قال عنه العقاد: هذا الكلام لا يستطيعه ذوو الفكر … «إدريس جمَّاع» الشاعر السوداني المنسي
الخميس, 27-06-2024
| أنس تللو
… يظنُّ بعضُ الأشخاص أن كلَّ خروجٍ عن المألوف من قولٍ أو فعلٍ إنما هو مسٌّ من الجنون، لذلك فإنه كثيراً ما تختلطُ الأمور بين أولئك الذين أصابهم مرضٌ حقيقي عقلي أو نفسي وبين أولئك الذين ارتقت نفوسُهم وسمت عقولُهم إلى حدٍّ كبير ؛ فباتت تصرفاتُهم غريبةً عنا، وأصبح كلامُهم غيرَ مألوف، وما ذاكَ إلا لأنهم قد ارتقت عقولُهم إلى وعيٍ فريد أدى إلى تغيُّرِ نظرتِهم إلى الحياة، فباتوا يتعاملونَ معها بشكل منفرد.
(إدريس جمَّاع) ﺷﺎﻋﺮ ﺳﻮﺩﺍﻧﻲٌ ولد عام 1922 وتوفي عام 1980، درس في الكتَّاب وحفظ القرآن الكريم، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية ثم الإعدادية، ثم انتسب إلى كلية المعلمين ببخت الرضا عام 1946.
بعد ذلك أكمل دراسته في مصر عام 1947 والتحق بمعهد المعلمين بالزيتون، ثم درس في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة عام 1951 وحصل على الليسانس في اللغة العربية والدراسات الإسلامية، ونال الدبلوم عام 1952.
عمل معلماً بالمدارس الأولية 1942 – 1947، ثم عاد إلى السودان، ودرَّس في معهد التربية وفي المدارس الوسطى والثانوية عام 1956. توفي بمستشفى الخرطوم عن 58 عاماً.
هو متميز رغم قلة إنتاجه، لغتُهُ بديعةٌ وشعرُهُ غنائيٌ جميلٌ، وقد ألَّف ديوانه الوحيد (لحظات باقية)، وهو مليء بالخلجات الوجدانية، ترك في ديوانه خلجات وجدانية حزينة تنمُّ عن التأمل والعمق.
كانت حياته قاسية جداً ما صنع منه رجلاً كريم النفس رقيق المشاعر وشاعراً بالغ الحساسية.
وقد اشتدَّ به اليأسُ في أواخر حياته، فخارت قواه وتبدَّل كلامه، وغدا يتصرف على غير هدى، فقيل عنه أنه قد فقد عقله، وتمَّ إدخالُهُ إلى مصحٍّ عقلي، فلم يتحسن، فأراد ﺃﻫﻠﻪ ﺃﻥ ﻳﻌﺎﻟﺠﻮﻩ ﺑﺎﻟﺨﺎﺭﺝ، وتم اصطحابه من أجل السفر.
وحين (يُجن) المرء كما يقولون، تنهار أمامه كل الحواجز الاصطناعية التي فرضها المجتمع، وتُزال كل الحجب الاجتماعية التي كانت مفروضة عليه، فيغدو كلامه حراً مباشراً ؛ لا مجاملة فيه ولا محاباة، وتنطلق قريحتُه لا كالآخرين فيجمع بين جنونَي الفكر والعمل ويقدم ما يبهر الكبار من النقاد والأدباء.
ﻭحين سمع الأديب ﻋﺒﺎﺱ ﻣﺤﻤﻮﺩ ﺍﻟﻌﻘﺎﺩ هذه الأبيات ﺳﺄﻝ ﻋﻦ ﻗﺎﺋﻠﻬﺎ ﻓﻘﺎﻟﻮﺍ ﻟﻪ: ﺇﻧﻪ ﺍﻟﺸﺎﻋﺮ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻧﻲ (ﺇﺩﺭﻳﺲ ﺟﻤَّﺎﻉ) ﻭﻫﻮ ﺍﻵﻥ ﻓﻲ مشفى المجانين.
