الأميرة الفارسية الغامضة التي ولدت أئمة الشيعة
محمد يسري
الاثنين 11 أبريل 2022 م
على النقيض مما يعتقده السواد الأعظم من المسلمين، فإن اعتناق الإيرانيين للمذهب الشيعي لم يحدث دفعة واحدة، ولم يقع في القرون الأولى، بل مر بمجموعة من المراحل التاريخية طويلة المدى، حتى تم واكتمل على يد الصفويين في القرن العاشر من الهجرة.
في هذا السياق، وكمحاولة لتقريب الفرس من التشيع، استدعى الصفويون إحدى القصص القديمة، وهي قصة شهربانو، الأميرة الفارسية الأسيرة التي تزوجها الحسين بن علي، فنفضوا ما عليها من غبار، وضخّموها بكل وسيلة ممكنة، ليصنعوا منها حلقة الوصل بين الأكاسرة وأئمة آل البيت.
جد عادل، وأب ضاع منه الملك، وأم لا نعرف عنها شيئاً: أسرة شهربانو في بلاد فارس
تذكر المصادر التاريخية أن شهربانو هي ابنة آخر الملوك الأكاسرة الذين حكموا بلاد فارس قبل الفتح الإسلامي، وأنها قد وقعت في أسر المسلمين عقب إحدى المعارك، لتُحمل بعدها إلى شبه الجزيرة العربية. بحسب المعروف، فإن جد شهربانو هو أنوشروان، وهو واحد من أعظم ملوك فارس على مر القرون، وقد وردت بعض الروايات والأخبار التي تؤكد على أن النبي قد مدحه إذ قال: "ولدت في زمن الملك العادل أنوشروان". أما والد شهربانو فهو يزدجرد الثالث بن شهريار بن شيرويه بن كسرى أبرويز أنوشروان، وقد اعتلى العرش الساساني في سن صغيرة، وتولت أخته الوصاية عليه حتى يبلغ سن الرشد. وفي عهده، تلقى الفرس الساسانيون الضربات الموجعة على يد الفيالق العربية، فتجرعوا كأس الهزيمة في معركة القادسية في السنة الخامسة عشر من الهجرة، ليفقدوا نفوذهم في العراق، أما في 21هـ، فقد ضاعت جميع أملاك يزدجرد الثالث بعدما هُزمت قواته في معركة نهاوند التي عُرفت باسم "فتح الفتوح"، ليضطر آخر أكاسرة الفرس للهرب من عاصمته في المدائن، ليهيم على وجهه متنقلًا من مدينة إلى أخرى، حتى قُتل في فترة خلافة عثمان بن عفان، ولم يكن قد بلغ الثلاثين من عمره بعد.
فيما يخص أم شهربانو، فلا تتحدث المصادر عنها على الإطلاق، وكذلك لم يرد الحديث عن الفترة المبكرة من حياة الأميرة الفارسية الأسيرة، ويغلب الظن أنها قد عاشت حياة كريمة مترفة، تليق بمقام أميرة من البيت الساساني العظيم.
الأمر الذي تجدر ملاحظته هنا، أنه وعلى الرغم من شهرة قصة هذه الأميرة الساسانية، فإن المصادر الإسلامية تضطرب اضطراباً عظيماً فيما يخص تسميتها، لدرجة أنها -أي تلك المصادر- قد ذكرتها بأربعة عشر اسماً، البعض منها فارسي يتماشى مع الفترة الأولى من حياتها المبكرة في بلاد فارس، كشهربانو، وشهربانويه، وجهان شاه، وشهرناز، وشاه زنان، وجهان بانو؛ والبعض الآخر عربي – كسلافة، وخولة، وسلامة، ومريم، وفاطمة، الأمر الذي يتسق مع التحول الدراماتيكي الذي مرت به الأميرة، عندما تركت وطنها الفارسي لتنتقل إلى بلاد العرب، كما يتفق مع العادة الشائعة الداعية لتغيير أسماء الموالي الأعاجم إلى أسماء عربية.
