التاريخ
أمس الساعة ١٢:٢٠ ص ·
تاريخ الحروب الصليبية ... (129)
The History Of The Crusades
------------------------------------------------------------------
في ١٣ ديسمبر العام ١١٦٩م فشلت حملة التحالف الصليبي البيزنطي على دمياط و منيت بخسائر فادحة ؛ وانهزمت شر هزيمة أمام التحصينات و الإستعدادات القوية التي أعدها صلاح الدين و أمام تضحية وشجاعة المصريين .. و انسحب أمالريك (عموري الأول) إلى فلسطين بما بقي من قواته ؛ و اقلعت سفن قوات البيزنط بحرا إلى حيث أتت و غرق معظمها في البحر بعاصفة ..
وبقيت مشكلة مصر بلا حل بالنسبة للصليبيين فقد فشلوا عدة مرات في الإستيلاء عليها ؛ بينما الآن تمكن من حكمها صلاح الدين ؛ و باتوا لا يستطيعون مهاجمته فيها مرة أخرى بإمكانياتهم الذاتية .
وبقي امالريك متمسكا بسياسة العمل على محورين للإستعانة بكلا القوتين الخارجيتين : البيزنط وفرنج أوربا؛ لمواجهة نور الدين في الشام و محاولة الإستيلاء على مصر من جديد .
فاستمر أمالريك في تحالفه مع الإمبراطور البيزنطي مانويل وزاد من تودده إليه ؛ وبنفس الوقت ظل يناشد الغرب وطنه الأم لإرسال حملات صليبية جديدة من غرب أوربا ليتقوى بها .
ويمضي استيفن رنسيمان في سرده قائلا :
{ وفي ربیع ۱۱۷۱م قرر القيام بزيارة شخصية إلى القسطنطينية ؛ وتأخر سفره بسبب هجوم مفاجئ قام به صلاح الدين على حدوده الجنوبية .
ففي وقت مبكر من عام ۱۱۷۰م ظهر جيش مصري ضخم أمام الداروم ، وهي آخر قلعة فرنجية جنوبية على البحرالمتوسط ؛ وكانت دفاعاتها ضعيفة ، وبرغم عدم توفر آلات حصار لدي صلاح الدين فقد بدا سقوطها وشيكا ..
فسارع أمالريك ، ومعه البطريق وقطعة من أثر الصليب الحقيقي ، إلى عسقلان التي وصلها بوم ۱۸ ديسمبر ،وواصل مسيرته إلى قلعة فرسان المعبد في غزة ، حيت ترك مايلز (اوف بلانسی) لقيادتها إذ رافقه فرسان المعبد في مسيرته إلى الداروم .
وتمكن من اختراق الجيش المصرى ودخل الداروم ، وعلى الأثر رفع صلاح الدين الحصار وسار إلى غزة ؛ فاستولی على أسفل المدينة ، برغم ما أبداه مایلز من مقاومة عنيفة ، وقتل سكانها .
على أن القلعة كانت هائلة بحيث لم يغامر صلاح الدين مهاجمتها ، وبنفس الفجاءة التي جاء بها صلاح الدين ، اختفى مرة أخرى عائدا إلى الحدود المصرية .
ثم إنه(*صلاح الدين) أرسل أسطولا صغيرا إلى أعلى خليج العقبة واستولى على المخفر الفرنجى الأمامي المسمى أيلة الواقع على رأس الخليج ، وذلك في الأيام الأخيرة من السنة ۱۱۷۱م ..
غادر أمالريك عكا قاصدا القسطنطينية يوم ۱۰ مارس ١١٧١م، ومعه حاشية كبيرة تضم أسقف عكا و مارشال البلاط جيرار (اوف بوجی) . وكان سيد فرسان المعبد، فيليب(اوف میلی) قد استقال من منصبه ليسبق الملك كسفير .
وبعد الرسو في طرابلس ، واصل الملك ابحاره إلى الشمال . وفي جاليبولي قابله صهره وكانت الرياح المعاكسة قد اضطرته إلى الذهاب برا إلى هرقلة . ومن هناك ركب الملك البحر مرة اخری کی يدخل العاصمة من بوابة القصر في ميناء بو کوليون ، وهو شرف لا يناله سوى الملوك المتوجون. *هههه
واستقبل أمالريك استقبالا ملأه بهجة هو وحاشيته . وكان مانويل يستلطف الغربيين عموما ، وقد وجد أمالريك متعاطفا معه . وأظهر کرمه السخي المعتاد . وشاركت عائلته كلها - خاصة صهره - في الاحتفاء به . وأقيمت قداسات دينية واحتفالات لا نهاية لها ؛ واجرى استعراض راقص في هيبودروم ، ورحلة بحرية أعلى البسفور وأسفله .
