الكاتب الألباني إسماعيل كاداري يودع قراءه بعد أن خذله قلبه
كاتب خلد أساطير بلده وتاريخه صانعا من أحلامه روايات يهيم بها قراؤها.
كاتب أخلص لوطنه وأدبه
مثلت تجربة الروائي الألباني إسماعيل كاداري واحدة من أبرز التجارب الأدبية المعاصرة، وتأكيدا على أن إخلاص الكاتب لبيئته هو الطريق الأهم إلى العالمية، إذ أخلص لألبانيا وقضايا ناسها فتحققت له العالمية وصارت أعماله تقرأ في مجمل اللغات، وبوفاته يخسر الأدب الإنساني واحدا من أكثر الأسماء إثارة للإعجاب والجدل في الآن نفسه.
تيرانا - توفي عن عمر 88 عاما صباح الاثنين الكاتب الألباني إسماعيل كاداري، مؤلف عمل ضخم في ظل الحكم الشيوعي لأنور خوجة، على ما أفادت الدار الناشرة لأعماله وأحد مستشفيات العاصمة الألبانية تيرانا.
وأعلنت إدارة مستشفى تيرانا أن كاداري توفي إثر أزمة قلبية، موضحة أنه وصل إلى المستشفى “من دون أي علامات على أنه لا يزال على قد الحياة”، فحاول الأطباء إنعاش قلبه، لكنه توفي.
الكتابة بشجاعة
واستكشف إسماعيل كاداري أساطير بلده وتاريخه، لتفنيد آليات النهج الشمولي بوصفه شرا عالميا.
وحكم أنور خوجة لعقود ألبانيا في ظل نظام دكتاتوري يُعد من أكثر الأنظمة انغلاقا في العالم.
وكان الكاتب أفاد في إحدى مقابلاته الأخيرة في أكتوبر الفائت، بأن الجحيم الشيوعي، مثل أي جحيم آخر، خانق، لكن في الأدب، يتحول إلى قوة حياة، قوة تساعدك على البقاء والتغلب مرفوع الرأس على الدكتاتورية.
وقال كاداري متحدثا من منزله في تيرانا في وقت بدأت صحته تتدهور “أعطاني الأدب كل ما أملكه اليوم، وأضفى مغزى لحياتي، ومنحني الشجاعة لأقاوم، والسعادة، والأمل في التغلب على الصعاب”.
وكاداري شاعر وروائي ولد في مدينة جيروكاسترا بجنوب ألبانيا في سنة 1936، التحق بعد دراسته الثانوية بكلية الآداب في جامعة تيرانا، وتخرج فيها عام 1958، وحصل على منحة دراسية لمتابعة دراسته في معهد غوركي بالاتحاد السوفيتي، وانقطع عن الدراسة بعد الأزمة بين البلدين سنة 1960، وجسد هذه الأزمة في روايته “الوحش” بتخيله صورة العدو كحصان طروادة الجاثم خارج تيرانا ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض عليها. أول أعماله الأدبية كان بعنوان “مدينة بلا إعلانات”، وقد وضع مسودتها في موسكو، وحاول نشرها في وطنه لكن الرقابة منعت نشر حلقاتها في ظل الحكم الشيوعي.
إسماعيل كاداري يعد من أبرز الكتاب الذين استطاعوا أن يهبطوا بالحلم الإنساني من أفقه المثالي إلى دنيا الواقع
في مجمل كتاباته الشعرية والروائية استطاع أن يتحرر من المباشرة التي كانت مُسيطرة على عمله الأول الذي أعاد نشره في أوروبا عام 2001، وهو التطور الذي ظهر في روايته التي فتحت له آفاقا في الشهرة العالمية، وهي رواية “جنرال الجيش الميت” عام 1963، وتدور الرواية في فلك جنرال إيطالي موفد من قبل حكومته التي طُردت من ألبانيا للبحث عن رفات الجنود الإيطاليين الذين قتلوا إبان معارك التحرير، ومع أن الجنرال غير مُقتنع بالمهمة إلا أنه يذهب ويُلاقي حتفه على يد عجوز ألبانية ثأرا لولدها.
