القصيدة أنثى رهن الحب دئماً
عبد الوهاب الشيخ في ديوانه «اسمها في الغيب زُلَيخا»
نُشر: 18:24-24 يونيو 2024 م ـ 18 ذو الحِجّة 1445 هـ
TT
ينفتح الشاعر عبد الوهاب الشيخ في ديوانه «اسمها في الغيب زُلَيخا» على الحب؛ فمنه يبدأ الفعل الشعري، وإليه ينتهي أيضاً. يطالعنا ذلك في العنوان نفسه عبر التناص التراثي الصريح مع قصة امرأة العزيز والنبي يوسف، وافتتانها به إلى حَدِّ مُراودته عن نفسه، وهي القصة التي أصبحت واحدة من أهم عناصر الميثولوجيا الدينية، وتم توظيفها في المسرح والفن والمرويّات السردية، كما يستهل الشاعر ديوانه بمقولة افتتاحية لنجيب محفوظ من «أصداء السيرة» يصف فيها محفوظ الحب بأنه تدريب للوصول، قائلاً: «ما الحب الأول إلا تدريب ينتفع به ذوو الحظ من الواصلين»، كما يختم الديوان بنص قصير بعنوان «معكِ الحب»، وهو نص مُشرب بنفَس صوفي، يَشِي بفكرة ذوبان العاشق في المعشوق.
صدر الديوان حديثاً عن دار «أروقة» بالقاهرة، ويضم عبر مائة صفحة مجموعةً من القصائد القصيرة الخاطفة، التي يغلب عليها مجاز حدس اللحظة، أو «المجاز اللحظوي»، إن صحّ التعبير، وهو مجاز مخاتل، يتطلّب مهارة في الالتقاط والتأمل والاختزال، والتكثيف اللغوي والدلالي، مع مراعاة المحافظة على سلاسة الصورة الشعرية وتضافرها بعفوية في نسيج الحالة وإيقاع المشهد، بحيث تصبح مرآةً كاشفة لما يدور داخل الذات الشعرية، وكيف ينعكس بدوره على الأشياء والعناصر والوجود.
من ناحية أخرى تَفتر وتنطفئ فاعلية هذا المجاز حين يصبح محض إنشاء، وخَبط عشواء، يتناثر في الهواء من دون أي نواظم، أو وشائج، تربط ما بين المرئي واللامرئي، الكامن في بنية الصورة الشعرية وأفق الرؤية، وما وراءها، وكذلك لغة النص الشعري، وما تفرضه من اعتداد بخصوصيتها الجمالية والأسلوبية؛ فاللغة الشعرية - برأيي - ستظل دائماً اقتراحاً جمالياً، مفتوحاً بحيوية على الكون وتحولاته المباغتة على شتى المستويات الثقافية والاجتماعية.
يعي الشاعر ذلك، فيتعامل مع القصيدة كأنثى رهن الحب دائماً، لا بأس أن تنفعل وتغضب وتتوتر، فالبحث عن الحب أصبح بمثابة الإمساك بطوق النجاة وسط أمواج هذا العالم المضطرب، المستعِر بنيران الحروب والكوارث والأوبئة.
ومن سمات هذا الوعي في بداهته الأولى اقتران الحب بالطيبة، فهو صِنوها النجيب، لا يعرف الشر، لكنه يعرف التسامح والمغفرة، حتى يظل مشهد الحياة محتملاً، وأكثر عدلاً وأماناً... من فوق عتبة هذه الطيبة يقدّم الشاعر نفسه للحب قائلاً:
«نعم!
أنا رجل طيب!
أحمل في عنقي نيرَ أجدادي
وأسير خفيفاً كنسمة ريح..
رجل طيب!!
لذا حين آمُره.. يطيعني الفراغ
فيمتلئَ بأصوات كثيرة،
تسلّيني
وتُسرِّي عني،
والحزنُ يسير
وبيني وبينه أميال
حرصاً على مشاعري
التي يشهد الجميع برقَّتها
حتى إنهم يرتبكون بشدةٍّ
عند السلام عليّ،
ويضغطون بخفّةٍ
على أصابعي،
لئلا تنكسر».
لا تكمن فاعلية هذا النص فنياً في تلقائيته وبساطته، إنما فيما يصنعه من التباس يصل إلى حد التناقض، فنحن أمام ذات تؤكد طيبتها وتعشقها، وفي الوقت نفسه تتعجّب منها، وفي محاولة للتخفُّف من ثقل هذه الطيبة تُموِّه على ذلك باستخدام علامات التعجب. لكن التناقض يكمن في عدم قدرة الذات على الامتلاء بنفسها وبالوجود من دون الامتلاء بالحب والانفتاح عليه جسداً وروحاً.
