"المنسيون بين ماءين".. قصة بحر بلا ماء تملؤه الأساطير

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "المنسيون بين ماءين".. قصة بحر بلا ماء تملؤه الأساطير

    "المنسيون بين ماءين".. قصة بحر بلا ماء تملؤه الأساطير


    ليلى المطوع تقدم سردا تجريبيا يجمع بين الحقيقة والأسطورة والرمز.
    الاثنين 2024/07/01

    حكايات قبالة بحر يتآكل (لوحة للفنان أنور سونيا)

    العودة إلى التاريخ في الرواية ليست مجرد استعادة أحداث وسردها، بل استنطاق لها من خلال الخيال الذي قد يذهب حتى إلى الغرائبية والأساطير في مزج دقيق لها بالواقع لاكتشاف خفايا الزمن والأحداث، وهذا ما برعت في إرسائه الكاتبة البحرينية ليلى المطوع في روايتها الجديدة “المنسيون بين ماءين”.

    الكاتبة الروائية البحرينية ليلي المطوع كائن بحري بامتياز، عكفت سنوات طويلة على دراسة جزيرة البحرين، متتبعة سيرة الماء “المالح والعذب”، تلك السيرة التي شكلت هوية أهل الخليج وتحديدًا البحرينيين، وخلال رحلة تتبعها عادت إلى التاريخ والصيادين والفلاحين والنخلة حارسة الجزيرة وذاكرتها الفردية وحكايات الجدات في تشييد عالمها الروائي.

    وتأكد لها باليقين أن النوارس التي تقف على الأرصفة المقابلة هي أكثر وفاءً لبحر التهمته اليابسة في أزمنة الدفن والزحف الجائر للعمران الذي بدأ منذ عقود وحتى اليوم، لتفند في روايتها الجديدة “المنسيون بين ماءين”، خدعة عاشتها هي وكل أبناء وبنات جيلها، بأنهن يعشن على ظهر يابسة، وهي في الحقيقة بحر مدفون لبس عنوة جلد الأرض.
    جسر الذاكرة



    البحر يلعب دور البطولة في هذه الرواية وما بين الماءين المالح والعذب، وعوالم الجنيات اللاتي كن يخطفن الصيادين


    “المنسيون بين ماءين”، الصادرة عن دار رشم السعودية 2024 في 432 صفحة من القطع المتوسط، رواية ترصد علاقة البشر مع البحر وتفاصيل حياة سكان الجزر، وفي هذه الرواية تفوقت ليلى المطوع على نفسها بامتياز، وخرجت تصنع أساطيرها الخاصة بكتابات داخل الكتابة الرئيسة للعمل وحكايات وأصوات تتداخل فيها الأزمنة والأمكنة واللغات، حيث تبرع الكاتبة في الغوص بالقارئ في أعماق الماضي البعيد براعتها في الغوص في المياه بحثًا عن اللؤلؤ النقي، بحكايات ومرويات للذاكرة الجمعية، عن البحر المالح وتلال الرمال والجواجب المائية العذبة، وساحل البحر ونساء البحر وشعراء البحر، ثم تقفز بسرد واقعي يشابه لغة الحياة اليومية لأهل الجزر، لتسجل ببراعة اللحظة الراهنة في آخر عقدين من القرن الحالي، لحظة ردم البحر وتغول اليابسة وشراستها، وهي اللحظة التي تعبّر عن خبرة المؤلفة وذاكرتها الفردية.

    خصصت الكاتبة الذاكرة «الجمعية» لسرد التاريخ القديم للجزيرة واستخدمت «الراوي العليم»، والذاكرة الفردية هي لغة الحاضر التي نلمسها في فصول الرواية المتعلقة بـ«ناديا» وفيها وظفت ضمير المتكلم، وكأن ناديا هي المؤلفة ذاتها، التي تعرضت في طفولتها لـ”نوبة صرع”، وجعلتها وسيلة انتقال الذاكرة من الجدة نجوى إلى ناديا، فحين كانت المؤلفة تفيق في طفولتها من نوبة صرع، تبادر الجدة لغسل وجه حفيدتها بالماء البارد مع تمتمة المعوذتين والدعوات، وبهذا صارت الذاكرة جسرًا للانتقال بين الماضي والحاضر بين الجدة والحفيدة، بين نجوى وناديا، بين ماضي شخصيات أهل الجزر وحاضرهم.

    تفوقت المطوع على نفسها بامتياز من خلال تتبع سيرة الماء والغوص في البحر، ومعه غوص آخر في التاريخ والأساطير وحكايات الجدات المحفورة في الذاكرة والمحفوظة في الوجدان، لتصنع لنا أسطورتها التي تؤمن بها وتسوقها باعتبارها حقيقة واقعة ودستور للتعامل مع البحر واليابسة في البحرين، بل وفي عموم الرواية نصه “هذه حدود الماء فلا تقربوها”.