ثم تلت هذه روايته القصيرة “الوحش” التي استفاد فيها من واقعة حصان طروادة ليسقط الماضي على الحاضر، وهو ما وسعه في روايته “العرس” عام 1968، حيث أظهر التراث الألباني الأسطوري، وعكس من خلالها الأفكار التي يريد أن يؤجج بها العزيمة في نفوس الألبان، وإن كانت الرواية تناولت مرحلة التحول التي شهدتها ألبانيا، وما انتهت إليه من صراع دام، إضافة إلى رصده لواقع المرأة في ظل الإقطاع والرجعية.
وفي عام 1970 أصدر روايته “الحصن” أو “الحصار” حسب ترجمة محمد درويش والتي أظهر فيها بطولة الشعب الألباني في الدفاع عن حصن حاصره العثمانيون في القرن الخامس عشر، وقد تعددت التأويلات للمغزى الذي قصده كاداري من وراء هذه الرواية، في ظل حالة النزاع الأيديولوجي الألباني السوفيتي واجتياح السوفييت لتشيكوسلوفاكيا عام 1968، ومن ثم رأها الغرب على أنها تمثل إرادة ألبانيا التي تقاوم التحريفية السوفيتية.
نشر الحلم
آخر ما قاله الكاتب: أعطاني الأدب كل ما أملكه اليوم، وأضفى مغزى لحياتي، ومنحني الشجاعة والسعادة والأمل
لا يتوانى كاداري في كتاباته عن تقديم صورة ألبانيا وهي تعيش في عزلتيْن، الأولى في فترة الحكم العثماني، والثانية في فترة الحكم الشيوعي، ففي رواية “موظف قصر الأحلام” عام 1981، ينتقد النظام الاستبدادي، وهو ما يرجح أنه كان في رواية “الحصار” يرمي إلى الدولة العثمانية وليس إلى الاتحاد السوفيتي.
ثم في عام 1978 يصدر رواية “الباشويات الكبرى” وفيها يسلط الضوء على شخصية باشا تُركي الذي أراد أنْ يستقل عن السلطة العثمانية مُستعينا بالغرب لكن الدولة العثمانية دبرت له مؤامرة قطعوا فيها رأسه، وكذلك في عام 1979 أصدر رواية “لجنة الاحتفال” وهي تدور في ذات الفلك من انتقاداته للدولة العثمانية والتنديد بالسياسة التآمرية والدموية لمجمل حكمها، وقد تناول فيها واقعة تاريخية معروفة في التاريخ الألباني مفادها أن السلطة العثمانية ممثلة في السلطان محمود الثاني عمدت إلى تدبير مؤامرة هدفت إلى تصفية خمسمئة من صفوة الأعيان ذوي النزعة التحريرية والمناهضين للحكم العثماني، بدعوتهم إلى احتفال في مدينة “مناستير” وقضت عليهم جميعا.
نشر كاداري العديد من الأعمال الروائية المهمة ذات الصبغة التاريخية مثل “قصة مدينة الحجر” 1971، وفيها يتحدث عن نضال مدينته التي وُلد فيها جيروكاسترا خلال الحرب العالمية الثانية، ومقاومتها للقوات اليونانية والإيطالية والألمانية بقيادة الحزب الشيوعي، وفي عام 1973 عاد إلى الموضوع ذاته في رواية “خريف مدينة”، وإن كان يتحدث فيها عن تحرير مدينة تيرانا من قوات الاحتلال الألماني.
ومن الروايات التاريخية المهمة رواية “الجسر” عام 1978، وقد استلهم فيها حكاية شعبية ألبانية تحتم ضرورة التضحية برأس إنسان أو حيوان يُوضع في أساس البناء ليضمن له الاستمرار والخلود، وهو يرمز إلى مغزى سياسي، حيث يدعو قومه إلى تقديم التضحيات لبناء مستقبل راسخ لألبانيا. وبالمثل جاءت رواية “منْ أعاد دورنتين” عام 1979 معتمدا فيها على أسطورة ألبانية شعبية متداولة يُبعث فيها الأخ حيا ليدافع عن أخته المختطفة، فبعث الأخ بمثابة البعث للشعب الألباني المستسلم لمصيره كالموتى.