خطبها الرسول، وبشرتها الزهراء: زواج شهربانو من الحسين
يوجد خلاف كبير حول التوقيت الذي أُسرت فيه شهربانو، ويمكن أن نقول إن هناك ثلاثة آراء مشهورة عن تلك الحادثة. الرأي الأول يقول بأن الأميرة الفارسية قد وقعت في أسر المسلمين عقب انتصارهم على الفرس في موقعة نهاوند في 21هـ، وأنها قد أُرسلت إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في المدينة المنورة. أما الرأي الثاني، فهو ذلك الذي يذهب أصحابه إلى أن شهربانو قد وقعت في الأسر بعد أن تمكن عبد الله بن عامر بن كريز من فتح خرسان في حدود 30هـ، وأنه لما قُتل يزدجرد الثالث في تلك الفترة، فإن ابنته قد وقعت في يد المسلمين، فأُرسلت إلى الخليفة الثالث عثمان بن عفان في المدينة المنورة. الرأي الثالث يذهب أصحابه إلى أنه قد تم القبض على شهربانو في حدود 36هـ، وذلك على يد حريث بن جابر الحنفي، وأن حريثاً لما عرف هوية الأسيرة فإنه قد أرسل بها إلى الخليفة الرابع علي بن أبي طالب في عاصمة الخلافة بالكوفة.
رغم كل تلك الاختلافات، فإن أشهر الروايات التي قُدمت بخصوص تلك الحادثة، كانت تلك التي أوردها محمد بن يعقوب الكليني في كتابه "الكافي" والذي يُعدّ واحداً من بين أهم الكتب الحديثية عند الشيعة الإمامية الاثنا عشرية، وهي الرواية التي جاء فيها أنه "لما أقدمت بنت يزدجرد على عمر، أشرف لها عذارى المدينة وأشرق المسجد بضوئها لما دخلته، فلما نظر إليها عمر غطت وجهها وقالت: أف بيروج بادا هرمز، فقال عمر: أتشتمني هذه؟ وهم بها، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ليس ذلك لك، خيّرها رجلاً من المسلمين وأحسبها بفيئه، فخيرها فجاءت حتى وضعت يدها على رأس الحسين عليه السلام، فقال لها أمير المؤمنين: ما اسمك؟ فقالت: جهان شاه، فقال لها أمير المؤمنين عليه السلام: بل شهربانويه، ثم قال للحسين: يا أبا عبد الله لتلدن لك منها خير أهل الأرض، فولدت علي بن الحسين عليه السلام".
المصادر الشيعية حرصت على تفسير اختيار شهربانو للحسين بن علي تحديداً دوناً عن باقي المسلمين الموجودين في المسجد بشكل إعجازي، تفوح منه رائحة الإيمان في الغيبيات والخوارق، فعلى سبيل المثال يذكر محمد باقر المجلسي في كتابه "بحار الأنوار"، أن شهربانو قد رأت في منامها قبل أسرها، أن الرسول قد جاء خاطباً إياها لحفيده، وأنها في الليلة التالية قد رأت في منامها رؤيا جديدة، تصفها بقولها: "رأيت فاطمة بنت محمد قد أتتني وعرضت علي الإسلام فأسلمت، ثم قالت: إن الغلبة تكون للمسلمين، وإنك تصلين عن قريب إلى ابني الحسين، سالمة لا يصيبك بسوء أحد، قالت: وكان من الحال أني خرجت إلى المدينة ما مس يدي إنسان".
بعض المصادر نسبت لشهربانو بعض الأقوال التي تشي بحكمتها وبقربها من علي بن أبي طالب، ومن ذلك ما ذكره الشيخ المفيد في كتابه "الإرشاد إلى معرفة حجج الله على العباد"، أن علياً قد سألها ذات يوم عما قاله أبوها بعد أن تعرضت جيوشه للهزيمة والانكسار أمام المسلمين، فقالت: "حفظنا عنه أنه كان يقول: إذا غلب الله على أمر ذلّت المطامع دونه، وإذا انقضت المدة كان الحتف في الحيلة. فقال علي: "ما أحسن ما قال أبوك! تذل الأمور للمقادير حتى يكون الحتف في التدبير".
