حين تتستر الإيدلوجيا الثورية بقبعة راعي البقر!

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • حين تتستر الإيدلوجيا الثورية بقبعة راعي البقر!

    حين تتستر الإيدلوجيا الثورية بقبعة راعي البقر!

    يوسف أبو الفوز
    صدر للكاتب الروائي السوري، المبدع حنا مينا (1924- 2018)، الذي يعتبر كاتب الكفاح والتفاؤل الانسانيين، في بيروت، عن دار الآداب للنشر والتوزيع، عام 1978، كتاب بعنوان (ناظم حكمت: السجن ... المرأة.. الحياة ) ، يورد فيه حكاية طريفة عن الشاعر الشيوعي والثائر التركي المناضل ناظم حكمت (1902 - 1963)، الذي كرس شعره وحياته لأجل حب وطنه والناس ومبادئه الثورية، فعانى الكثير بسبب ذلك، فدخل مختلف السجون لمدة تتجاوز إثني عشر عاما وتعرض للنفي الطويل. يقول حنا مينا، ان ناظم حكمت كان يستغل كل مناسبة لعرض أفكاره الثورية وتمريرها، ليس فقط في شعره ومسرحياته، أيضا حين اشتغل مترجما لنصوص الأفلام الأجنبية التي يقوم بإدائها ممثلي الدبلجة الى اللغة التركية، فالأفلام عادة تكون أفلام رعاة بقر، بحبكات ثأر وانتقام ومغامرات ومطاردات، لكن القائمين على الرقابة، لاحظوا ان راعي البقر، بترجمات ناظم حكمت، عندما يسقط صاحبه عن حصانه يصيح به:
    ــ انهض، لا تتردد للمطالبة بحقك!
    أو حين ينشب شجار بين رعاة بقر في البار، يشجع أحدهم صاحبه بالقول:
    ـ العار للجبناء، لا تخف، اضرب وكافح الظلم والظالمين.
    وبعد شهور تم طرد ناظم حكمت من عمله، اذ لم تعد الأفلام التي يترجمها أفلام تسلية بقدر ما أصبحت بابا لتسريب عبارات ثورية وتحريضية، وكأنه يترجم أفلاما عن كومونة باريس.
    ما الذي ذكرني بذلك؟
    اعتدت عادة، لمعالجة الارق حين يداهمني كابوس ويجبرني على ترك النوم، ان اختار فيلما سينمائيا، من أفلام الحركة والمغامرات، اشاهد جزءا منه حتى يعادوني النعاس من الجديد. هكذا قبل أيام، اخترت فيلما، بعنوان (المحترفون) من كلاسيكيات أفلام رعاة البقر (الويسترن) من انتاج عام 1966، عثرت عليه على منصة نتفليكس، دفعني لاختياره وجود جمهرة من الأسماء الذهبية من نجوم الشاشة، الذين اغرمنا بأفلامهم أيام صبانا وأول شبابنا، إذ وجدتهم يشتركون في هذا الفيلم مرة واحدة.
    قصة الفيلم، مقتبسة عن رواية (بغل للمركيزا) تأليف فرانك أوروركي، نشرت عام 1964، ونشرت من جديد بعد صدور الفيلم ونجاحه بعنوان (المحترفون). تبدو حبكة القصة بسيطة. تدور احداث الفيلم حوالي عام 1917، على مقربة من الحدود الامريكية المكسيكية، في السنوات الأخيرة من الثورة المكسيكية، حين يلجأ غرانت (يلعب دوره رالف بيلامي) الرجل الغني وصاحب المزارع في تكساس، لاستئجار أربعة رجال مغامرين، خبراء في اختصاصاتهم، لأجل انقاذ زوجته ماريا (لعبت دورها الفاتنة كلوديا كاردينالي) المختطفة، من قبل الزعيم الثوري المكسيكي ئيسوس رازا (لعبه دوره جاك بلانس) الذي يطالب بفدية لاطلاق سراحها.ورغم ان بعض المحترفين الأربعة، له ماض ما مع الثائر رازا، قرروا تنفيذ المهمة أمام اغراء المكافأة المالية التي عرضت عليهم، ولهذا خاطروا بدخول الأراضي المكسيكية. اول الاربعة هو هنري "ريكو" فردان (الممثل لي مارفن) متخصص في الأسلحة، وثم بيل دولورث (الممثل بيرت لانكستر) خبير متفجرات، ومعه هانز إهرينجارد (الممثل روبرت رايان) خبير الخيول، وأيضا جيك شارب (الممثل وودي ستوردي) وهو مستكشف من هنود الأباتشي، ماهر في استخدام القوس والسهم. يتبين للمشاهد لاحقا ان فاردان ودولورث، سبق وقاتلا مع رازا تحت قيادة بانشو فيا (1878ـــ 1923) الثوري المكسيكي الشهير، الذي عرف بروبن هود المكسيك، رفيق القائد الاشهر إيمليانو زاباتا (1879ــ 1919)، وكلا البطلين ماتا اغتيالا على يد منافسيهم من الجنرالات الطامحين للسلطة وانقلبوا على مسار الثورة. يكشف لنا الفيلم ان (المحترفين) يكنون تقديرًا كبيرًا لرازا كمقاتل، لكنهم وكمحترفين مستأجرين، ليس لديهم تردد في تنفيذ المهمة لأجل قبض المكافأة المغرية.