إسماعيل كاداري استكشف أساطير بلده وتاريخه، لتفنيد آليات النهج الشمولي بوصفه شرا عالميا
يميل كاداري في بعض رواياته إلى منحى أيديولوجي صرف يرتبط بعلاقته بالسلطة من جهة والحزب الشيوعي من جهة أخرى، ففي روايته “الشتاء الكبير”، تناول الخلاف الألباني السوفيتي في عام 1961، وانضمام ألبانيا إلى المعسكر الصيني الماوي، وقد مال في هذه الرواية إلى التوثيق باعتماده على محاضر الاجتماعات بين الوفدين الألباني والسوفيتي.
في عام 1990 انتابته نوبة صحوة، فهرب إلى فرنسا كلاجئ سياسي، وبدأت كتابته كأنها نوع من التطهر على خلفية انغماسه في السلطة وعلاقته بنظام الماوي الدكتاتوري، الذي حكم ألبانيا خلال النصف الأخير من القرن الماضي، وقربه من رئيس الوزاء أنور خوجا الذي عينه نائبا في البرلمان لمدة اثني عشر عاما، ورئاسته للمعهد الثقافي لصاحبته نجمة هودجا أرملة الدكتاتور إنفر هودجا، ومن ثم راح يتطهر من الأفكار السابقة بانتقاده للنظام ساعيا لمحو الصورة التي ترسخت عنه منذ رواية “الشتاء الكبير” التي نشرها عام 1977، وكانت تمجيدا للدكتاتور.
وجاءت روايته “الهرم” عام 1992، ليُعلن فيها القطيعة بينه وبين الحزب الشيوعي، مستوحيا حكاية رفض الفرعون المصري “كيوبس” دفنه في هرم كأسلافه، رمزا لرغبة أنور خوجا الزعيم الألباني الشيوعي في أن يدفن في هرم ضخم في قلب العاصمة تيرانا.
أما روايته “الظل” والتي كتبها في عام 2003 وقد قيل إنه كتبها سرا في فترة حكم أنور خوجا، فتتناول الصراع الصامت على السلطة بعد وفاة خوجا، مقارنا بين أحوال ألبانيا في حكمه وواقعها في القرون الوسطى، والأقرب أنه يريد بهذه الرواية أن يتبرأ تماما من النظام، في صورة البطل الذي أشار إلى أنه كان هو نفسه ضحية لهذا النظام الاشتراكي.
يعد إسماعيل كاداري من أبرز الكتاب الذين استطاعوا أن “يهبطوا بالحلم الإنساني من أفقه المثالي إلى دنيا الواقع ويزيلوا الحدود بين المتخيل والملموس والمثالي والواقعي، كما أنه استطاع أن يسرب أحلامه في سلاسة ويسر إلى القارئ في رواياته، مبتعدا عن المباشرة والأسلوب الوعظي أو حتى التوجيه” كما وصفه عبداللطيف الأرناؤوط في كتابه عن كاداري والذي تناول فيه مجمل أعماله النثرية والشعرية.
اللافت أن جميع رواياته تتحرك في مسار واحد رغم التعددية البادية في كافة الأشكال التي استعان بها سواء بالرجوع إلى التاريخ أو حتى الرجوع إلى التراث الأسطوري لدى الألبان أو الاستعانة بالأناشيد الشعبية، إلا أن المسار الجامع لهذه الأعمال هو ألبانيا التي قدمها في صورها المتعددة، في زخم تراثها الأسطوري وأناشيدها الشعبية، وفي مقاومتها للاستعمار والاستبداد بكافة أشكاله؛ استبداد الحُكم العثماني، واستبداد الاستعمار الألماني والإيطالي أثناء الحرب العالمية الثانية، وصولا إلى نضالها في مقاومة دكتاتورية الشيوعية وانحرافتها.
