محمد خضير... عن صناعة كاسدة
الخميس 2024/06/20
وصل أمين معلوف إلى الحدّ الفاصل بين تقانتين - بشرية واصطناعية
في حديث هاتفيّ مطوَّل مع الروائيّ محمد الأحمد، جرى التطرّق إلى ممكنات البرامج الإلكترونية والتقانات التطبيقية الحديثة على الحاسوب في كتابة النقد والرواية، مثل تطبيق الذكاء الاصطناعي. التطبيق الذي بدأ كلعبة قد يتحول مستقبلاً إلى منازلة خاسرة. قد يتنازل الروائيّ مختاراً عن خياله، ويتخلّى الناقد مزهوّاً عن أدواته ومناهجه إزاء معالجات نقدية سريعة، ونماذج دراسية مصطنعة من دون أن يبذل جهداً أكاديمياً كبيراً، أو يستعين بنظرية من نظريات النقد ومصطلحاته التاريخية. ومهما كانت لغة المعالجة الاصطناعية الأدبية اعتيادية ومسطّحة، فهي مقبولة عند قارئ العصر الملول، الباحث عن وقائع جاهزة ومثيرة (في الرواية) وأنماط وصفية سهلة ومختصرة (في النقد).
استطراداً لتلك المعالجات، يستطيع برنامج ذكيّ أن يعدِّل في البنى الأولية_ اللغوية الوصفية_ لكنّه لن يعوّض عن البنى التخيّلية للذكاء البشري_ اللغوية الابتكارية. لذا فليس هناك من معيار مشترك بين الكتابة التخيّلية البشرية والكتابة الاصطناعية الحاسوبية، لِما في الأولى من اختيار واصطفاء ذاتيّ_ فرديّ، يصعب على الثانية نسخها أو تصميمها على أسس ثابتة، أو إعادة إنتاجها في اتجاه قارئ منمَّط شائع_ أكثر معاصرة من القارئ المتعدّد أو القارئ المخصَّص.
لكن، لا بدّ من الاعتراف بالحقيقة النسبية التي لا ترى في الابداع الكتابيّ البشري حكراً على فئة معينة من الكتّاب، الموصوفين سابقا بالموهوبين أو الخارقين أو الرؤيويّين. لقد أصبح ممكناً أن يمتهن كتّابٌ نصفُ_ مختصّين بالقضية الأنطولوجية_ نصفُ إنسانيّين_ بل غير مختصين بنوع أدبيّ_ تاريخيّ مجنَّس، تفكيك هذا الكارتل الأدبي الاحتكاريّ. وبعبارة أخرى فقد نؤمن بانتقال الكتابة_ الروائية خاصة_ من حقلها الإنساني_ الإقتصادي، إلى الحقل العلمي_ التقنّي الخالص، في رؤيا صنّاع الحاسوب الذكيّ، الذي بدأت تباشير إنتاجه بالانتشار في أسواق التبادل التجاري الإلكترونيّ. وربما سبقَت صناعةُ السينما هذا النوعَ من الانتقال الإلكترونيّ فأقدمت على إنتاج أفلام ضخمة بآليات الحاسوب: أفلام مثل تايتانيك وكينغ كونغ وسيّد الخواتم وآفاتار...
والاعتبار الآخر الذي يُؤخذ في التقانة الحاسوبية، يقوم على أساس التصنيف الثقافي والبيئي الحداثي وما بعد الحداثي لموقع الكاتب الاصطناعي؛ إذ لا حظَّ لكاتب من بلدان تابعة_ ذات بنية أقلّ حداثة صناعية_ بأن ينافس كاتباً من النوع الأول_ بل إن تفكير كاتب البيئة الثانية بتجنيس عمله الأدبي بجنس تقليديّ_ رواية مثلاً_ قد يعرّضه للسخرية في عالم مستخدمي التقانات الاصطناعية العابرة للأجناس. إنّه منافِس صغير_ حِرفيّ، يدويّ، عاطفيّ_ في سوق التحوّل العقلي والفكري؛ وإعلانُه انتماءه لصناعات ما قبل عصر الحاسوب سيثبّته عند مستوى أدنى من حداثة القرن الحادي والعشرين الخارقة.