في سياق آخر، وردت بعض الأخبار التي تؤكد على أن شهربانو لم تقدم إلى المدينة منفردة، بل إنها أتت بصحبة أختين لها، وبحسب ما ذكره أبو القاسم الزمخشري في كتابه "ربيع الأبرار"، فإن محمد بن أبي بكر قد تزوج إحداهن، فولدت له ابنه القاسم. أما الأخت الثانية فقد تزوجت من عبد الله بن عمر بن الخطاب، فولدت له سالماً.
في سياق آخر، أكدت الكثير من الأخبار على أن علي زين العابدين كان معروفاً بأصوله الفارسية الكسروية التي منحتها له أمه، وأنه كان كثيراً ما يُمدح لذلك السبب، إذ كان يُقال له: "ابن الخيرتين: فخيرة الله من العرب هاشم، ومن العجم فارس"، كما أن أبا الأسود الدؤلي، قد أنشد فيه الشعر ذات يوم فقال: "وإن غلاماً بين كسرى وهاشم... لأكرم من نيطت عليه التمائم".
ماتت في نفاسها، أم انتحرت، أم هربت إلى إيران: النهاية المجهولة لشهربانو
على الرغم من أهمية شخصية شهربانو في المُتخيل الشيعي الإمامي، إلا أننا سنجد أن الاضطراب المتعلق بتفاصيل أسرها وبتوقيت زواجها من الحسين، قد استمر قائماً حتى اللحظات الأخيرة من حياتها.
المصادر الشيعية حملت الكثير من الآراء حول مصير الأميرة الفارسية الغامضة التي قُدر لها أن تتزوج من حفيد الرسول، أهم تلك الآراء وأكثرها شهرة، كانت تلك التي ذهب أصحابها إلى أن شهربانو قد توفيت أثناء وضعها لعلي بن الحسين في سنة 38هـ. من جهة أخرى، ظهرت بعض الروايات التي أكدت على أن الأميرة الفارسية قد ظلت حية حتى واقعة كربلاء في سنة 61هـ، وأنها قد حضرت المعركة، ورأت استشهاد زوجها وبنيه، وبعدها ذهبت إلى نهر الفرات، فألقت نفسها فيه وغرقت، وذلك بناءً على أمر مباشر قد تلقته من الحسين قُبيل مقتله، وذلك بحسب ما يذكر ابن شهر آشوب المازندراني في كتابه "مناقب آل أبي طالب".
أيضاً، ذكرت بعض المصادر، ومنها على سبيل المثال "إكسير العبادات في أسرار الشهادات" لآغا بن عابد الشيرواني الدربندي، أن الإمام الحسين قد تحدث مع شهربانو قُبيل سقوطه في المعركة، وأنه قد أمرها أن تركب جواده، وأن الجواد قد أنطلق بها إلى المشرق، ولم يقف إلا بعد أن وصلت إلى جبال الري، فنزلت وعاشت هناك بين أهل تلك المنطقة حتى توفيت، ودُفنت في إحدى البقاع الجبلية، ليُعرف هذا المكان باسم ضريح "بيبي شهربانو".
حلقة الوصل بين الأكاسرة وأئمة آل البيت: دور شهربانو في المُتخيل الشيعي- الفارسي
على الرغم من الهالة الضبابية التي تحيط بشخصيتها، أدّت شهربانو دوراً مركزياً في المُتخيل الشيعي الإمامي، باعتبارها حلقة الوصل التي تربط بين الأكاسرة الذين حكموا بلاد فارس لقرون متلاحقة من جهة، والأئمة المعصومين من آل البيت النبوي من جهة أخرى.
