نوري الجراح يأخذ فتيانه الدمشقيين في نزهة بحثا عن مفتاح مدينة الشعر
الشاعر السوري نوري الجراح يواصل مشروعه الذي يشتبك مع الجغرافيا والتاريخ.
الخميس 2024/07/11
ShareWhatsAppTwitterFacebook
في متاهات المأساة السورية (لوحة للفنان سامر الصفدي)
ميلانو (إيطاليا) - “فتيان دمشقيون في نزهة” آخر المجموعات الشعرية للشاعر السوري نوري الجراح، فيها يواصل مشروعه الذي يشتبك مع الجغرافيا والتاريخ والأساطير والملاحم، لا هدف له إلا إنقاذ الإنسان، حتى برثائه.
تشكل قصائد هذا الكتاب حلقة جديدة في مشروع نوري الجراح الشعري، فهي تأتي بعد أعمال تجاوزت بحضورها الشعرية العربية إلى حضور لافت في لغات أخرى، لاسيما الفرنسية والإيطالية اللتين كافأتا شعره بجائزتين من أبرز الجوائز الأدبية الأوروبية “ماكس جاكوب” في فرنسا 2023 و”بريموا نابولي” في إيطاليا 2023، فضلا عن الإنجليزية التي قدم فيها عملا ملحميا لا سابق له هو “الأفعوان الحجري” مزج فيه بين التاريخي والأسطوري، في لغة حديثة أخاذة.
كتاب شعري ملحمي صارخ يحكي عن المكان (دمشق) في طور أفوله وعن الإنسان السوري حصرا في طور فنائه
في هذا العمل الجديد “فتيان دمشقيون في نزهة” كما في أعماله المتأخرة يعثر صاحب “قارب إلى ليسبوس” و”لا حرب في طروادة” على المفتاح السحري لمدينة الشعر. قصائده تجمع بين الملحمي والإنشادي، وبين الدرامي والحكائي، وبين الأسطوري والتاريخي، ما يجعل من شعره مسرحا للأصوات والوجوه والأقنعة، بلغة ثرية ومشرقة تختزن كثافة شعورية عالية، وتفيض بصور شعرية مبتكرة وتراكيب لغوية مدهشة، وإيقاعات رشيقة، لعلها تكون ذروة المنعطف الذي عرفته تجربة الشاعر في منجزه المتألق خلال العقد الأخير.
وكما ترى الناقدة المصرية ناهد رحيل فإن “الشعرية لدى الجراح هي في الأساس شعرية وجود، أو تأسيس للوجود بواسطة الشعر، متخذة عددا من المدارات جاءت باعتبارها تنويعات لهذا الوجود، سواء عن طريق عرض التجربة الشخصية والتخييل بالذات، أو استلهام الشخصيات التراثية والتقنع بها، أو توظيف المعطيات الدرامية التي من شأنها أن تعلي من حساسية القارئ تجاه تجربة الشاعر الذاتية، أو استثمار مفهوم الرحلة الملحمي الذي ناسب تجربة النزوح ليتقاطع الواقعي المعاصر مع الأسطوري الماضي”.
وترى أن رغم الاهتمام بالمكان كفضاء تتعين الذات داخله، فإن شعرية الجراح تتحدد كذلك في تقويض سلطة المكان بمعنى الانغلاق، حيث توجد حدود قصيدة الجراح على امتداد المكان السوري وجغرافية المتوسط، فهي لا تنمو خارجه رغم وجود الشاعر خارج المكان. ويلعب المنفى دورا رئيسا في تشكيل المكان الشعري لديه، فينفتح المكان في شعره على ثنائية الوطن والمنفى، مع غلبة أماكن الارتحال في نصوصه الشعرية بسبب حالة الشتات القسري وتعدد المنافي.
هنا، في هذا الكتاب، تشغل دمشق من القصيدة خفقة القلب وآخر ما تريد العين أن ترى، فهي المدينة المفقودة، المدينة المعلقة، كما لغة الشاعر، “بين أرض لا سماء لها، وسماء بلا زورق”، تسافر إليها المخيلة ولا تستدعيها من الذاكرة، فهي تتلألأ لعينيه على أرض المستقبل، عبر مسرى ينوس بين زرقة البحر وسراب الصحراء.
بحرقة تظهر حتى في علامات الترقيم، يبني الشاعر قصيدته ليظهر فيها أولئك الفتية الدمشقيين كشخوص ملاحم وأبطال تراجيديين لم ينفكوا يبحثون عن أسماء دمشق الكثيرة وعن القتلى أو الناجين تحت تلك الأسماء الحسنى، حتى إذا جاء “الغزاة” لن يجدوا أحدا في المدينة، في تصحيح هائل لقصيدة كافافي “في انتظار البرابرة” المشوبة بالتمييز، كما علق الشاعر.