    في الأراضي المكسيكية يشهد (المحترفون) هجوما لرازا ورجاله على قطار حكومي ويستولون عليه، فيتبعون القطار الى معسكر الثوار، ويقومون بمراقبته. يتسلل (المحترفون) الى معسكر الثوار ويشهدون ان ماريا على وشك ممارسة الجنس مع رازا برغبتها وبدون أي اكراه، فيفهمون انهم خدعوا بشكل ما، ومع ذلك يخطفونها بعد اشتباك سريع مع سكان المعسكر، وفيه يستعرضون مهاراتهم في الرمي والقفز واللكم وثم الهروب مع غنيمتهم نحو الأراضي الامريكية، الى وديان وجبال يحتمون بها من الثائر رازا ومجموعة من رجاله يطاردونهم لاستعادة ماريا، التي تكشف للمحترفين الاربعة بانه تم تزويجها بصفقة بيع بين ابيها والثري غرانت وانها تعشق رازا منذ طفولتها وانها هربت اليه لكونه حب حياتها وتريد العيش معه بإرادتها، وطلب الفدية كان حيلة للحصول على أموال لتمويل الثورة، فيقع (المحترفون) في حيرة، فهم لا ينقذون زوجة مختطفة، بل عشيقة هاربة من زوجها. في الوديان الوعرة، يشتبك (المحترفون) مع رازا ورجاله وينجحون في جرحه وأسره، والوصول به وماريا الى الحدود، عند نقطة اللقاء مع الزوج الثري الذي بدا مسرورا، وحاول قتل رازا فمنعوه بالقوة، بل وفي تحول دراماتيكي في موقفهم، وضعوا الثائر رازا الجريح في عربة مع ماريا وطلبوا منهما العودة الى المكسيك وفرطوا بالمكافأة، ثم تبعوهما عابرين الحدود الى المكسيك.
    التغير في موقف (المحترفون) جاءا تدريجيا، بعد حوارات جرت بينهم خلال اعتصامهم بصخور الوادي ومراقبتهم معسكر الثوار واستذكار علاقتهم مع رازا والثورة المكسيكية، وحديثهم عن معنى الثورة. لفت انتباهي عمق الحوارات التي تجري بين رعاة البقر المغامرون، فهي لا تتناسب مع فيلم مقدر له ان يكون فيلم حركة ومغامرات، نرى فيه لي مارفن الذي عودنا ان لا ينحني امام الرصاص المتطاير حوله، ونتحمس لقفزات برت لانكستر البهلوانية التي يجيدها، اذ كان لاعب سيرك قبل امتهانه التمثيل، ووجدت ان ناظم حكمت يطل ملوحا لي بين الحوارات، بل ويغمز بعينه، فطار النوم من عيني تماما:
    ــ ماتوا بشجاعة من اجل ما آمنوا به ...
    ــ الثورة؟
    ــ عندما يتوقف إطلاق النار ويدفن الموتى ويتولى السياسيون زمام الأمور كل ذلك سيؤدي الى شيء واحد ... قضية خاسرة.
    ــ اذن انت تريد الكمال او لا شيء.
    وفي مكان آخر:
    ــ ان الثورة مثل علاقة حب عظيمة في البداية تكون كالإلهة... قضية مقدسة، لكن كل علاقة حب لها عدو رهيب .
    ــ الزمن؟
    ــ فنراها كما هي، فتبدو الثورة لنا ليس كالإلهة، بل كالعاهرة، لم تكن ابدا نقية أو مقدسة أو كاملة.
    أو :
    ـ بدون حب ... بدون قضية، نحن لا شيء!
    أيضا:
    ــ نبقى بسبب ايماننا ونغادر بسبب زوال الوهم. نعود لأننا قد ضللنا ونموت لأننا ملتزمون.
    وكان عليّ للخلاص من الحيرة البحث عن اسم كاتب الفيلم ومخرجه لافهم وجود هذه الحوارات.