ورغم ذلك لا ترتبط جدلية الحب في الديوان بثنائية الروح والجسد، وما ينشأ بينهما من تعارضات عاطفية مُغوِية، إنما تضيف إليها ثنائية أخرى، تتمثّل في جدلية الحضور والغياب، التي توسِّع من فضاء هذا الحيز الوجداني الضيق، وتفتح له نوافذ إدراك ومعرفة جديدة، وهو ما يطالعنا، على نحو ما، في نص بعنوان «أهل الله»، حيث يتحول العشق إلى صرخة مجذوب لا يملك سوى الدوران في فلكه إلى ما لا نهاية:
«يا أهل الله
ساعِدوا روحي
كي ترى
أنا الموشوم بالمحبة
على قلبي وساعدي
أمام جمرة العشق الإلهية
وكل هذا الضياء الذي ينتفي
ليُفسح الطريق
أمام مُقلة زرقاء
وجبهة عابسة
هذا الفراغ المحيط بي
بعض غيابها..
هذا الفراغ
هو جرّة الندم الثقيلة
التي أحملها على كتفي
وأسير وحيداً بلا هدف
شريداً... دونما وجهة».
تطل أجواء من روح الشاعر الألماني غوته صاحب «آلام فيرتر»، و«فاوست» في بعض نصوص الديوان، وتظلّل العلامات والرموز، حيث ترتكز فاعلية الحب على إطلاق نوافذ الشعور، وإكسابها دائماً معنى الإرادة الحرة في التعامل مع الأشياء والعناصر، وهو ما نلاحظه في نصوص الفصلين الأول «بلا شك»، والثاني «ظلال دارسة»، فالذات الشاعرة تركز على حيوات الحياة في الخارج، على حركة الشعور في تعيُّنها المادي المباشر، من دون فواصل أو عُقَد زمنية سميكة، فالمهم شعرياً وعاطفياً أن تظل الذات مشدودةً أكثر لحركة المشهد؛ في المقهى، والشارع، وفي نظرات البشر المهادنة والعنيدة لتفاصيل الحياة، تحاول من خلالها الوصول إلى حكمةٍ ما أو لحظة خلاص تخصها... وهو ما نلاحظه في نص بعنوان «التعب كامل»:
«التعبُ كاملٌ
بما يكفي
لما نحن مَدِينون به
لطائر اليقظةِ...
السماوات أبعدُ
من رحم الأرض
والنجاة حِرْزٌ حريزٌ
بين ضفتَي نهر
أعبُره بمصباحي
ويَعبُر العالمُ خلفي
حاملاً مرآته الصدئة
التي لا تعكس إلا الأحلام».
لا تتسلَّل أجواء غوته مصادفة، أو من الباب الخلفي للنصوص، إنما تأتي من معرفة واسعة بالتراث الألماني؛ فالشاعر عبد الوهاب الشيخ يُتقن اللغة الألمانية، وصدرت له مجموعة من الترجمات المهمة لنماذج من هذا التراث، من أبرزها ديوان «جوته... مراثي روما»، و«نون النسوة الألمانية - مختارات شعرية»، ما يعني أننا إزاء حالة من الهضم والتمثّل، تتّسم بحيوية الاشتباك والبحث عن الخاص، ليس فقط بقوة المعرفة، إنما بقوة الأمل والحب معاً، فمن نافذتَيهما يخاطب الأنثى في نص بعنوان «الأمل»:
«هكذا
أنتِ أشبه بطائرٍ
حطَّ على عتبة حُلمه
قليل،
ليعاود الصعودَ
وفي منقاره قشّةٌ
قشّةٌ وحيدة
لعلها الأمل».
ثم ينوّع الخطاب بمسحة من الأرق والانتظار في «أناشيد الهاتف»، مستعيداً أجواء الغزلية الشعرية قائلاً:
«ساعات كاملة
بيننا الهاتف
وهمسُكِ مدائنُ متروكة لمديحي
أنا العاشق، أبسُط وجدي سجادةً
تحت قدمَيك الناعمتين
وأستحيل ناياً لا يكُفّ عن الأنين
بعيداً عنكِ ليس ثمة صباح
الشمس مُسدلة الجفون
وكل شيء ساكن
في انتظار بَوحك الدفيء..
ونظرتك المرهفة
لتستعيد الأشياء لمستها
ويستقيم الوقت
على نبضات قلبك الخفيضة..
أنبِئيني عن العشق، عن مائك في الطوايا
وحناياكِ المسكونة باللذة
انثُري الألم ربيعاً، وأعيدِيني لنقطة البدء
كي أشرَع في كتابة اسمي
على لوحة الدرس
وأنتِ أمامي حروف متناثرة
أجمعها بشفتي
ثم أبدأ نشيدي».
فهكذا، يتواتر الاحتفاء بالأنثى، والانفتاح على الحب، ويتّسم في الفصل الأخير من الديوان بنكهة حسية شيقة، حيث الأشياء في ملمسها الحي المباشر، ومجازها الممسوس بنثرِيّات الواقع ومفارقات الحياة، فيما يبدو البَوح وكأنه نشيد الذات ونشدانها الأعمق في الصعود لأعلى مراتب الحلم والوجود.
الأكثر قراءة
1أنواع الحدس الأربعة
2الندوي: 55 ألف مخطوطة عربية في متاحفنا غير محققة
3تجليات الحب العذري في حياة الجاهليين وأشعارهم
4الرواية وأسلوب «ما بعد اليفاعة»
5القصيدة أنثى رهن الحب دئماً