ولكي يحيط القصيدة بالمناخ المعرفي المرافق لها، كان أن أضاف شروحات لبعض قصائده، لتكون – تلك الشروحات – قصائد أخرى زاخرة بالبعد الثقافي الذي يوضح حيثيات النص بحيثيات التاريخ.
مساحات لغوية للكتابة الشعرية
ليس من المجدي التساؤل إزاء استحضار التاريخ هنا وهناك: هل التاريخ أضفى على القصائد بعدا أسطوريا، أو أن القصيدة هي التي أضفت على التاريخ ذلك البعد؟ إذ، لا مسافة بينهما، فقد ردم الشاعر، باللغة وبالمعرفة وبالحرقة وبالدموع، أي مسافة محتملة.
ويبقى النشيد نمطا تعبيريا وظاهرة كتابية واضحة في تجربة الشاعر، ومثالا لتعدد الأصوات كذلك؛ وكأننا أمام بنيتين شعريتين لصوتين مختلفين: صوت الحدث وصوت المعلق على هذا الحدث، قد يحيل كل منهما المتلقي إلى زمنين مغايرين، فغالبا ما يكون زمن النشيد هو الزمن الحاضر، خلافا لزمن النص نفسه الذي يتحدد في الزمن الماضي.
وتتمتع النصوص الملحمية الرحلية بخاصية قدرتها على تمثل عصرها بشكل من الأشكال، وكذلك مطولات الجراح الملحمية، عامدا إلى ما يعرف باسم الملحمة الوهمية أو البطولة الزائفة، وهي شكل من أشكال نقض الأسلوب البطولي المميز للملاحم الكلاسيكية ونفي له، في إشارة إلى الطابع غير البطولي للعصر الحديث والسخرية من البطولة المستعادة نفسها في مواجهة المأساة.
إنه في النهاية كتاب ملحمي، صارخ، يحكي عن المكان في طور أفوله، وعن الإنسان، السوري حصرا، في طور فنائه.
أخيرا، صدر الكتاب في 112 صفحة من القطع الوسط عن منشورات المتوسط بميلانو، وجاء مصحوبا بتخطيطات رسمها الفنان السوري عاصم الباشا.
الشاعر السوري نوري الجراح يواصل مشروعه الذي يشتبك مع الجغرافيا والتاريخ.
الخميس 2024/07/11
ShareWhatsAppTwitterFacebook
في متاهات المأساة السورية (لوحة للفنان سامر الصفدي)
ميلانو (إيطاليا) - “فتيان دمشقيون في نزهة” آخر المجموعات الشعرية للشاعر السوري نوري الجراح، فيها يواصل مشروعه الذي يشتبك مع الجغرافيا والتاريخ والأساطير والملاحم، لا هدف له إلا إنقاذ الإنسان، حتى برثائه.
تشكل قصائد هذا الكتاب حلقة جديدة في مشروع نوري الجراح الشعري، فهي تأتي بعد أعمال تجاوزت بحضورها الشعرية العربية إلى حضور لافت في لغات أخرى، لاسيما الفرنسية والإيطالية اللتين كافأتا شعره بجائزتين من أبرز الجوائز الأدبية الأوروبية “ماكس جاكوب” في فرنسا 2023 و”بريموا نابولي” في إيطاليا 2023، فضلا عن الإنجليزية التي قدم فيها عملا ملحميا لا سابق له هو “الأفعوان الحجري” مزج فيه بين التاريخي والأسطوري، في لغة حديثة أخاذة.
كتاب شعري ملحمي صارخ يحكي عن المكان (دمشق) في طور أفوله وعن الإنسان السوري حصرا في طور فنائه
في هذا العمل الجديد “فتيان دمشقيون في نزهة” كما في أعماله المتأخرة يعثر صاحب “قارب إلى ليسبوس” و”لا حرب في طروادة” على المفتاح السحري لمدينة الشعر. قصائده تجمع بين الملحمي والإنشادي، وبين الدرامي والحكائي، وبين الأسطوري والتاريخي، ما يجعل من شعره مسرحا للأصوات والوجوه والأقنعة، بلغة ثرية ومشرقة تختزن كثافة شعورية عالية، وتفيض بصور شعرية مبتكرة وتراكيب لغوية مدهشة، وإيقاعات رشيقة، لعلها تكون ذروة المنعطف الذي عرفته تجربة الشاعر في منجزه المتألق خلال العقد الأخير.
