إقصاء مسرحية في تونس يدق ناقوس الخطر على حال الثقافة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • إقصاء مسرحية في تونس يدق ناقوس الخطر على حال الثقافة

    إقصاء مسرحية في تونس يدق ناقوس الخطر على حال الثقافة


    مشهد ثقافي عاجز يديره موظفون بعقليات قديمة من خلف مكاتبهم.
    السبت 2024/06/29
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    في تونس لا تهم جودة العمل الفني

    أثار عدم اختيار مسرحية “آخر البحر” لفاضل الجعايبي ضمن برمجة الدورة الثامنة والخمسين من مهرجان الحمامات الدولي، موجة انتقادات واسعة، وبعيدا عن هذا الجدل، فإنه يكشف لنا جانبا من طريقة العمل المختلة في المجال الثقافي في تونس، وهو ما يدعو إلى أكثر من وقفة ونقاش مفتوح.

    تونس - يعيش المشهد الثقافي التونسي اليوم حالة غير مسبوقة من العجز والجدل العقيم، رغم محاولات هنا وهناك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من قطاع حيوي أهملته الدولة، ولا أدل على ذلك من شغور منصب وزير الثقافة منذ مارس الماضي، علاوة على الميزانية المتدنية للوزارة.

    ومؤخرا اندلع جدل جديد أعتقد أنه بمثابة ناقوس خطر لما يمكن أن تنحدر إليه أوضاع القطاع الثقافي والمبدعين في تونس. فقد انتقد عدد من المسرحيين ومن بينهم المدير الجديد للمعهد العالي للفنون المسرحية الناقد والكاتب عبدالحليم المسعودي رفض مهرجان الحمامات الدولي إدراج مسرحية “آخر البحر” لفاضل الجعايبي ضمن برمجته هذه السنة بحجج أخلاقية.
    منظومة ثقافية بالية


    منظومة شللية تحكم الثقافة في تونس تعيش على امتصاص المال العام لمصالح ذاتية ولا تحمل مشاريع ثقافية

    بعيدا عن سبب رفض العمل إن كان حقا بسبب أخلاقي أو لأسباب ذاتية أخرى، فتبدو معايير اختيار العروض ضبابية، خاصة وأن عمل “آخر البحر” مسرحية مميزة لواحد من رواد المسرح التونسي، بينما تم قبول أعمال هاوية وأخرى أقل مستوى، وربما يأخذنا هذا إلى الحديث عن واقع مخفي يعيشه يوميا المبدعون الشباب.

    ولعل تبرير مدير مهرجان الحمامات الدولي نجيب الكسراوي سبب عدم اختيار مسرحية الجعايبي بأن المنتج المسرح الوطني تقدم بعملين واضطروا إلى اختيار عمل منهما تكريما للفنانة منى نورالدين، تبرير غاية في السطحية، ويعكس طريقة عمل المشرفين على الثقافة اليوم، إذ ليست جودة العمل هي المهمة بتاتا، ولا يعي المسيرون أن الإدارة مختلفة عن التقييم الفني.

    إذا كان فاضل الجعايبي وهو من هو في تاريخ المسرح التونسي والمشهد الثقافي منذ السبعينات وما له من جمهور وحظوة، قد تعرض لمثل هذه الممارسات الذاتية، والتي تختزن كما رهيبا من الكسل والانفعال البيروقراطي، فماذا عسانا نقول عن غيره من المبدعين والفنانين وخاصة الشباب، في مختلف المجالات سواء المسرح أو السينما أو التشكيل أو الأدب أو الموسيقى وغيرها؟

    يعاني المبدعون غير المكرسين (وحتى المكرسون أحيانا وهذه مفارقة) وخاصة من الشباب من منظومة ثقافية بالية تتحكم في المشهد الثقافي بعقليات لو نفتحها ستكون الصدمة، عقليات موظفين مكتبيين، أغلبهم لا علاقة له بالساحة الثقافية ولا خيال له ولا رهانات ولا غيره، المهم أن يبقى موظفا ويتدرج في صعود الرتب، هذا رئيس مصلحة وذاك مدير كذا وتلك مديرة كذا، هذا المهم، أما الرهان الثقافي فله مصيره.