بحسب الكثير من الباحثين، ومنهم على سبيل المثال الباحث الإيراني علي شريعتي في كتابه "التشيع العلوي والتشيع الصفوي"، فإن شهربانو هي شخصية مُختلقة، وأن جميع الروايات التي ذكرتها، إنما كانت من وضع "أنصار الشعوبية الإيرانية، وأنهم أرادوا من ذلك إظهار أن علياً كان يساند الساسانيين ويدافع عنهم، وذلك في مقابل عمر الذي كان عدوهم وهزم جيوشهم".
هذه السردية المُتخيلة التي تعمل على الربط بين الفرس وغيرهم من الشعوب، عن طريق الزواج والمصاهرة، لم تكن جديدة، بل وردت في الكثير من القصص الشعبية التي راجت بين الإيرانيين على مر الزمان، ومن ذلك قصة زواج البطل الفارسي الأسطوري رستم من تهمينة ابنة سلطان التركمان، وقصة زواج الإسكندر المقدوني من إحدى بنات دارا الثالث، آخر ملوك الأسرة الأخمينية، وما روجت له ملحمة الشاهنامة للفردوسي من أن أصول السلطان التركي محمود الغزنوي إنما ترجع إلى ملوك الفرس القدامى.
فسر شريعتي تواتر تلك السردية في الثقافة الإيرانية "بأن صناع الأساطير لا يتورعون عن إلقاء النطفة التي تمثل جوهرهم العنصري ومظهر استمرار وجودهم القومي في رحم أعدائهم، حفاظاً على هذا الجوهر المقدس من الاندثار..."، بما يعني أن ظهور الروايات حول شهربانو كان بمثابة رد فارسي على الانتصار العسكري الذي حققه العرب في ميادين القتال، وإنه إذا كان العرب قد نجحوا في غزو بلاد فارس، فإن شهربانو -ممثلة الفرس- قد صارت الأم التي خرج من رحمها الإمام علي زين العابدين، ومن أتى من نسله من الأئمة المعصومين.
بحسب هذا الرأي، فإن روايات شهربانو ظهرت في القرون الأولى، ولكنها تضخمت بشكل كبير بالتزامن مع تأسيس الدولة الصفوية الشيعية في بلاد فارس في القرن العاشر الهجري، ذلك أن الصفويين الذين أرادوا أن يحولوا الفرس من المذهب السني للمذهب الشيعي، لم يجدوا خيراً من شخصية تلك الأميرة الفارسية، التي قُدر لها أن تصبح أم الإمام السجاد، لتقريب التشيع لعموم الإيرانيين. وما يؤيد ذلك الرأي أن أقدم أجزاء مرقد بيبي شهربانو الموجود في منطقة الري، إنما ترجع لفترة قيام الدولة الصفوية، ويرجح الكثير من الباحثين أن هذا المكان كان مزاراً قديماً مقدساً عند أتباع الديانة الزرادشتية، الأمر الذي يعني أن جزءاً من المقدسات الإيرانية المحلية القديمة المتمثلة في المقدسات الزرادشتية، قد ظلت قائمة بعد تحول الفرس إلى الإسلام الشيعي، وإن غيرت من شكلها الخارجي لتتوافق مع طبيعة المعتقد الجديد الطارئ على البلاد، وهو الملمح الذي نستطيع أن نلمسه في ثقافات الكثير من البلاد التي هزمها العرب في فترة التوسعات الكبرى، ومنها كل من مصر، والعراق، وبلاد الشام.
محمد يسري
الاثنين 11 أبريل 2022 م
على النقيض مما يعتقده السواد الأعظم من المسلمين، فإن اعتناق الإيرانيين للمذهب الشيعي لم يحدث دفعة واحدة، ولم يقع في القرون الأولى، بل مر بمجموعة من المراحل التاريخية طويلة المدى، حتى تم واكتمل على يد الصفويين في القرن العاشر من الهجرة.
في هذا السياق، وكمحاولة لتقريب الفرس من التشيع، استدعى الصفويون إحدى القصص القديمة، وهي قصة شهربانو، الأميرة الفارسية الأسيرة التي تزوجها الحسين بن علي، فنفضوا ما عليها من غبار، وضخّموها بكل وسيلة ممكنة، ليصنعوا منها حلقة الوصل بين الأكاسرة وأئمة آل البيت.