كاتب خلد أساطير بلده وتاريخه صانعا من أحلامه روايات يهيم بها قراؤها.
كاتب أخلص لوطنه وأدبه
مثلت تجربة الروائي الألباني إسماعيل كاداري واحدة من أبرز التجارب الأدبية المعاصرة، وتأكيدا على أن إخلاص الكاتب لبيئته هو الطريق الأهم إلى العالمية، إذ أخلص لألبانيا وقضايا ناسها فتحققت له العالمية وصارت أعماله تقرأ في مجمل اللغات، وبوفاته يخسر الأدب الإنساني واحدا من أكثر الأسماء إثارة للإعجاب والجدل في الآن نفسه.
تيرانا - توفي عن عمر 88 عاما صباح الاثنين الكاتب الألباني إسماعيل كاداري، مؤلف عمل ضخم في ظل الحكم الشيوعي لأنور خوجة، على ما أفادت الدار الناشرة لأعماله وأحد مستشفيات العاصمة الألبانية تيرانا.
وأعلنت إدارة مستشفى تيرانا أن كاداري توفي إثر أزمة قلبية، موضحة أنه وصل إلى المستشفى “من دون أي علامات على أنه لا يزال على قد الحياة”، فحاول الأطباء إنعاش قلبه، لكنه توفي.
الكتابة بشجاعة
واستكشف إسماعيل كاداري أساطير بلده وتاريخه، لتفنيد آليات النهج الشمولي بوصفه شرا عالميا.
وحكم أنور خوجة لعقود ألبانيا في ظل نظام دكتاتوري يُعد من أكثر الأنظمة انغلاقا في العالم.
وكان الكاتب أفاد في إحدى مقابلاته الأخيرة في أكتوبر الفائت، بأن الجحيم الشيوعي، مثل أي جحيم آخر، خانق، لكن في الأدب، يتحول إلى قوة حياة، قوة تساعدك على البقاء والتغلب مرفوع الرأس على الدكتاتورية.
وقال كاداري متحدثا من منزله في تيرانا في وقت بدأت صحته تتدهور “أعطاني الأدب كل ما أملكه اليوم، وأضفى مغزى لحياتي، ومنحني الشجاعة لأقاوم، والسعادة، والأمل في التغلب على الصعاب”.
وكاداري شاعر وروائي ولد في مدينة جيروكاسترا بجنوب ألبانيا في سنة 1936، التحق بعد دراسته الثانوية بكلية الآداب في جامعة تيرانا، وتخرج فيها عام 1958، وحصل على منحة دراسية لمتابعة دراسته في معهد غوركي بالاتحاد السوفيتي، وانقطع عن الدراسة بعد الأزمة بين البلدين سنة 1960، وجسد هذه الأزمة في روايته “الوحش” بتخيله صورة العدو كحصان طروادة الجاثم خارج تيرانا ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض عليها. أول أعماله الأدبية كان بعنوان “مدينة بلا إعلانات”، وقد وضع مسودتها في موسكو، وحاول نشرها في وطنه لكن الرقابة منعت نشر حلقاتها في ظل الحكم الشيوعي.
إسماعيل كاداري يعد من أبرز الكتاب الذين استطاعوا أن يهبطوا بالحلم الإنساني من أفقه المثالي إلى دنيا الواقع
في مجمل كتاباته الشعرية والروائية استطاع أن يتحرر من المباشرة التي كانت مُسيطرة على عمله الأول الذي أعاد نشره في أوروبا عام 2001، وهو التطور الذي ظهر في روايته التي فتحت له آفاقا في الشهرة العالمية، وهي رواية “جنرال الجيش الميت” عام 1963، وتدور الرواية في فلك جنرال إيطالي موفد من قبل حكومته التي طُردت من ألبانيا للبحث عن رفات الجنود الإيطاليين الذين قتلوا إبان معارك التحرير، ومع أن الجنرال غير مُقتنع بالمهمة إلا أنه يذهب ويُلاقي حتفه على يد عجوز ألبانية ثأرا لولدها.