    المبدعون أمام مجال ثقافي بلا معايير تقريبا، يصعّد من اسم ذاك ويقزم ذاك، كل ذاك حسب الأهواء والمصالح وفي أحسن الظروف حسب الذوق الفردي للمسؤول. كم من مبدع رُفض دعم عمله، ومن ثم وجده مقتبسا في عمل آخر؟ كم من مبدع وقع تجاهله إلى أن تلاشى في صخب الحياة والحاجة؟ كم من مبدع وقعت محاصرته حتى وهو يقاوم وينتج ما أمكنه من أعمال، بينما لا تلقى اهتماما؟ كم من عمل فني مرفوض لأسباب غير فنية وأغلبها إما ذاتي أو أخلاقي أو سياسي؟

    الأسئلة يمكنها أن تتناسل من بعضها البعض والإجابة هي الاكتفاء بالأسف، بينما لا حتمية في هذا الواقع الثقافي المختل، والذي فيه مكاسب يمكن البناء عليها مع ضرورة التغيير والإصلاح الآن وليس غدا.
    معاناة المبدعين


    إذا كان فاضل الجعايبي قد تعرض لمثل هذه الممارسات الذاتية فماذا عسانا نقول عن غيره من المبدعين

    في واقعنا الثقافي المختل يحتاج المبدع أو العامل في الشأن الثقافي إلى منظومة علاقات مصلحيّة قوية بالبيروقراطية التي تحكم الشأن الثقافي وتصعّد من شأن ذاك وتحط من ذاك، أو سيزول عن المشهد ويبعد ويُفرد “إفراد البعير المعبد” على قول طرفة بن العبد. إنها منظومة شللية تعيش على امتصاص المال العام لمصالح ذاتية ولا تحمل مشاريع ثقافية لبلد يزخر بطاقات كبيرة في كل المجالات.

    ما حدث للجعايبي إذن يحدث يوميا للمبدعين الآخرين، ولا نورد هذا من باب المقارنة أو المفاضلة، ولكن للفت الانتباه إلى ضرورة فتح نقاش جدي من أعلى هرم السلطة حول الوضع الثقافي في البلاد، فالثقافة كما أوردنا في مقال سابق ليست فقط المهرجانات الصيفية والفعاليات المناسباتية، إنها منظومة تقوم على ترسيخ قواعد صنعة ثقافية أولا، وثانيا على اعتبار الثقافة قوة ناعمة لتحقيق التنمية والأمن والمعرفة ولها أدوارها الكبيرة اجتماعيا وحتى سياسيا.

    لماذا وتونس اليوم مقبلة على بعث تعداد سكاني جديد لا يكون من بين المحاور التي تجب دراستها هو معرفة متطلبات الناس الثقافية؟ كما سبق للدولة أيضا أن أطلقت استشارات إلكترونية، ويمكن تكرار التجربة حول الثقافة، رفقة مجالات أخرى كالتعليم والصحة وغيرهما.

    ثقافة يقودها موظفون من مكاتبهم لن تكون لها فاعلية ولا أثر، بل العمل اليوم يجب أن يكون خارج التصورات المعتادة، وهو ما حاوله البعض وإن باحتشام، لكنهم يجابهون بشح الدعم من الدولة، ممثلة طبعا في وزارة الثقافة التي تواجه مشاكل مالية كبرى، زاد من تعقيدها غياب الإرادة والمبادرة وتقادم طرق وتشريعات العمل فيها، أو ماذا يعني جيش الموظفين الإداريين، يقدمون مردودا ضعيفا.

    إذا كانت إقالة الوزيرة السابقة تعود إلى ضعف أدائها، ألا تلتفت الحكومة إلى ما يحدث اليوم من أداء يثير الأسف في وزارة الثقافة، التي تبدو متروكة إلى الاضمحلال، في ظل واقع تخلت فيه الدولة عن دورها الكبير في الصحة والتعليم ولن تقف على الثقافة.

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    محمد ناصر المولهي
    كاتب تونسي
يعمل...
X