جد عادل، وأب ضاع منه الملك، وأم لا نعرف عنها شيئاً: أسرة شهربانو في بلاد فارس
تذكر المصادر التاريخية أن شهربانو هي ابنة آخر الملوك الأكاسرة الذين حكموا بلاد فارس قبل الفتح الإسلامي، وأنها قد وقعت في أسر المسلمين عقب إحدى المعارك، لتُحمل بعدها إلى شبه الجزيرة العربية. بحسب المعروف، فإن جد شهربانو هو أنوشروان، وهو واحد من أعظم ملوك فارس على مر القرون، وقد وردت بعض الروايات والأخبار التي تؤكد على أن النبي قد مدحه إذ قال: "ولدت في زمن الملك العادل أنوشروان". أما والد شهربانو فهو يزدجرد الثالث بن شهريار بن شيرويه بن كسرى أبرويز أنوشروان، وقد اعتلى العرش الساساني في سن صغيرة، وتولت أخته الوصاية عليه حتى يبلغ سن الرشد. وفي عهده، تلقى الفرس الساسانيون الضربات الموجعة على يد الفيالق العربية، فتجرعوا كأس الهزيمة في معركة القادسية في السنة الخامسة عشر من الهجرة، ليفقدوا نفوذهم في العراق، أما في 21هـ، فقد ضاعت جميع أملاك يزدجرد الثالث بعدما هُزمت قواته في معركة نهاوند التي عُرفت باسم "فتح الفتوح"، ليضطر آخر أكاسرة الفرس للهرب من عاصمته في المدائن، ليهيم على وجهه متنقلًا من مدينة إلى أخرى، حتى قُتل في فترة خلافة عثمان بن عفان، ولم يكن قد بلغ الثلاثين من عمره بعد.
فيما يخص أم شهربانو، فلا تتحدث المصادر عنها على الإطلاق، وكذلك لم يرد الحديث عن الفترة المبكرة من حياة الأميرة الفارسية الأسيرة، ويغلب الظن أنها قد عاشت حياة كريمة مترفة، تليق بمقام أميرة من البيت الساساني العظيم.
قصة الأميرة الفارسية الغامضة التي ولدت أئمة الشيعة وغدت حلقة الوصل بين الأكاسرة وآل البيت
الأمر الذي تجدر ملاحظته هنا، أنه وعلى الرغم من شهرة قصة هذه الأميرة الساسانية، فإن المصادر الإسلامية تضطرب اضطراباً عظيماً فيما يخص تسميتها، لدرجة أنها -أي تلك المصادر- قد ذكرتها بأربعة عشر اسماً، البعض منها فارسي يتماشى مع الفترة الأولى من حياتها المبكرة في بلاد فارس، كشهربانو، وشهربانويه، وجهان شاه، وشهرناز، وشاه زنان، وجهان بانو؛ والبعض الآخر عربي – كسلافة، وخولة، وسلامة، ومريم، وفاطمة، الأمر الذي يتسق مع التحول الدراماتيكي الذي مرت به الأميرة، عندما تركت وطنها الفارسي لتنتقل إلى بلاد العرب، كما يتفق مع العادة الشائعة الداعية لتغيير أسماء الموالي الأعاجم إلى أسماء عربية.
خطبها الرسول، وبشرتها الزهراء: زواج شهربانو من الحسين
يوجد خلاف كبير حول التوقيت الذي أُسرت فيه شهربانو، ويمكن أن نقول إن هناك ثلاثة آراء مشهورة عن تلك الحادثة. الرأي الأول يقول بأن الأميرة الفارسية قد وقعت في أسر المسلمين عقب انتصارهم على الفرس في موقعة نهاوند في 21هـ، وأنها قد أُرسلت إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في المدينة المنورة. أما الرأي الثاني، فهو ذلك الذي يذهب أصحابه إلى أن شهربانو قد وقعت في الأسر بعد أن تمكن عبد الله بن عامر بن كريز من فتح خرسان في حدود 30هـ، وأنه لما قُتل يزدجرد الثالث في تلك الفترة، فإن ابنته قد وقعت في يد المسلمين، فأُرسلت إلى الخليفة الثالث عثمان بن عفان في المدينة المنورة. الرأي الثالث يذهب أصحابه إلى أنه قد تم القبض على شهربانو في حدود 36هـ، وذلك على يد حريث بن جابر الحنفي، وأن حريثاً لما عرف هوية الأسيرة فإنه قد أرسل بها إلى الخليفة الرابع علي بن أبي طالب في عاصمة الخلافة بالكوفة.