ثم تلت هذه روايته القصيرة “الوحش” التي استفاد فيها من واقعة حصان طروادة ليسقط الماضي على الحاضر، وهو ما وسعه في روايته “العرس” عام 1968، حيث أظهر التراث الألباني الأسطوري، وعكس من خلالها الأفكار التي يريد أن يؤجج بها العزيمة في نفوس الألبان، وإن كانت الرواية تناولت مرحلة التحول التي شهدتها ألبانيا، وما انتهت إليه من صراع دام، إضافة إلى رصده لواقع المرأة في ظل الإقطاع والرجعية.
وفي عام 1970 أصدر روايته “الحصن” أو “الحصار” حسب ترجمة محمد درويش والتي أظهر فيها بطولة الشعب الألباني في الدفاع عن حصن حاصره العثمانيون في القرن الخامس عشر، وقد تعددت التأويلات للمغزى الذي قصده كاداري من وراء هذه الرواية، في ظل حالة النزاع الأيديولوجي الألباني السوفيتي واجتياح السوفييت لتشيكوسلوفاكيا عام 1968، ومن ثم رأها الغرب على أنها تمثل إرادة ألبانيا التي تقاوم التحريفية السوفيتية.
نشر الحلم
آخر ما قاله الكاتب: أعطاني الأدب كل ما أملكه اليوم، وأضفى مغزى لحياتي، ومنحني الشجاعة والسعادة والأمل
لا يتوانى كاداري في كتاباته عن تقديم صورة ألبانيا وهي تعيش في عزلتيْن، الأولى في فترة الحكم العثماني، والثانية في فترة الحكم الشيوعي، ففي رواية “موظف قصر الأحلام” عام 1981، ينتقد النظام الاستبدادي، وهو ما يرجح أنه كان في رواية “الحصار” يرمي إلى الدولة العثمانية وليس إلى الاتحاد السوفيتي.
ثم في عام 1978 يصدر رواية “الباشويات الكبرى” وفيها يسلط الضوء على شخصية باشا تُركي الذي أراد أنْ يستقل عن السلطة العثمانية مُستعينا بالغرب لكن الدولة العثمانية دبرت له مؤامرة قطعوا فيها رأسه، وكذلك في عام 1979 أصدر رواية “لجنة الاحتفال” وهي تدور في ذات الفلك من انتقاداته للدولة العثمانية والتنديد بالسياسة التآمرية والدموية لمجمل حكمها، وقد تناول فيها واقعة تاريخية معروفة في التاريخ الألباني مفادها أن السلطة العثمانية ممثلة في السلطان محمود الثاني عمدت إلى تدبير مؤامرة هدفت إلى تصفية خمسمئة من صفوة الأعيان ذوي النزعة التحريرية والمناهضين للحكم العثماني، بدعوتهم إلى احتفال في مدينة “مناستير” وقضت عليهم جميعا.
نشر كاداري العديد من الأعمال الروائية المهمة ذات الصبغة التاريخية مثل “قصة مدينة الحجر” 1971، وفيها يتحدث عن نضال مدينته التي وُلد فيها جيروكاسترا خلال الحرب العالمية الثانية، ومقاومتها للقوات اليونانية والإيطالية والألمانية بقيادة الحزب الشيوعي، وفي عام 1973 عاد إلى الموضوع ذاته في رواية “خريف مدينة”، وإن كان يتحدث فيها عن تحرير مدينة تيرانا من قوات الاحتلال الألماني.
ومن الروايات التاريخية المهمة رواية “الجسر” عام 1978، وقد استلهم فيها حكاية شعبية ألبانية تحتم ضرورة التضحية برأس إنسان أو حيوان يُوضع في أساس البناء ليضمن له الاستمرار والخلود، وهو يرمز إلى مغزى سياسي، حيث يدعو قومه إلى تقديم التضحيات لبناء مستقبل راسخ لألبانيا. وبالمثل جاءت رواية “منْ أعاد دورنتين” عام 1979 معتمدا فيها على أسطورة ألبانية شعبية متداولة يُبعث فيها الأخ حيا ليدافع عن أخته المختطفة، فبعث الأخ بمثابة البعث للشعب الألباني المستسلم لمصيره كالموتى.