وفي وسط البسفور ناقش الامبراطور والملك المستقبل . وعقدت معاهدة وتم التوقيع عليها ، لكن بنودها لم تسجل . ويبدو أن الملك أعترف فيها على نحو مبهم بسيادة الأمبراطور على المسيحيين الوطنيين (*يعني على الإمارات الصليبيية) ، وأن مانویل وعد بالمساعدة البحرية والمالية وقتما تتهيأ حملة اخرى للهجوم على مصر ، وأنه يتعين القيام بعمل مشترك ضد مليح الأرمینی .
......
(*مليح هذا الذي أسلم و ساعده نور الدين في الهجوم على كيليكيا) ذكر في الفقرة قبل السابقة(١٢٧)
......
والأرجح أن كانت هناك بنود بشأن الكنيسة اليونانية (*يقصد الأرثوذوكسية) في أنطاكية ، بل وربما في المملكة، التي تولى فيها مانويل بالفعل في عام ۱١٦۹م مسؤولية إعادة زخرفة كنيسة الميلاد في بيت لحم ، التي تحمل نقشا مكتوبا بالفسيفساء يشهد بأن الزخرفة أجراها إيفرايم بناء على أوامر الامبراطور . كما تولى مسؤولية اجراء الإصلاحات في كنيسة القبر المفلس .
وأيا ما كانت عليه تفاصيل المعاهدة ، فقد رضي الفرنج بزيارتهم الرضا کله ، وأعجبوا مضيفهم أيما إعجاب . وفی ۱۰ يونية أبحروا من القسطنطينية عائدين إلى بلدهم تحدوهم الآمال العراض للمستقبل. (*بلدهم ههههه)
وأما مناشدة الغرب إرسال حملة صليبية فكانت أقل نجاحا ؛ ذلك أن فريدريك رئيس أساقفة صور كان ما يزال يتجول تجوالا عقيما بين بلاطي فرنسا وانجلزا . وفي نهاية ۱۱۷۰م تقريبا كتب له آمالریک کی يوجه الدعوة إلى ستيفن (اوف شامباني)، کونت سانسير ، للحضور إلى فلسطين ليتزوج الأميرة سيبيلا.
كانت هناك مأساة حدثت في البيت الملكي عجلت بهذا الاقتراح . فقد أرسل ابن أمالريك - بالدوين - وهو الآن في التاسعة من عمره مع رفاق من سنه لتلقى التعليم لدي وليم رئيس شمامسة صور . وكان صبيا وسیما ذكيا ، ...
وفي يوم ما ، بينما كان التلاميذ يختبرون قوة التحمل لدى كل منهم بغرز أظافرهم في أذرع بعضهم البعض ، لاحظ معلمهم وليم أن الأمير هو فقط الذي لم يجفل قط ؛ فراح يراقبهم بعناية وسرعان ما تحقق من أن الولد عدیم الإحساس بالألم لأنه كان مجذوما .
كان ذلك من تصاريف الرب بسبب زواج سفاح القربي الذي اقدم عليه والداه ، آمالريك وأحنيس ؛ وكانت الحادثة نذیر شوم للمملكة . وحتى عندما يكبر بلدوين لن تتمكن الأسرة الحاكمة من الاستمرار من خلاله ، وربما تحمل الملكة اليونانية الشابة ابنا بعده ..
......
(*تزوج من ابنة كونت الرها جوسلين الثاني ثم طلقها، بسبب معارضة بطريرك القدس لوجود قرابة بين الملك وزوجته من الدرجة الرابعة تحرم زواجهما. خلّف من زوجته الأولى ابنة اسماها سيبيلا، وولدا هو بلدوين الرابع المجذوم )
......
على أنه في تلك الآونة، وتوخيا للسلامة ، رأت حكمة أمالريك أن تتزوج ابنته الكبرى سيبيللا من أمير غربی محنك ثرى يستطيع التصرف وقت الضرورة كوصي أو حتى كملك .
وقبل ستيفن الدعوة وهبط شاطئ فلسطين في صيف ۱۱۷۱م مع صحبة من الفرسان ، وكان ذلك قبل وصول أمالريك من القسطنطينية بأيام قلائل .
