع
حرب الأيديولوجيا الفكاهيةالشيء الغريب أنّ أبناء حمص المعروفين بخفة دمهم ودماثتهم، يتفاخرون في إطلاق النكت على أنفسهم ويضحكون بكل ثقة آخذين الأمر بروح الدعابة والتسلية، بحسب روايات من التقيناهم. وإطلاق النكات أصبح من وسائل التسلية ومن لوازم الحياة في المجتمع الحمصي، فلا تكاد تمرّ مناسبة أو حادثة معينة في البلاد، ويسمع بها أبناء مدينة حمص، حتى يستغلّونها في جملة بسيطة ولطيفة: "نكتة مضحكة"، ومنها: "ليش الحماصنة ما بيصوموا أول يوم بشهر رمضان؟!... لأنه أصعب يوم".
ما أن بدأت الأزمة السورية، حتى سارع أبناء المدينة إلى إنشاء صفحات على الفيسبوك مختصة بالنكات والتسلية والترفيه، وألّفوا النكات التي تواكب الحدث الكبير. منها مثلاً: "مندس مسكوه الشرطة وبعتوه على المحكمة... القاضي قلو: هي المرة التانية اللي بتجي فيها لهون لك ما بتستحي على حالك؟ المندسّ رد عليه بسرعة: إي احكي عن حالك إنت كل يوم هون"، وأخرى: "حمصي بيسأل صاحبه: اللي بيموت في المظاهرات بطلع على الجنة ولا ع النار؟ قالّه: يا أهبل بيطلع ع الجزيرة".
عيد المجانين
لم تختلف روايات عامة الناس في حمص عن رواية الإعلامي والفنان المسرحي، محمد خير الكيلاني، ابن المدينة، الذي تحدث إلى رصيف22، عن عيد "يوم الأربعاء" المعروف منذ زمن عند الحماصنة، عادّاً الأمر من باب التندر ووضع الحماصنة في موقف محرج والتنكيت عليهم بـ"عيد المجانين"، الذي هو في حقيقة الأمر "عيد المجاذيب"، بمعنى أنّ الحماصنة يجذبون الناس إليهم بلطفهم ومرحهم وطيبة قلوبهم ومحبتهم لكل الناس، وكل ما في الأمر أنه إذا أراد المواطن الحمصي أن ينقذ نفسه من موقف محرج، فيقول إن اليوم هو الأربعاء "عيد الحماصنة".
مع وصول الغزاة، علّق الحماصنة القباقيب على صدورهم واعتمروا الجرار المكسورة ما رسم علامات البسمة والدهشة على وجوه تيمورلنك ورجاله إذ بُهتوا بغرابة ما يشاهدونه، فسأل عنهم مستشاريه، وعرف أنه أمام أهل حمص، فقدّر أنّ وقته أثمن من أن يضيّعه مع هؤلاء المجانين، ونجا "الحماصنة" بقليل من الجنون المدّعى
النكتة الحمصية، بحسب الكيلاني، استمرت خلال سنوات الحرب بصيغ مؤلمة وقاسية من باب الإسقاطات على الأحداث ولم تبقَ كما هي، خاصةً في ظل الواقع المعيشي الصعب وعدم توافر الوقود وارتفاع الأسعار في الأسواق والإيجارات وغيرها، إذ أصبحت النكات تعبّر عن الواقع وهذا الشيء جعل "الحماصنة" يؤلفون النكات ويبدعون فيها، ويُعدّ ذلك كله نوعاً من حداثة النكتة في يوم الأربعاء، فهي تفرغ قهر المواطن تجاه السلبيات والتداعيات الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية التي يعاني منها.
وتعددت الروايات عن نشأة النكتة الحمصية، فمنهم من أرجعها إلى ما قبل الميلاد، وهناك روايات أخرى تقول إن أصل النكتة الحمصية نشأ في العصر الإسلامي، في حين بيّن البعض أن أصل النكتة الحمصية أتى من يوم "الأربعاء" ذاته، الذي عُرف فيه الحماصنة بسمة الجنون، وأصبح الحمصي ضحية النكتة، فهو الذي يفضّل أن يشاهد الجميع "مبسوطين وسعيدين وضاحكين" بالفطرة.