إسماعيل كاداري استكشف أساطير بلده وتاريخه، لتفنيد آليات النهج الشمولي بوصفه شرا عالميا
يميل كاداري في بعض رواياته إلى منحى أيديولوجي صرف يرتبط بعلاقته بالسلطة من جهة والحزب الشيوعي من جهة أخرى، ففي روايته “الشتاء الكبير”، تناول الخلاف الألباني السوفيتي في عام 1961، وانضمام ألبانيا إلى المعسكر الصيني الماوي، وقد مال في هذه الرواية إلى التوثيق باعتماده على محاضر الاجتماعات بين الوفدين الألباني والسوفيتي.
في عام 1990 انتابته نوبة صحوة، فهرب إلى فرنسا كلاجئ سياسي، وبدأت كتابته كأنها نوع من التطهر على خلفية انغماسه في السلطة وعلاقته بنظام الماوي الدكتاتوري، الذي حكم ألبانيا خلال النصف الأخير من القرن الماضي، وقربه من رئيس الوزاء أنور خوجا الذي عينه نائبا في البرلمان لمدة اثني عشر عاما، ورئاسته للمعهد الثقافي لصاحبته نجمة هودجا أرملة الدكتاتور إنفر هودجا، ومن ثم راح يتطهر من الأفكار السابقة بانتقاده للنظام ساعيا لمحو الصورة التي ترسخت عنه منذ رواية “الشتاء الكبير” التي نشرها عام 1977، وكانت تمجيدا للدكتاتور.
وجاءت روايته “الهرم” عام 1992، ليُعلن فيها القطيعة بينه وبين الحزب الشيوعي، مستوحيا حكاية رفض الفرعون المصري “كيوبس” دفنه في هرم كأسلافه، رمزا لرغبة أنور خوجا الزعيم الألباني الشيوعي في أن يدفن في هرم ضخم في قلب العاصمة تيرانا.
أما روايته “الظل” والتي كتبها في عام 2003 وقد قيل إنه كتبها سرا في فترة حكم أنور خوجا، فتتناول الصراع الصامت على السلطة بعد وفاة خوجا، مقارنا بين أحوال ألبانيا في حكمه وواقعها في القرون الوسطى، والأقرب أنه يريد بهذه الرواية أن يتبرأ تماما من النظام، في صورة البطل الذي أشار إلى أنه كان هو نفسه ضحية لهذا النظام الاشتراكي.
يعد إسماعيل كاداري من أبرز الكتاب الذين استطاعوا أن “يهبطوا بالحلم الإنساني من أفقه المثالي إلى دنيا الواقع ويزيلوا الحدود بين المتخيل والملموس والمثالي والواقعي، كما أنه استطاع أن يسرب أحلامه في سلاسة ويسر إلى القارئ في رواياته، مبتعدا عن المباشرة والأسلوب الوعظي أو حتى التوجيه” كما وصفه عبداللطيف الأرناؤوط في كتابه عن كاداري والذي تناول فيه مجمل أعماله النثرية والشعرية.
اللافت أن جميع رواياته تتحرك في مسار واحد رغم التعددية البادية في كافة الأشكال التي استعان بها سواء بالرجوع إلى التاريخ أو حتى الرجوع إلى التراث الأسطوري لدى الألبان أو الاستعانة بالأناشيد الشعبية، إلا أن المسار الجامع لهذه الأعمال هو ألبانيا التي قدمها في صورها المتعددة، في زخم تراثها الأسطوري وأناشيدها الشعبية، وفي مقاومتها للاستعمار والاستبداد بكافة أشكاله؛ استبداد الحُكم العثماني، واستبداد الاستعمار الألماني والإيطالي أثناء الحرب العالمية الثانية، وصولا إلى نضالها في مقاومة دكتاتورية الشيوعية وانحرافتها.