طالب عبدالعزيز شاعر عراقي يتحرر من الشعر في علبة ألوان
"في مديح علبة الألوان" سفر نثري قريب من الشعر وبعيد عنه.
الخميس 2024/07/11
ShareWhatsAppTwitterFacebook
تجريب آخر للشعر (لوحة للفنان فؤاد حمدي)
يختار بعض الكتاب والشعراء أن يخرجوا من دائرة التصنيف الأجناسي، ما يمنحهم حرية الكتابة دون التزام صارم بحدود الشكل، وهي لعبة خطيرة تبدأ من غلاف الكتاب، بإسقاط نوع الكتاب (شعر، رواية، قصة، مقالات إلخ..) ومن هناك تعلم القارئ بأن ما سيخوضه تجربة أكثر تحررا، كما هو الشأن لمن يقرأ كتاب “في مديح علبة الألوان” للشاعر العراقي طالب عبدالعزيز.
في مديح الشاعر المُطل في علبة ألوانه، يتوجب مسك العصا من منتصفها بالضبط. فأي ميلان لها ينعكس ظله أو لا يستقيم. ومع هذه الملاحظة المحايدة وهذا التحفظ، تميل العصا أثناء القراءة يمينا وشمالا. هذا الميلان تتسبب به النثريات الشعرية الملونة للشاعر طالب عبدالعزيز في كتابه الشعري “في مديح علبة الألوان”.
يقترح عبدالعزيز في كتابه الأخير نصوصا “لا تقترح شكلا”. بل عبّأها في نظام لا يقر في شكل محدد، وترك اللغة تحفر في جذورها، لتكوّن شكلها المفاهيمي على وفق الطريقة التي كُتبت بها. لذلك فإن فرضية الكتاب اللا شكلية تتوخى إيجاد مساحات لغوية مضافة إلى الفضاء الشعري بالطريقة التعبيرية النثرية، التي يحاول فيها الشاعر التخلص من أعباء فنية وتوصيفية ترافق الشعر عادة، في حين أخذ هذا الكتاب مهمة أخرى في اقتراح الشكل النثري القابل للاتساع من دون تعريفات تضيف إليه مسحة أدبية، لكن قوامه الصورة الشعرية ولغتها على مدار النصوص. لهذا فهي تقتفي أثر الشعر من بعيد ومن قريب.
خارج الأشكال
بشكل مباشر الشاعر طالب عبدالعزيز وجد مناخ الكتابة تحت بند متحرر من التعريفات دون مفارقة الشعر
الاكتفاء بـ”نصوص” هو خروج على نظام التفعيلة العربية بالمعنى الوظيفي في أساسه، بمعنى كتابة توجِد نظامها الداخلي من بنيتها الفنية الحرة. تمتد وتتقلص حسب مناخاتها الوجودية في امتداد الجملة الشعرية بنثرها الشعري الفيّاض، مُشكّلة حاضنة لغوية وصورية لها، عندما تتوسع بإنارتها وهي تستقدم لغتها وصورها التي لا يتحكم الشكل الشعري بها، ولا يفرض صفته الداخلية على مثل هذه النصوص المعبأة باللغة والصور والتداعيات في خروجها عن نظام الكتابة المألوف شعريا، وفي حرية لغوية واسعة، مستندة على معطيات من يوميات الشاعر وبيئته، أو المحيط الثقافي العام الذي يؤلف تناصّات حياتية قابلة أو غير قابلة للحدوث الواقعي فيها.
نعتقد بشكل مباشر أن الشاعر طالب عبدالعزيز وجد مناخ الكتابة تحت بند متحرر من التعريفات، لكنه لا يريد أن يضيف هذا الكتاب إلى رصيده الشعري، بل تركه “نصوصا” عابرة إلى هدفها الحر. أي يقترح ضمنا بأن شكل الكتابة هو اللاشكل. وهذا هو شكل من أشكال الكتابة المعاصرة.