    تستخدم الكاتبة السرد بتكتيك تجريبي رائع يجمع بين الحقيقة والأسطورة والرمز، والتخييل والدهشة والتجريب لملء الفجوات في تشييد عوالم الذاكرة الجمعية لأهل الجُزر ما بين البحرين، ولهذا تجد مساحات واسعة من الحكايات والتخييل، لها تقاطعاتها وحضورها في كتب التاريخ والتراث والشعر والأدب الشعبي والموروث من أغان وأهازيج تم التعامل معها بتحكم كبير من المؤلفة.

    الكاتبة تتبع سيرة الماء وتغوص في عوالم البحر وفي التاريخ والأساطير وحكايات الجدات المحفورة في الذاكرة

    وتمزج بروعة كتابات الآشوريين والسومريين، واستدعاء لآيات من القرآن الكريم في سياق تتبع سيرة الماء وهوية أهل الجزر، ومدى الانتماء للماء أو اليابسة، فإذا كانت خليقة الإنسان من الماء والطين فهي تطرح في روايتها السؤال: هل نحن من أهل التراب أم من أهل الماء؟ فبحسب الرؤية الفلسفية، الإنسان نصفه ماء ونصفه تراب، وهنا استدعاء تورده المؤلفة للنص القرآني، وتواصل البناء عليه “فلينظر الإنسان ممّ خلق، خلق من ماء دافق”.

    الرواية اشتباك ذكي ومختلف بلغة سردية مميزة مع الأساطير وحكايات الجدات واستدعاء متزن للأغنيات والأهازيج الشائعة في الوجدان الشعبي وارتباطها بالبحر. “هو يا مال.. هو يا مال.. هو يا بيه”.

    وقد برزت عناية الكاتبة بالعودة إلى التاريخ ونصوص الحضارات الأشورية والسومرية، وحضارات الرافدين، لهذا ليس غريباً أن تعيد توظيف الحكاية لتصنع أسطورتها الخاصة، في سردية تستعيد جلجامش وعشتار للوجود، في وقت قدمت الشخصية المحورية سليمة التي ترغب في الإنجاب، لكنها من (مقاليت النساء)، أي السيدات اللاتي لا ينجبن أو لا يعيش لهن ولد.

    ولكي تتخلص من الحظ العاثر لا بد وأن تطأ دم الشريف وتقفز فوقه حتى تأخذ روحه وتبثها في مولودها الجديد، وهذا الشريف هو شاعر الجزيرة طرفة بن العبد (543 م- 569 م) الذي تستدعيه الكاتبة في الرواية بذكاء، لتقفز سليمة فوق جثته، شجعها على ذلك كما صرحت في حوار سابق، بحثها المضني في الشعر واللغة والتاريخ والفكر والأديان وعثورها على أبيات شعر لطرفة يقول فيها عن امرأة من «مقاليت النساء”:

    لا تلمني إنها من نسوة/ رقد الصيف مقاليت نزر/ كبنات المخر يمأدن كما/ أنبت الصيف عساليج الخضر/ فجعوني يوم زموا عيرهم/ برخيم الصوت ملثوم عطر.

    شيدت ليلى المطوع سرديها الطويلة الغرائبية الأسطورية بتتبع الماء، وبلسان الراوي العليم رددت “اتبعي الماء.. اتبعي الماء”، وكلما تقدمت السردية إلى الأمام ووصلت إلى البحر صدمت القراء بجديد مدهش، من اللحظة الراهنة، حيث الدفان الذي ابتلع البحر، وابتلع الصيادين ومراكب الصيد الشاردة والحكايات والذكريات. تقول في أجواء الرواية “كان البحر بجزر نفسه اعتماداً على القمر.. هنا البحر، ولكن لا ماء في المكان.. يخدعك البحر.. يلبس جلد الأرض، لعلك تعبر”.
    البحر بلا ماء




    يتصاعد السرد في بكائية ترسي البحر وماءه المتعسر حتى العيون العذبة و“الحواجب” آخذة في الانقراض.. وكلما عازتها قصة أو حكاية جانبية ضمن حكايات البحر، لجأت ليلى إلى تكنيك الكتابة داخل الكتابة والحكاية في قلب الحكايات عبر الإنصات لحكايات قدامى البحارة وصيادي اللؤلؤ، أو قصص وحكايات الجدات، حيث كانت كل القصص المخيفة بشأن البحر تنسج من خلال مخيلة الجدات، وفي المقابل استدعت المؤلفة شخصيات آلهة ومعابد وقرابين، كما قدمت شخصيات واقعية ترمز إلى الوعي الراهن بما كان وما يكون من مصير مشؤوم لاستمرار دفن البحر. فهنا الدكتور آدم يشرح باستفاضة الينابيع العذبة في قلب البحر، أحد أسباب نقاء اللؤلؤ، ومن الرواية نقرأ “هذه كانت بساتين النخيل قبل أن تجز وتقطع وتدفن تحت التراب”.