رغم كل تلك الاختلافات، فإن أشهر الروايات التي قُدمت بخصوص تلك الحادثة، كانت تلك التي أوردها محمد بن يعقوب الكليني في كتابه "الكافي" والذي يُعدّ واحداً من بين أهم الكتب الحديثية عند الشيعة الإمامية الاثنا عشرية، وهي الرواية التي جاء فيها أنه "لما أقدمت بنت يزدجرد على عمر، أشرف لها عذارى المدينة وأشرق المسجد بضوئها لما دخلته، فلما نظر إليها عمر غطت وجهها وقالت: أف بيروج بادا هرمز، فقال عمر: أتشتمني هذه؟ وهم بها، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ليس ذلك لك، خيّرها رجلاً من المسلمين وأحسبها بفيئه، فخيرها فجاءت حتى وضعت يدها على رأس الحسين عليه السلام، فقال لها أمير المؤمنين: ما اسمك؟ فقالت: جهان شاه، فقال لها أمير المؤمنين عليه السلام: بل شهربانويه، ثم قال للحسين: يا أبا عبد الله لتلدن لك منها خير أهل الأرض، فولدت علي بن الحسين عليه السلام".
المصادر الشيعية حرصت على تفسير اختيار شهربانو للحسين بن علي تحديداً دوناً عن باقي المسلمين الموجودين في المسجد بشكل إعجازي، تفوح منه رائحة الإيمان في الغيبيات والخوارق، فعلى سبيل المثال يذكر محمد باقر المجلسي في كتابه "بحار الأنوار"، أن شهربانو قد رأت في منامها قبل أسرها، أن الرسول قد جاء خاطباً إياها لحفيده، وأنها في الليلة التالية قد رأت في منامها رؤيا جديدة، تصفها بقولها: "رأيت فاطمة بنت محمد قد أتتني وعرضت علي الإسلام فأسلمت، ثم قالت: إن الغلبة تكون للمسلمين، وإنك تصلين عن قريب إلى ابني الحسين، سالمة لا يصيبك بسوء أحد، قالت: وكان من الحال أني خرجت إلى المدينة ما مس يدي إنسان".
بعض المصادر نسبت لشهربانو بعض الأقوال التي تشي بحكمتها وبقربها من علي بن أبي طالب، ومن ذلك ما ذكره الشيخ المفيد في كتابه "الإرشاد إلى معرفة حجج الله على العباد"، أن علياً قد سألها ذات يوم عما قاله أبوها بعد أن تعرضت جيوشه للهزيمة والانكسار أمام المسلمين، فقالت: "حفظنا عنه أنه كان يقول: إذا غلب الله على أمر ذلّت المطامع دونه، وإذا انقضت المدة كان الحتف في الحيلة. فقال علي: "ما أحسن ما قال أبوك! تذل الأمور للمقادير حتى يكون الحتف في التدبير".
في سياق آخر، وردت بعض الأخبار التي تؤكد على أن شهربانو لم تقدم إلى المدينة منفردة، بل إنها أتت بصحبة أختين لها، وبحسب ما ذكره أبو القاسم الزمخشري في كتابه "ربيع الأبرار"، فإن محمد بن أبي بكر قد تزوج إحداهن، فولدت له ابنه القاسم. أما الأخت الثانية فقد تزوجت من عبد الله بن عمر بن الخطاب، فولدت له سالماً.