ﻗﺎﻝ: هذا ﻣﻜﺎﻧﻪ، ﻷﻥ هذا الكلام ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻪ ﺫﻭﻭ ﺍﻟﻔﻜﺮ.
وعندما ﺫﻫﺒﻮﺍ بإدريس ﺟﻤّﺎﻉ ﺇﻟﻰ ﻟﻨﺪﻥ للعلاج في لندن أعجب ﺑﻌﻴﻮﻥ ﻣﻤﺮﺿﺘﻪ وأطال النظر ﻓﻲ ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ، ﻓﺄﺧﺒﺮﺕ ﻣﺪﻳﺮ ﺍﻟﻤﺴﺘﺸﻔﻰ بذلك، فطلب المدير منها ﺃﻥ تلبس نظارة سوداء ففعلت، وعندما جاءته نظر ﺇﻟﻴﻬﺎ الشاعر ﺟﻤﺎَّﻉ، وتأمل عينيها من وراء النظارة، وأنشد يقول:
والسيف ﻓﻲ الغمد ﻻ ﺗُﺨﺷَﻰ بواترهُ
وسيف عينيك ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺎﻟﻴﻦ ﺑﺘّﺎرُ
بكت الممرضة حين تُرجم لها هذا البيت، وقد صُنِّفَ هذا البيت أبلغَ بيت شعر غزل في العصر الحديث.
كان الشاعر ﺇﺩﺭﻳﺲ ﺟﻤَّﺎﻉ يدرك أن الحياة ظلمته، ويشعرُ أن الشقاء أمرٌ مفروض عليه.
ما جعله يصف نفسه وحظه في شعر رقيق:
إن حظي كدقيقٍ
فوقَ شوكٍ نثروه
ثم قالوا لحفاةٍ
يومَ ريحٍ اجمعوه
عظُمَ الأمر عليهم
ثم قالوا اتركوه
إنَّ من أشقاهُ ربي
كيف أنتم تُسعدوه؟
فأيُّ جنونٍ هذا الذي يدفعُ بصاحبِهِ إلى هذا الإبداع المتميز الفريد؟
الخميس, 27-06-2024
| أنس تللو
… يظنُّ بعضُ الأشخاص أن كلَّ خروجٍ عن المألوف من قولٍ أو فعلٍ إنما هو مسٌّ من الجنون، لذلك فإنه كثيراً ما تختلطُ الأمور بين أولئك الذين أصابهم مرضٌ حقيقي عقلي أو نفسي وبين أولئك الذين ارتقت نفوسُهم وسمت عقولُهم إلى حدٍّ كبير ؛ فباتت تصرفاتُهم غريبةً عنا، وأصبح كلامُهم غيرَ مألوف، وما ذاكَ إلا لأنهم قد ارتقت عقولُهم إلى وعيٍ فريد أدى إلى تغيُّرِ نظرتِهم إلى الحياة، فباتوا يتعاملونَ معها بشكل منفرد.
(إدريس جمَّاع) ﺷﺎﻋﺮ ﺳﻮﺩﺍﻧﻲٌ ولد عام 1922 وتوفي عام 1980، درس في الكتَّاب وحفظ القرآن الكريم، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية ثم الإعدادية، ثم انتسب إلى كلية المعلمين ببخت الرضا عام 1946.
بعد ذلك أكمل دراسته في مصر عام 1947 والتحق بمعهد المعلمين بالزيتون، ثم درس في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة عام 1951 وحصل على الليسانس في اللغة العربية والدراسات الإسلامية، ونال الدبلوم عام 1952.
عمل معلماً بالمدارس الأولية 1942 – 1947، ثم عاد إلى السودان، ودرَّس في معهد التربية وفي المدارس الوسطى والثانوية عام 1956. توفي بمستشفى الخرطوم عن 58 عاماً.
هو متميز رغم قلة إنتاجه، لغتُهُ بديعةٌ وشعرُهُ غنائيٌ جميلٌ، وقد ألَّف ديوانه الوحيد (لحظات باقية)، وهو مليء بالخلجات الوجدانية، ترك في ديوانه خلجات وجدانية حزينة تنمُّ عن التأمل والعمق.