    بإحكام شديد مع بعض الإطالة قدمت الروائية شخصيات عملها، نادیا، مهنا، سليمة، والآلهة ناتشي، وإنانا “وإيا ناصر”، وعرضت بإبداع لطقوس المعابد والقرابين التي تلقى للبحر، ليحمي المواليد الجدد، كما ألقت ضوءاً جهراً على مقاليت النساء، تتخلل ذلك نصوص تراثية لم تكن عبئاً على السرد بل أوضحت مرامي الكاتبة وإن حدث نوع من التكرار.. ومن الرواية نقرأ “إننا نحن المنبعثين بين جزر ومد، ترعانا الآلهة، وتكشف الماء عن الحجر، كنبتة عشتها ليكون لنا مسكنا”، وتبلغ الرواية ذروة تعقيدها كلما كشفت الكاتبة بالأرقام إحداثيات العيون المائية التي تم التعدي عليها بالدفن، وتطلق رسائلها بنعومة كخرير الماء فتسأل “أين سيذهب السمك حين يُدفن البحر؟ دفنوا الماء العذب والمالح، وتعدوا على نعمة الرب”.


    الكاتبة الروائية البحرينية ليلي المطوع كائن بحري بامتياز، عكفت سنوات طويلة على دراسة جزيرة البحرين، متتبعة سيرة الماء “المالح والعذب”


    المكان والزمان في الرواية متلازمان، محدودان بحدود البحر الذي لبس جلد الأرض خاصة خلال العقدين الأخيرين، وقد أجادت الكاتبة في التنقل السلس بين اليابسة والبحر والطقوس والقرابين في المعابد وتأثير المعبد والآلهة والأسطورة على العمل والتأثير على شخصياته باستمرار، ولهذا يلعب البحر دور البطولة في هذه الرواية وما بين الماءين المالح والعذب، وعوالم الجنيات اللاتي كن يخطفن الصيادين؛ نبتت سرديات المنسيين من أهل جزيرة البحرين وهم: صياد فقد بحره، نوارس تبحث عن البحر وتقف على أرصفة ليابسة وهمية تحتها بحر مدفون، نخيل مات واقفًا، شجار عوائل وأسر على دفن عين مائية.

    تبدع الكاتبة في وصف طقوس وعادات وسمات أهل البحرين، مؤكدة أن الماء يعرف الماء.. وأن البحر هو الوحيد الذي يجمع ويفرّق الأسر والعائلات، وأن نداءات توب يا بحر توب لا تجدي فالبحر لا يتوب ودفنه لا يتوقف، حتى تتحول بطلة الرواية إلى نخلة في النهاية إمعاناً في الدهشة والإثارة والتشويق الذي سيطرت على السرد، نخلة فاقدة الذاكرة، تتحدث لغة النخلات، “ما تهمس به النخلات يجب ألا يقع في يد البشر”.

    الكاتبة التي أخذتها جدتها يومًا لإطعام جنيات البحر، والتي اعتادت الخروج لرصد حالات بحر يحتضر وكتابة قصص جزر لم يبق منها شيء يذكر، حاولت تتبع حدود الجزيرة، لتقف على كرم البحر في منح أهل البحرين يابسة جديدة مع التقدم العمراني بفعل تزايد السكان، هذا البحر كلما خلق لنفسه ساحلًا جديدًا التهمته اليابسة وبكل شراسة!

    قد تبدو الرواية صعبة التلقي على قارئ لا يعرف طبيعة جزيرة البحرين، كما تحتمل عدة قراءات وقد تخللتها من طقوس المعابد وقرابين الأهلة بعض الجرأة في الوصف والمفردات، وقد تشعر ببعض التكرار والإطالة، إلا أن هذا يعود إلى وعي الكاتبة بمصير البحر واليابسة معًا، معرفتها الدقيقة بالماءين المالح والعذب، إلى درجة تظن بالفعل أنها ابنة الماء أو ولدت فيه، حيث وظفت الكاتبة تقنية العودة إلى الماضي (الفلاش باك) بلغة الصورة والسينما، لتتتبع الحكاية من أولها، منذ أن جاء جلجامش إلى هذه الجزيرة بحثًا عن زهرة الخلود في البحر، حتى الزمن الحالي، حيث يُدفنُ الماءان (العذب والمالح)، وتُجرَّف الحقول، وتبقى نخلة واحدة، مدللة الجزيرة المقدسة، حارسة الماء والذاكرة الشاهد الأمين على الحكاية وكل الأساطير التي نسجت حولها.

    سبق أن صدر للكاتبة أول عمل روائي بعنوان “قلبي ليس للبيع”، وهي من مواليد المحرق في البحرين عام 1987، كما شاركت عام 2016 في ورشة البوكر “الجائزة العالمية للرواية العربية”.


    سمير محمود
    كاتب صحفي مصري
يعمل...
X