وكما ترى الناقدة المصرية ناهد رحيل فإن “الشعرية لدى الجراح هي في الأساس شعرية وجود، أو تأسيس للوجود بواسطة الشعر، متخذة عددا من المدارات جاءت باعتبارها تنويعات لهذا الوجود، سواء عن طريق عرض التجربة الشخصية والتخييل بالذات، أو استلهام الشخصيات التراثية والتقنع بها، أو توظيف المعطيات الدرامية التي من شأنها أن تعلي من حساسية القارئ تجاه تجربة الشاعر الذاتية، أو استثمار مفهوم الرحلة الملحمي الذي ناسب تجربة النزوح ليتقاطع الواقعي المعاصر مع الأسطوري الماضي”.
وترى أن رغم الاهتمام بالمكان كفضاء تتعين الذات داخله، فإن شعرية الجراح تتحدد كذلك في تقويض سلطة المكان بمعنى الانغلاق، حيث توجد حدود قصيدة الجراح على امتداد المكان السوري وجغرافية المتوسط، فهي لا تنمو خارجه رغم وجود الشاعر خارج المكان. ويلعب المنفى دورا رئيسا في تشكيل المكان الشعري لديه، فينفتح المكان في شعره على ثنائية الوطن والمنفى، مع غلبة أماكن الارتحال في نصوصه الشعرية بسبب حالة الشتات القسري وتعدد المنافي.
هنا، في هذا الكتاب، تشغل دمشق من القصيدة خفقة القلب وآخر ما تريد العين أن ترى، فهي المدينة المفقودة، المدينة المعلقة، كما لغة الشاعر، “بين أرض لا سماء لها، وسماء بلا زورق”، تسافر إليها المخيلة ولا تستدعيها من الذاكرة، فهي تتلألأ لعينيه على أرض المستقبل، عبر مسرى ينوس بين زرقة البحر وسراب الصحراء.
بحرقة تظهر حتى في علامات الترقيم، يبني الشاعر قصيدته ليظهر فيها أولئك الفتية الدمشقيين كشخوص ملاحم وأبطال تراجيديين لم ينفكوا يبحثون عن أسماء دمشق الكثيرة وعن القتلى أو الناجين تحت تلك الأسماء الحسنى، حتى إذا جاء “الغزاة” لن يجدوا أحدا في المدينة، في تصحيح هائل لقصيدة كافافي “في انتظار البرابرة” المشوبة بالتمييز، كما علق الشاعر.
ولكي يحيط القصيدة بالمناخ المعرفي المرافق لها، كان أن أضاف شروحات لبعض قصائده، لتكون – تلك الشروحات – قصائد أخرى زاخرة بالبعد الثقافي الذي يوضح حيثيات النص بحيثيات التاريخ.
مساحات لغوية للكتابة الشعرية
ليس من المجدي التساؤل إزاء استحضار التاريخ هنا وهناك: هل التاريخ أضفى على القصائد بعدا أسطوريا، أو أن القصيدة هي التي أضفت على التاريخ ذلك البعد؟ إذ، لا مسافة بينهما، فقد ردم الشاعر، باللغة وبالمعرفة وبالحرقة وبالدموع، أي مسافة محتملة.
ويبقى النشيد نمطا تعبيريا وظاهرة كتابية واضحة في تجربة الشاعر، ومثالا لتعدد الأصوات كذلك؛ وكأننا أمام بنيتين شعريتين لصوتين مختلفين: صوت الحدث وصوت المعلق على هذا الحدث، قد يحيل كل منهما المتلقي إلى زمنين مغايرين، فغالبا ما يكون زمن النشيد هو الزمن الحاضر، خلافا لزمن النص نفسه الذي يتحدد في الزمن الماضي.
وتتمتع النصوص الملحمية الرحلية بخاصية قدرتها على تمثل عصرها بشكل من الأشكال، وكذلك مطولات الجراح الملحمية، عامدا إلى ما يعرف باسم الملحمة الوهمية أو البطولة الزائفة، وهي شكل من أشكال نقض الأسلوب البطولي المميز للملاحم الكلاسيكية ونفي له، في إشارة إلى الطابع غير البطولي للعصر الحديث والسخرية من البطولة المستعادة نفسها في مواجهة المأساة.
إنه في النهاية كتاب ملحمي، صارخ، يحكي عن المكان في طور أفوله، وعن الإنسان، السوري حصرا، في طور فنائه.
أخيرا، صدر الكتاب في 112 صفحة من القطع الوسط عن منشورات المتوسط بميلانو، وجاء مصحوبا بتخطيطات رسمها الفنان السوري عاصم الباشا.