وربما أراد عبدالعزيزي أن يحيّد نصوصه في خانة لا شكلية قريبة وبعيدة عن الشعر، بتوجيه النصوص إلى بنية عائمة في بنائها الفني، هي بنية مفتوحة على شكل لا يتضامن مع الهوس اللغوي والاستطالات النثرية التي تتجمع في وعاء فني بحثا عن شكل لا يوجد، ولا يمكن أن يكون في خانة فنية وتراكمات وتوترات لغوية، تجمع الذاكرة منها الكثير لبيئة محددة المواصفات، لكنها منفتحة على تداعيات الشعر. وبالتالي فإن هذا التعويم ابتعد من حيث المبدأ عن تسمية الشعر، بدءاً من الهامش السفلي في الغلاف، وصولاً إلى أي تسمية مقترحة ومن ضمنها “النصوص” كخلاص من تبعية الشعر في تواتراته المكثفة.
ومع هذا فالشاعر لا يريد أن بتجاوز محنته الفنية كشاعر. ولا يريد لنصوص في هذا الكتاب أن تبتعد عن هذا التوصيف الشعري إلى حد ما، لهذا نجده يغامر نسبيا في تقديم تعريفات للشعر على وفق هذا التنميط الذي وجدناه فائضا في النسق النصوصي الذي ضمّه الكتاب.
طاقة شعرية عالية
الكتاب يأخذ مهمة أخرى في اقتراح الشكل النثري القابل للاتساع من دون تعريفات تضيف إليه مسحة أدبية
يعرّف عبدالعزيز الشعر بأنه ” تراب بكر”، وهذا لا يناسب النصوص اللاشكلية في توجهها النثري، الشعر “وقوف مُعار على طاولة بين رجل وامرأة”، وهذا لا يقدم للنصوص وجهة نظر فنية حاسمة. إنه “الندم المتحقق في اللقاء”، وفي هذا نمطية لاجتراحات مجازية. “ليس الشعر غرغرة بالكلمات” بساطة في توصيف عام. “صمت الطباشير على حافة اللوح الأسود”، سيكون في هذا المعنى تقابل الأضداد في اللونين الأسود والأبيض، ولا يفي بالغرض الفني كثيرا.
في هذه المختارات العشوائية لا نجد الشاعر يحتاج إلى تعريف شعري قد تجاوزه في نصوصه، للوصول إلى ثيمة شكلية تلائم اللا شكل النثري الذي احتشدت به فصول الكتاب، وهي تنفتح على اللغة واسترسالها بطاقة شعرية عالية، بما فيها من مميزات جمالية وخيالية. لهذا نقرأ أكثر من جملة شعرية تضمنها هذا السفْر النثري في علبته اللونية التي لا تريد أن تغادر موطن الشعر وجوهره، في النثر المتماهي معه.
إذا كانت “القصيدة تشق قلب الشاعر عن آخره” فنصوص الكتاب تضعنا أمام موحيات تنتهج الأسلوب الشعري وسيلة للبقاء النثري الصارم في شعريته الصحيحة. والاختيارات العشوائية التالية تدلل على أن الجوهر الشعري كامن بوضوح في هذه النثريات اللغوية، حتى ما بعد نصوصها التي نجدها على مدار صفحات الكتاب.
نذكر مما كتبه عبدالعزيز “سمّيتُ النهرَ منتصف الظمأ، تعثرتُ بطفل في صوتها، هدأتِ الشامةُ على ساقها لم تكن شجرةُ القيقب محشوةً بالشمس، كنت سأوقد المصباحَ لولا أنكِ أضأتِ فمي بقبلة، فملأتُ شعرها بأصابعي. انغلقوا في الثقوب، تصادفك البطولة في أذرع مبتورة، امتصّ كوبُ القهوة النورَ كله، سيأتي بائعُ الأحذية وأحدثكِ عن الرقص، نصغي للزمنِ القابع خلف الباب الموصد، أنا من مدينة ليس بين نسائها من تترك نافذتها مضاءة حتى الصباح فمن أين تأتي القصيدة؟”.
في مديح علبة الألوان إذن نصوص لا تقترح شكلا، وقد صدرت أخيرا سنة 2024 عن دار خطوط وظلال بعمان. أما طالب عبدالعزيز فقد ولد في البصرة عام 1953. يعد شاعرا من جيل الثمانينات المتقدمين. برز في قصيدة النثر على وجه التحديد. أصدر بعض المجموعات الشعرية: “تاريخ الأسى – 1994″ و”ما لا يفضحه السراج – 1999″ و”تاسوعاء” و”الخصيبي – 2012″ و”قبل خراب البصرة – 2012″.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
وارد بدر السالم
روائي عراقي