كانت حياته قاسية جداً ما صنع منه رجلاً كريم النفس رقيق المشاعر وشاعراً بالغ الحساسية.
وقد اشتدَّ به اليأسُ في أواخر حياته، فخارت قواه وتبدَّل كلامه، وغدا يتصرف على غير هدى، فقيل عنه أنه قد فقد عقله، وتمَّ إدخالُهُ إلى مصحٍّ عقلي، فلم يتحسن، فأراد ﺃﻫﻠﻪ ﺃﻥ ﻳﻌﺎﻟﺠﻮﻩ ﺑﺎﻟﺨﺎﺭﺝ، وتم اصطحابه من أجل السفر.
وحين (يُجن) المرء كما يقولون، تنهار أمامه كل الحواجز الاصطناعية التي فرضها المجتمع، وتُزال كل الحجب الاجتماعية التي كانت مفروضة عليه، فيغدو كلامه حراً مباشراً ؛ لا مجاملة فيه ولا محاباة، وتنطلق قريحتُه لا كالآخرين فيجمع بين جنونَي الفكر والعمل ويقدم ما يبهر الكبار من النقاد والأدباء.
ﻭحين سمع الأديب ﻋﺒﺎﺱ ﻣﺤﻤﻮﺩ ﺍﻟﻌﻘﺎﺩ هذه الأبيات ﺳﺄﻝ ﻋﻦ ﻗﺎﺋﻠﻬﺎ ﻓﻘﺎﻟﻮﺍ ﻟﻪ: ﺇﻧﻪ ﺍﻟﺸﺎﻋﺮ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻧﻲ (ﺇﺩﺭﻳﺲ ﺟﻤَّﺎﻉ) ﻭﻫﻮ ﺍﻵﻥ ﻓﻲ مشفى المجانين.
ﻗﺎﻝ: هذا ﻣﻜﺎﻧﻪ، ﻷﻥ هذا الكلام ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻪ ﺫﻭﻭ ﺍﻟﻔﻜﺮ.
وعندما ﺫﻫﺒﻮﺍ بإدريس ﺟﻤّﺎﻉ ﺇﻟﻰ ﻟﻨﺪﻥ للعلاج في لندن أعجب ﺑﻌﻴﻮﻥ ﻣﻤﺮﺿﺘﻪ وأطال النظر ﻓﻲ ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ، ﻓﺄﺧﺒﺮﺕ ﻣﺪﻳﺮ ﺍﻟﻤﺴﺘﺸﻔﻰ بذلك، فطلب المدير منها ﺃﻥ تلبس نظارة سوداء ففعلت، وعندما جاءته نظر ﺇﻟﻴﻬﺎ الشاعر ﺟﻤﺎَّﻉ، وتأمل عينيها من وراء النظارة، وأنشد يقول:
والسيف ﻓﻲ الغمد ﻻ ﺗُﺨﺷَﻰ بواترهُ
وسيف عينيك ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺎﻟﻴﻦ ﺑﺘّﺎرُ
بكت الممرضة حين تُرجم لها هذا البيت، وقد صُنِّفَ هذا البيت أبلغَ بيت شعر غزل في العصر الحديث.
كان الشاعر ﺇﺩﺭﻳﺲ ﺟﻤَّﺎﻉ يدرك أن الحياة ظلمته، ويشعرُ أن الشقاء أمرٌ مفروض عليه.
ما جعله يصف نفسه وحظه في شعر رقيق:
إن حظي كدقيقٍ
فوقَ شوكٍ نثروه
ثم قالوا لحفاةٍ
يومَ ريحٍ اجمعوه
عظُمَ الأمر عليهم
ثم قالوا اتركوه
إنَّ من أشقاهُ ربي
كيف أنتم تُسعدوه؟
فأيُّ جنونٍ هذا الذي يدفعُ بصاحبِهِ إلى هذا الإبداع المتميز الفريد؟