غير أنه لم يرض عن مظهر فلسطين وقطع فجأة مفاوضات الزواج بطريقة فنية ، وبعد تأدية النذر في الأماكن المقدسة رحل مع صحبنه إلى الشمال منتويا زيارة القسطنطينية وأثناء عبوره كيليكيا ترصده مليح الأرمینی وسلبه كل ما كان معه .. هههههه
وفي العام التالي جاء إلى فلسطين زائر أكثر أهمية ، هو هنرى الأسد، دوق ساکسونیا و بافاريا ، وحفيد الامبراطور لوثر ، وزوج ابنة هنري الثاني ملك انجلترا ؛ غير أنه رفض هو الآخر أن يحارب من أجل الصليب قائلا إنه جاء كمجرد حاج ،
ورحل إلى المانيا بأسرع ما يمكن .
------------------
تسببت لا مبالاة الغرب في خيبة أمل مريرة ؛ على أنه ربما لم تكن هناك ضرورة عاجلة لتسيير حملة ضد مصر ، إذ بدا أن علاقات صلاح الدين بنور الدين وصلت إلى نقطة القطع . ففي عام ۱۱۷۱م كان نور الدين قد وضع حامية خاصة به في الموصل ، حيث يحكم ابن اخيه سيف الدين ، وكان قد ضم نصيبين ووادي نهر الخابور إلى نطاق سلطته ، ومنح سنجار لإبن أخيه المفضل لديه عماد الدين .
وبنوازع التقي لنصرة الإسلام الأصولى ، كتب نور الدين إلى صلاح الدين طالبا الكف عن ذكر اسم الخليفة الفاطمي في المساجد المصرية واستبداله باسم الخليفة في بغداد . ولم يرغب صلاح الدين في الامتثال لهذا الطلب ؛...
إذ بعد قرنين من الحكم الفاطمي بات النفوذ الشیعی قويا في مصر ، وفضلا عن ذلك ، ورغم أنه قد يعترف بنور الدين سيدا له ، فإن سلطته في مصر مستمدة من الخليفة الفاطمي .
فراح صلاح يراوغ ، إلى أن هدده نور الدين في أغسطس
بالحضور شخصيا إلى مصر .
........
(*هذا كلام مقارب للواقع ؛ ماعدا ادعاء حدوث الخلاف أو قطيعة بين صلاح ونور الدين و سنوضح الحقيقة من مصادرنا الإسلامية بعد هذه السطور المتبقية لستيفن )
........
وبعد أن اتخذ صلاح الدين احتياطات الشرطة ، أعد العدة للتغيير ؛ بيد أنه لم يجرؤ أحد على الإقدام على اول خطوة ، حتی اول يوم جمعة من السنة الإسلامية ٥٦٧ هجرية عندما خطا إلى المسجد برباطة جأش زائر سنی من الموصل واعتلى منبر الجامع الكبير ودعا للخليفة المستضئ . وحذت القاهرة كلها حذوه.
وكان الخليفة الفاطمي العاضد راقدا في القصر يحتضر ، ومنع صلاح الدين الخدم من إخطاره بالنبأ قائلا : "إن يبرأ من مرضه ، فسرعان ما سيعلم ، وإن يمت، فليمت في سلام" .
على أن الشاب البائس عندما طلب رؤية صلاح الدين قبل وفاته ببضع ساعات ، رفض طلبه خوفا من وجود مكيدة . وندم صلاح الدين على رفضه بعد فوات الأوان ، وكان لا يذكره الا بالخير . وهكذا هلكت الأسرة الحاكمة الفاطمية
بموت العاضد . وجمع شمل من تبقى من الأمراء والأميرات ، وأرسلوا حيث عاشوا حياة فاخرة ولكن دون أي اتصال بالعالم".
وبعد أيام قليلة انطلق صلاح الدين لمهاجمة قلعة الشوبك (إمارة الكرك الصليبية) جنوب البحر الميت ، وشدد الحصار حولها ؛ وخف أمالريك لإنقاذها ، لكنه رحل عن القدس متأخرا للغاية بسبب معلومات خاطئة .
وعندما كانت الحامية تهيأ للتسليم ، ظهر نور الدين فجأة على الطريق إلى الكرك ؛ وفي تلك اللحظة رفع صلاح الدین الحصار ، قائلا لنور الدين إنه مضطر إلى العودة إلى القاهرة بسبب حروب أخوته في مصر العليا، وبدا ذلك لنور الدین محض خيانة يتعين المعاقبة عليها بالقوة .