يوم الجذبة
بتوثيق رسمي في قسم علم الاجتماع في جامعة دمشق، بحث طالب الدراسات العليا في التراث الشعبي، سليمان فرح، في هذه العادات، إذ تُعدّ حمص ثالث أكبر مدن سوريا من حيث عدد السكان، بعد دمشق وحلب، مشيراً إلى أن "تاريخ أي بلد بما يحتويه من تراث يحمل في طيّاته قصص الأسلاف، والأخلاق والعادات والمعتقدات الشعبية، وهي مجموعة أفكار اعتقادية موازية للدين، تقترب منه أو تبتعد عنه قليلاً".
تاريخ أي بلد بما يحتويه من تراث يحمل في طيّاته قصص الأسلاف، والأخلاق والعادات والمعتقدات الشعبية، وهي مجموعة أفكار اعتقادية موازية للدين
يقول فرح: "مدينة حمص هي إحدى المدن التي ارتبطت منذ مئات السنين بالنكتة وروح الدعابة ارتباطاً وثيقاً، فما أن تُذكر هذه المدينة حتى يُذكر ‘يوم الأربعاء’، أو ما يسمّيه بعضهم ‘يوم الجذبة الحمصية’، وهو يحتل مكانةً خاصةً في التراث الشفهي وفي الروايات الشعبية التي تجعل منه يوماً غير عادي ولكنه عيد هادئ بلا طقوس، فما أن يستقبل أبناء المدن الأخرى أو البلدان المجاورة لسوريا شخصاً "حمصياً"، حتى يبادروه بالسؤال عن آخر نكتة حمصية. والشائع في تفسير أسباب "التنكيت" على أهل مدينة حمص، أنهم يحتفلون كل يوم أربعاء بـ"عيد المجانين"، ويعود هذا التقليد إلى زمن الاجتياح المغولي لبلاد الشام ومحاولة تطويع البلاد بالحديد والنار، فكانت لنجاة أهل مدينة حمص من بطش تيمورلنك، بتصنّعهم الغباء وإشاعة أنّ مياه نهر العاصي تسبّب هذه الآفة، أكبر الأثر في وسمهم بتلك الصفة، بالرغم من أن هذه الرواية تحمل من الذكاء قدراً غير قليل".
بداية الجنون
يوثّق الباحث في رسالته الأكاديمية أنّ أولى الحكايات التي تُروى في هذا الشأن هي قصة تيمورلنك عندما اجتاح حلب واستباحها، فتداعى أهل حمص للتداول في هذا الخطر الداهم المقبل مع الجحافل التي أحرقت الأخضر واليابس، ليجدوا حلاً للمأزق كان في غاية الطرافة، إذ اتفقوا على استقبال التتر في صورة كاريكاتورية، فارتدوا أزياءً غريبة الشكل ومضحكةً، وراحوا يتفننون في الظهور بمظهر هزلي، فعلّقوا القباقيب على صدورهم كنياشين وحجبوا وجوههم بالغرابيل، واعتمروا الجرار المكسورة واضعين أقراطاً في آذانهم بأشكال مختلفة، وبدأوا يرقصون في استقبال الجيش بتهريج مفرط بالهزل والحركات البهلوانية.
يضيف: "فعل ذلك المشهد الهستيري فعله، ورسم علامات البسمة والدهشة على وجوه تيمورلنك ورجاله إذ بُهتوا بغرابة ما يشاهدونه، فسأل عنهم مستشاريه، وعرف أنه أمام أهل حمص، فقدّر أنّ وقته أثمن من أن يضيّعه مع هؤلاء المجانين، ونجا "الحماصنة" بقليل من الجنون المدّعى، وتجاوزوا بطش الغزاة بهذا المشهد الذي أتقنوا تمثيله ذات يوم أربعاء".