    وجدت ان كاتب السيناريو والمخرج والمنتج هو الأمريكي ريتشارد بروكس ( 1912 ـ1992 )، وبقليل من البحث تبين انه ابن لمهاجرين من اليهود الروس في عام 1908، وهو الابن الوحيد لوالديه، ولد في فيلادلفيا باسم روبن ساكس ودرس فيها وعمل في مطلع حياته صحفيا رياضيا، مستخدما اسم ريتشارد بروكس بشكل احترافي، ثم قام بتغيير أسمه بشكل قانوني في عام 1943. تدرج في مسيرته المهنية من روائي ناجح الى كاتب سيناريو ترشحت بعض أفلامه الى جائزة الاوسكار الى مخرج سينمائي يقف خلف الكاميرا ويختار موضوعات جريئة وصادمة للمجتمع الأمريكي مثل فيلمه (غابة السبورة) عام 1955، حيث تعرض الى جنوح الأطفال وقدم ممثلا جديدا اسود هو (سيدني بواتيه)، وتميز في طريقته الاخراجية حيث بدأه بأغنية وانهاه بأغنية من موسيقى الروك أند رول، فكان ان تصدر شباك التذاكر طويلا ورشح لجائزة الاوسكار. وهكذا اختارته مجلة (دفاتر السينما) الفرنسية لاعتباره واحدا من المخرجين المتمردين، إذ تميز بأسلوبه باقتباس أفلامه من الكتب الأكثر مبيعًا أو الروايات الكلاسيكية، هكذا اقتبس فيلمه (قطة على صفيح ساخن) عام 1958، عن مسرحية تينيسي ويليامز، المشحونة جنسيا لكنها انتقدت الأعراف الاجتماعية في المجتمع الرأسمالي وعرت موضوعات مثل الجشع والسطحية والكذب والانحلال والرغبة الجنسية والحرية والقمع ، جلب الفيلم اول ترشيح لبروكس لجائزة الاوسكار كمخرج، وأصبح ثالث أعلى الأفلام ربحًا في ذلك العام، وأطلق نجومية بول نيومان، الذي شارك في الفيلم الى جانب إليزابيث تايلور. في مسيرته السينمائية يعتبر بروكس واحدا من الكتاب والمخرجين في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، الذين صنعوا بعضًا من أفضل أفلامهم أثناء نضالهم من أجل التحرر من الرقابة على صناعة السينما، وسعى إلى الاستقلال محاولا تقديم رؤيته الخاصة على الشاشة. هكذا صنع العديد من الأفلام، التي حصل ستة منها على ترشيحات لجوائز الاوسكار، و25 ترشيحًا آخر لجوائز مختلفة خلال مسيرته السينمائية محققا نجاحا متميزا كمخرج ومنتج سينمائي مستقل. ويعتبر مسؤولا عن اكتشاف وإطلاق العديد من نجوم السينما، الذين ترشح أكثر من عشرة منهم لجوائز الاوسكار في أفلام من كتابته واخراجه، نالها ثلاثة منهم: شيرلي جونز، إد بيجلي وبيرت لانكستر.
    وتشير سيرته الذاتية الى انه خلال الحملة المكارثية (وصلنا الى مربط الفرس!) أواخر أربعينات ومطلع الخمسينات في القرن الماضي، وبالرغم ان بروكس لم يتم اتهامه رسميا بكونه شيوعي الا انه عاش ايامه منتظرا استهدافه بسبب أفكاره اليسارية التي يفتخر ويجاهر بها واسلوبه المتمرد في العمل، شأنه شأن العديد من أصدقائه وزملائه المقربين من الممثلين والمخرجين الذين ظهرت أسمائهم في القائمة السوداء، ولهذا فكر بترك أمريكا حاله كحال شارلي شابلن، والانتقال للعيش في بريطانيا.
    أذن ، لم يكن فيلم (المحترفون) بريئا، ومجرد فيلم مغامرات، لم يكن مجرد استعراض عضلات وامكانيات فردية لممثلين نجوم، بل نجد ان المخرج منح الكاميرا فرصة لعكس انفعالات الممثلين، من خلال لقطات قريبة لاقتناص لحظات إنسانية من الترقب والخوف والتحدي، ايضا منح الفيلم الكاميرا حرية لاستعراض قسوة الطبيعة بلقطات واسعة عريضة، تضعنا امام قسوة الصخور والمنحدرات جنبا الى جنب مع قسوة الانسان، وضعفه وخوفه من تقلبات الطبيعة ( مشهد العاصفة الرملية في الصحراء اثناء المطاردة) وهكذا لم تكن الحوارات التي حواها الفيلم الا فرصة ليقدم مخرج يساري متمرد مثل ريتشارد بروكس، ذو فكر مغاير، توصف طريقته بالعمل بانها تشيخوفيه في الغوص في النفس البشرية، فكرة عن العلاقات الإنسانية ودواخل النفس البشرية، لهذا لم يكن مستغربا ان فيلم ( المحترفون) نال ثلاثة ترشيحات في حفل توزيع جوائز الأوسكار عام 1967، لكاتب السيناريو والمخرج ريتشارد بروكس كأفضل مخرج وأفضل كتابة (سيناريو مقتبس) والمصور السينمائي (كونراد إل هول ) لأفضل تصوير سينمائي.

يعمل...
X