وعندما سمع صلاح الدين بغضبه شعر بالخطر واستدعی مجلسا من أفراد عائلته وقواده ، ونصحه الشباب من أفراد الأسرة بالتحدي ؛ غير أن أبا صلاح الدين ، نجم الدین أیوب المسن ، وقف وقال إنه هو نفسه مخلص لسيده وانتهر ابنه لطموحه، وعندما خلا به وبخه مرة أخرى على أن جعل طموحه بينا جليا . فأخذ صلاح الدين بنصيحته وأرسل باعتذاراته البائسة إلى نور الدين الذي قبلها إلى حين } (*1)
*بالطبع هذا كلام مخالف للحقيقة و سنتناوله ان شاء بالتفصيل في الفقرة القادمة (١٣٠)
-------------------------------------------------------------------
️عودة إلى مصادرنا الإسلامية : مع نور الدين ؛ و صلاح الدين ؛ و إلغاء الخلافة الفاطمية .
كان نور الدين حريصاً كل الحرص على إنهاء الخلافة الفاطمية و القضاء على آخر معقل للدولة العبيدية الشيعية بمصر .
فكتب إلى نائبه صلاح الدين يأمره بإقامة الخطبة للخليفة العباسي المستضيء بالله - فاعتذر صلاح الدين، بالخوف من قيام أهل مصر ضده لميلهم إلى الفاطميين وبأنه لم يتهيأ لذلك بعد، ....
إلا أن نورالدين أرسل إلى نائبه : يلزمه بذلك إلزاماً لا فسحة فيه.
وكان الخليفة العباسي قد أرسل إلى نور الدين يعاتبه في تأخير إقامة الدعوة له بمصر، فاستدعى أباه الملك العادل نجم الدين أيوب، وحمّله رسالة إلى ولده صلاح الدين بمصر .
جاء فيها :
"وهذا أمر تجب المبادرة إليه، لنحظى بهذه الفضيلة الجليلة والمنقبة النبيلة قبل هجوم الموت وحضور الفوت لاسيما وإمام الوقت - المستنجد - متطلع إلى ذلك بكليته وهو عنده من أهم أمنيته ".
وكان صلاح الدين متهيباً متردداً في إسقاط تلك الخلافة، حيث أن ميراث العبيديين في مصر، كان عمره أكثر من مائتي سنة !.
وكان نور الدين يعتبر أن فتح مصر نعمة من نعم الله عليه وعلى المسلمين، من أجل توحيد البلاد على منهج أهل السنة وإزالة البدع والرفض ، ...
وكان نور الدين متفهماً لظروف صلاح الدين وكان يخاطبه بالأمير (أسفهلار) ولو أراد لأرسل خطاباً بعزله عن مصر وتوليته قطراً آخر ، وهذا ما صرح به نجم الدين (*أيوب والده) لولده صلاح الدين في مصر :
" إن أراد عزلك.. يأمر بكتاب مع نّجاب حتى تقصد خدمته ويولي بلاده من يريد " .
ومن دلائل احترام نور الدين لصلاح الدين ما جاء في خطابه لابن أبي عصرون يوليه قضاء مصر يقول فيه :
"تصل أنت وولدك حتى أسيركم إلى مصر، وذلك بموافقة صاحبي، واتفاق منه، صلاح الدين، وفقه الله فأنا شاكر له كثير كثير كثير، جزاه الله خيراً وأبقاه ففي بقاء الصالحين والأخيار صلاح عظيم " .
فحقيقة العلاقة بين القائدين احترام متبادل وتقدير عظيم وسيأتي الحديث عن العلاقة بينهما بإذن الله والرد على الكتّاب الذين تلقوا روايات ابن أبي طيء الشيعي الذي حرص على تشويه وتلطيخ العلاقة بين الرجلين والطعن في سيرتهما كلما أمكنه ذلك .
---------------------
1- التدرج في إلغاء الخطبة للخليفة الفاطمي :
استفاد صلاح الدين من الرجل الكبير القاضي الفاضل، فقد ساعده على إحكام خطة مدروسة للقضاء على الدولة الفاطمية والمذهب الشيعي الرافضي الإسماعيلي وشرع صلاح الدين في تنفيذها بدقة متناهية؛...
وبعد أن هّيأ صلاح الدين المصريين للإنقلاب وقلَّم أطفار المؤسسة الفاطمية، فعزل قضاة الشيعة وألغى مجالس الدعوة وأزال أصول المذهب الشيعي،...