في سياق آخر، أكدت الكثير من الأخبار على أن علي زين العابدين كان معروفاً بأصوله الفارسية الكسروية التي منحتها له أمه، وأنه كان كثيراً ما يُمدح لذلك السبب، إذ كان يُقال له: "ابن الخيرتين: فخيرة الله من العرب هاشم، ومن العجم فارس"، كما أن أبا الأسود الدؤلي، قد أنشد فيه الشعر ذات يوم فقال: "وإن غلاماً بين كسرى وهاشم... لأكرم من نيطت عليه التمائم".
كان يُقال علي زين العابدين "ابن الخيرتين: فخيرة الله من العرب هاشم، ومن العجم فارس" و"إن غلاماً بين كسرى وهاشم/ لأكرم من نيطت عليه التمائم"... الأميرة الفارسية الغامضة التي ولدت أئمة الشيعة
ماتت في نفاسها، أم انتحرت، أم هربت إلى إيران: النهاية المجهولة لشهربانو
على الرغم من أهمية شخصية شهربانو في المُتخيل الشيعي الإمامي، إلا أننا سنجد أن الاضطراب المتعلق بتفاصيل أسرها وبتوقيت زواجها من الحسين، قد استمر قائماً حتى اللحظات الأخيرة من حياتها.
المصادر الشيعية حملت الكثير من الآراء حول مصير الأميرة الفارسية الغامضة التي قُدر لها أن تتزوج من حفيد الرسول، أهم تلك الآراء وأكثرها شهرة، كانت تلك التي ذهب أصحابها إلى أن شهربانو قد توفيت أثناء وضعها لعلي بن الحسين في سنة 38هـ. من جهة أخرى، ظهرت بعض الروايات التي أكدت على أن الأميرة الفارسية قد ظلت حية حتى واقعة كربلاء في سنة 61هـ، وأنها قد حضرت المعركة، ورأت استشهاد زوجها وبنيه، وبعدها ذهبت إلى نهر الفرات، فألقت نفسها فيه وغرقت، وذلك بناءً على أمر مباشر قد تلقته من الحسين قُبيل مقتله، وذلك بحسب ما يذكر ابن شهر آشوب المازندراني في كتابه "مناقب آل أبي طالب".
أيضاً، ذكرت بعض المصادر، ومنها على سبيل المثال "إكسير العبادات في أسرار الشهادات" لآغا بن عابد الشيرواني الدربندي، أن الإمام الحسين قد تحدث مع شهربانو قُبيل سقوطه في المعركة، وأنه قد أمرها أن تركب جواده، وأن الجواد قد أنطلق بها إلى المشرق، ولم يقف إلا بعد أن وصلت إلى جبال الري، فنزلت وعاشت هناك بين أهل تلك المنطقة حتى توفيت، ودُفنت في إحدى البقاع الجبلية، ليُعرف هذا المكان باسم ضريح "بيبي شهربانو".
حلقة الوصل بين الأكاسرة وأئمة آل البيت: دور شهربانو في المُتخيل الشيعي- الفارسي
على الرغم من الهالة الضبابية التي تحيط بشخصيتها، أدّت شهربانو دوراً مركزياً في المُتخيل الشيعي الإمامي، باعتبارها حلقة الوصل التي تربط بين الأكاسرة الذين حكموا بلاد فارس لقرون متلاحقة من جهة، والأئمة المعصومين من آل البيت النبوي من جهة أخرى.
على الرغم من الهالة الضبابية التي تحيط بشخصيتها، أدّت شهربانو دوراً مركزياً في المُتخيل الشيعي الإمامي، باعتبارها حلقة الوصل التي تربط بين الأكاسرة الذين حكموا بلاد فارس لقرون متلاحقة من جهة، والأئمة المعصومين من آل البيت النبوي من جهة أخرى.