ليسخر مَن يسخر: تعبيرٌ يستعمله كُتّاب هذا الجزء من العالم، مقابل ألعاب كتابية ينتجها كُتّاب العالم ما بعد الصناعي. إنّهم مقتنعون بأنّ الكتابة قد تتجنّس بحدود المعقول والمتخيّل، من دون القفز على أخلاقيات الكتابة اليدوية، ما قبل الصناعية. إنّها مقاييس تتناسب وحالة من الاستقرار والرضا والاستمتاع بألعاب الصانع القديم كارلو كولودي، للعبة بينوكيو، في العام ١٨٨٣. وفيما يقدّم عالمُ الحاسوب نسخة فيلميّة جديدة من النسخة الأصلية المعدّة للسينما عام ١٩٤٠ (فيلم بينوكيو الموسيقي للمخرج الاميركي روبرت زيميكس العام ٢٠٢٢) فإنّ الأثر العاطفي المتبقّي من لعبة القرن التاسع عشر يقدّم دليلاً على مناعة التقدّم في عالمَي الأدب والسينما، مهما استُعملت فيه من تقانات. وهل لنا أن نسخر من رؤى "أحدب نوتردام" و"قصة مدينتين" و"الأحمر والأسود" و"الجريمة والعقاب" و"جسر على نهر الدرينا" مقارنة بروايات الذكاء الاصطناعي، التي تطرق الأبوابَ بقوة؟
بدأت المحاولات الروائية الجديدة بالتمهيد لهذا الاختراق من دون قصد صنّاعها، أو بعلمهم الكامل، ما داموا أعضاء فاعلين في تقاليد عصرهم التقنيّ_ ما بعد الصناعيّ. ونذكر مثالاً واحداً من روائيّي اليابان_ بلد التقاليد المتحوّلة_ هو الروائي هاروكي موراكامي. تدرّج هذا الروائي من كتابة روايات تقليدية، لذيذة ومدهشة_ بالمعيار الكتابيّ البشري_ مثل "جنوب الحدود وسبوتنيك الحبيبة والغابة النرويجية وكافكا على الشاطئ" إلى نوع من الكتابة الانفجارية_ فوق الفنتازية_ في رواياته الثلاث الأخيرة "1Q84, يوميات طائر الزنبرك، مقتل الكومنداتور" حتى لنكاد نشكّ في استعانة موراكامي بآليات غير آليات التأليف الروائي البشري. وما الذي يمنع قارئاً من بيئة نصف العالم_ قبل الصناعيّ من الشكّ في أن دان براون ورهطه من مؤلّفي الروايات الفخمة_ فوق القروسطية_ ليسوا سوى عبيد لتقانات حاسوبية فوق بشرية، كتقانة الذكاء الاصطناعي؟
لقد اعترف امين معلوف_ روائيّ التاريخ العربي والشرقي الخيالي_ بأنه يستعين بذاكرة الحاسوب في تنظيم ملفّات مخطوطات رواياته. لقد وصل معلوف إلى الحدّ الفاصل بين تقانتين_ بشرية واصطناعية_ لكنه لم يستطع تجاوز الحدّ الفاصل لاعتبار رئيسٍ واحد: إنه كان أسيراً لبيئة النوع الثاني من الكتاب (الكتّاب الأخلاقيّين) رغم تشبّعه بحداثة بيئةٍ صناعية غربية. إنّ جيلاً كبيراً من الكتّاب العرب (أرصنُهم نجيب محفوظ) وضعوا قواعد لهذا التقليد الصارم من كتابة ما قبل الحداثة الصناعية. أما جيل ما بعد محفوظ فهم وحدهم الذين وقعوا في فخّ الحدّ التقنيّ الفاصل الذي تنكشف عنده خدعة الجنس الروائي المقيَّد بعاطفة العصر الغارب.
لنسخر كيفما نسخر، وليزدَد شكُّنا فيما نقرأ من انفجارات روائية، تأتينا كعاصفة إلكترونية، من الجانب الثاني_ الساخر بدوره من ألعابنا القديمة_ لكن يتوجّب علينا أن نضبط أجناسَ ما نكتب من قصص وروايات، ولا نقارنها قطّ باصطناعات الجانب الثاني؛ بل لنسخر في باطننا ممّا نعتقده أخلاقاً باقية من صناعة "التابع" الإستعماريّ القديم. إنّها صناعة كاسدة في أدنى معايير السوق الحاسوبية. لكنها صناعتنا على أيّ حال.
(*) مدونة نشرها القاص العراقي محمد خضير في الفايسبوكية.