ففي سنة 565ﻫ/1169م أبطل الأذان بحي على خير العمل محمد وعلي خير البشر. ويعلق المقريزي بأن هذه أول وصمة دخلت على الدولة .
ثم أمر بعد ذلك، في يوم الجمعة العاشر من ذي الحجة 565ﻫ/1169م - 1170م بأن يذكر في خطبة الجمعة الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان ثم علي وأمر بعد ذلك بأن يُذكر العاضد في الخطبة بكلام يحتمل التلبيس على الشيعة فكان الخطيب يقول : اللهم أصلح العاضد لدينك .
وولىّ القضاء في القاهرة للفقيه عيسى الهكاري السني فاستناب القضاة الشافعيين في جميع البلاد وأنشأ المدارس لتدريس المذاهب السُّنية
وهو في الوقت نفسه يضيق الخناق على الخليفة العاضد الفاطمي ، فيلغي مخصصاته ويحرمه من المال والخيل والرقيق ويمنع مراسم الخلافة وهي حفلاتها الرسمية في الأعياد وغيرها، ويحتجز الخليفة في قصره فلا يسمح له بمغادرته إلا في مناسبات قليلة منها خروجه لاستقبال نجم الدين أيوب والد صلاح الدين يوم جاء إلى القاهرة .
وعمد صلاح الدين إلى الخطة نفسها مع أمراء الجيش فأخذ يحّد من نفوذهم شيئاً فشيئاً ثم قبض عليهم في ليلة واحدة وأنزل أصحابه في دورهم وفّرق إقطاعاتهم عليهم .
وكان الخليفة العاضد يتابع ذلك كله بقلب حزين ونفس كئيبة وقد خابت الآمال التي عقدها على صلاح الدين وانزوى في مخدعه فريسة للهّم والمرض ،...
وأدرك صلاح الدين أن الفرصة باتت مؤتيه للقضاء على الدولة الفاطمية المحتضرة فعقد مجلساً كبيراً حضره أمراء جيشه وقواده وفقهاء السُّنة ومتصوفوها وسألهم الرأي والنصيحة وقد اتفق رأي الحاضرين على اتخاذ تلك الخطوة الفاصلة في حياة البلاد .
وفي بداية سنة 567ﻫ/1171-1172م قطع صلاح الدين الخطبة للفاطميين وكان قطعها بالتدريج أيضاً، ...
ففي الجمعة الأولى من محرم 567ﻫ/1171-1172م حذف اسم العاضد من الخطبة، ...
وفي الجمعة الثانية خطب باسم الخليفة المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله : وقطعت الخطبة للعاضد لدين الله فانقطعت ولم تعد بعدها إلى اليوم الخطبة الفاطمية
والملاحظ أن الخطبة للعباسيين قد تمت بالإسكندرية قبل القاهرة ومصر بنحو أسبوعين وذلك لأنها ظلت على المذهب السني طوال العصر الفاطمي
وقد توفي العاضد في العاشر من محرم 567ﻫ/1171- 1172م .
ويقال أن صلاح الدين حين علم بوفاة العاضد الفاطمي بعد أيام ندم على أنه تعجل في قطع خطبته وقال : لو عرفنا أنه (أي الخليفة العاضد) يموت في هذا اليوم ما غصصناه برفع اسمه من الخطبة،
فضحك القاضي الفاضل ورد عليه : قائلاً : يا مولاي لو علم أنكم ما ترفعون اسمه من الخطبة لم يمت .
فابتسم الحاضرون لهذه المداعبة الكلامية بين الوزير صلاح الدين وكاتبه أو مستشاره التي أنطوت فيها آخر صفحة من صفحات تاريخ الدولة الفاطمية العبيدية .
--------------------
2- وفاة العاضد عام 567ﻫ :
قال ابن كثير :
والعاضد في اللغة القاطع : فيه قطعت دولتهم واسمه عبدالله، ويكن بأبي محمد بن يوسف الحافظ بن محمد بن المستنصر ابن الظاهر بن الحاكم بن العزيز بن المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي أوَّل ملوكهم وكان مولد العاضد في سنة سِتَّ وأربعين، فعاش إحدى وعشرين سنة، وكانت سيرته مذمومة وكان شيعياً خبيثاً لو أمكنه قتل كلَّ من قدر عليه من أهل السنة .
-----------------
3- فرح المسلمين بزوال الدولة الفاطمية :
ولما انتهى الخبر إلى الملك نور الدين بالشام أرسل إلى الخليفة العباسي يعلمه بذلك مع ابن أبي عصرون فزينت بغداد، وغلقت الأبواب وعُملت القباب وفرح المسلمون فرحاً شديداً .....