الكثير من الباحثين رفضوا القول بتاريخية شخصية شهربانو، وعدّوها مجرد شخصية أسطورية مُتخيلة ليس أكثر، واستدلوا على ذلك بمجموعة من الأمور، أهمها الفارق الزمني الكبير بين توقيت زواجها من الحسين في 21هـ، وتوقيت ولادة ابنها علي زين العابدين في 38هـ.بحسب الكثير من الباحثين، ومنهم على سبيل المثال الباحث الإيراني علي شريعتي في كتابه "التشيع العلوي والتشيع الصفوي"، فإن شهربانو هي شخصية مُختلقة، وأن جميع الروايات التي ذكرتها، إنما كانت من وضع "أنصار الشعوبية الإيرانية، وأنهم أرادوا من ذلك إظهار أن علياً كان يساند الساسانيين ويدافع عنهم، وذلك في مقابل عمر الذي كان عدوهم وهزم جيوشهم".
هذه السردية المُتخيلة التي تعمل على الربط بين الفرس وغيرهم من الشعوب، عن طريق الزواج والمصاهرة، لم تكن جديدة، بل وردت في الكثير من القصص الشعبية التي راجت بين الإيرانيين على مر الزمان، ومن ذلك قصة زواج البطل الفارسي الأسطوري رستم من تهمينة ابنة سلطان التركمان، وقصة زواج الإسكندر المقدوني من إحدى بنات دارا الثالث، آخر ملوك الأسرة الأخمينية، وما روجت له ملحمة الشاهنامة للفردوسي من أن أصول السلطان التركي محمود الغزنوي إنما ترجع إلى ملوك الفرس القدامى.
شاعت بين الفرس السردية المُتخيلة التي تعمل على الربط بين الفرس وغيرهم من الشعوب ومنها قصة زواج شهربانو من الحسين، وزواج البطل الفارسي الأسطوري رستم من تهمينة ابنة سلطان التركمان، وقصة زواج الإسكندر المقدوني من إحدى بنات آخر ملوك الأسرة الأخمينية
فسر شريعتي تواتر تلك السردية في الثقافة الإيرانية "بأن صناع الأساطير لا يتورعون عن إلقاء النطفة التي تمثل جوهرهم العنصري ومظهر استمرار وجودهم القومي في رحم أعدائهم، حفاظاً على هذا الجوهر المقدس من الاندثار..."، بما يعني أن ظهور الروايات حول شهربانو كان بمثابة رد فارسي على الانتصار العسكري الذي حققه العرب في ميادين القتال، وإنه إذا كان العرب قد نجحوا في غزو بلاد فارس، فإن شهربانو -ممثلة الفرس- قد صارت الأم التي خرج من رحمها الإمام علي زين العابدين، ومن أتى من نسله من الأئمة المعصومين.
بحسب هذا الرأي، فإن روايات شهربانو ظهرت في القرون الأولى، ولكنها تضخمت بشكل كبير بالتزامن مع تأسيس الدولة الصفوية الشيعية في بلاد فارس في القرن العاشر الهجري، ذلك أن الصفويين الذين أرادوا أن يحولوا الفرس من المذهب السني للمذهب الشيعي، لم يجدوا خيراً من شخصية تلك الأميرة الفارسية، التي قُدر لها أن تصبح أم الإمام السجاد، لتقريب التشيع لعموم الإيرانيين. وما يؤيد ذلك الرأي أن أقدم أجزاء مرقد بيبي شهربانو الموجود في منطقة الري، إنما ترجع لفترة قيام الدولة الصفوية، ويرجح الكثير من الباحثين أن هذا المكان كان مزاراً قديماً مقدساً عند أتباع الديانة الزرادشتية، الأمر الذي يعني أن جزءاً من المقدسات الإيرانية المحلية القديمة المتمثلة في المقدسات الزرادشتية، قد ظلت قائمة بعد تحول الفرس إلى الإسلام الشيعي، وإن غيرت من شكلها الخارجي لتتوافق مع طبيعة المعتقد الجديد الطارئ على البلاد، وهو الملمح الذي نستطيع أن نلمسه في ثقافات الكثير من البلاد التي هزمها العرب في فترة التوسعات الكبرى، ومنها كل من مصر، والعراق، وبلاد الشام.