وكانت الخطبة قد قَطعت من ديار مصر سنة تسع وخمسين وثلاثمائة في خلافة المطيع العباسَّي حين تغلب الفاطميُّون عليها أيام المعزَّ الفاطمي باني القاهرة إلى هذه الأوانِ، وذلك مائتا سنة وثماني سنين ..
وقد تفاعل الشعراء مع هذا الحدث المدوّي في أرجاء الدنيا فقد قال العماد الأصفهاني :
توفي العاضد الدعي فما
يفتح ذو بدعة بمصر فما
وعصر فرعونها انقضى وغدا
يوسفها في الأمور محتكما
قد طفئت جمرة الغواة وقد
داخ من الشرك كل ما اضطرما
وبات داعي التوحيد منتصراً
ومن دعاة الإشراك منتقماً
إن نور الدين محمود كان يرى إزالة الدولة الفاطمية هدفاً استراتيجياً للقضاء على الوجود النصراني، والنفوذ الباطني في بلاد الشام،
ولذلك حرص على إعادة مصر للحكم الإسلامي الصحيح فوضع الخطط اللازمة وأعد الجيوش المطلوبة وعين الأمراء ذوي الكفاءة المنشودة .....
فأتم الله له ما أراد على يدي جنديه المخلص وقائده الأمين صلاح الدين الذي نفذ سياسة نور الدين الحكيمة الرشيدة، وحق للأمة الإسلامية وزعمائها أن تفرح بهذه البشرى الكبيرة من إزالة دولة الشيعة الرافضة.
-------------------
4 - اعتبار واتعاظ من زوال الفاطميين من مصر :
كانت مدة ملك الفاطميين مائتين وثمانين سنة وكسراً، فصاروا، كأمس الذاهب وكأن لم يَغْنَوا فيها، ...
وكان أوّل من ملك منهم المهدئَّ وكان من أهل سَلَمْيَة حدَّاداً اسمه سعيد، وكان يهودياً فدخل بلاد المغرب وتسمَّى بعبيد الله، وأدَّعى أنَّه شريف علّوِىُّ فاطميُّ، و أنه المهديُّ
وقد ذكر هذا غير واحد من سادات العلماء الكبُراء كالقاضي أبي بكر الباقلاَّني والشيخ أبي حامد الإسفريينيَّ وغير واحد من سادات الأئمة هكذا :
{ والمقصود أنَّ هذا الدّعِىَّ المُدَّعِىَ الكَّذاب راج له ما افتراه في تلك البلاد ووازَرهَ جماعة من جهلة العُبّاد، وصارت له دولة وصولة، فتمكَّن إلى أن بنى مدينة سّماها المهدية نسبة إليه، وصار مَلِكاً مطاعاً يظهر الرفض وينطوى على الكفر المحض،
ثم كان من بعده ابنه القائم ثم المنصور، ثم المعز - وهو أوّل من دخل مصر منهم وبنيت له القاهرة - ثم العزيز ثم الحاكم، ثم الظاهر، ثم المستنصر ثم المستعلي، ثم الآمر، ثم الحافظ، ثم الظافر، ثم الفائز، ثم العاضد وهو آخرهم،
فجملتهم أربعة عشر ملِكاً، ومدتهم مائتان ونيَّف وتسعين سنة ... وقد كان الفاطميون أغنى الخلفاء وأكثرهم مالاً، وكانوا من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم، وأنجس الملوك سيرة وأخبثهم سريرة ....
ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات وكثر أهل الفساد وقل عندهم الصالحون من العلماء والعبّاد وكثر بأرض الشام النُّصيريُّة والدرزية والحشيشية وتغلب الفرنج على سواحل الشام بكماله، ...
حتى أخذوا القدس الشريف وطرابلس وأنطاكية و بلاد آمد والرُّها وقتلوا خلقاً لا يعلمهم إلا الله وسَبَوا من ذراري المسلمين من النساء والولدان مالاً يُحَدُّ ولا يوصَفُ وكادوا أن يتغلبوا على دمشق ولكن صانها الله بعنايته وسلمَّها برعايته،
وحين زالت أيامهم وانتفض إبرامهم أعاد الله هذه البلاد كُلَّها على أهلها من السادة المسلمين، ورد الله الكفرة خائبين، وأركسهم بما كسبوا في هذه الدنيا ويوم الدين }
---------------------------------------------------------------------
تابعوا #الحروب_الصليبية_جواهر