تل خويرة
د. بشار خليف
يتميز العصر الذي أطلق عليه اسم عصر فجر السلالات ( 2800 – 2350 ق.م ) والتالي لعصر فجر التاريخ الذي شهد بداية التدوين بخصائص عدة :
أولا : اعتمادنا في دراسة هذا العصر على الوثائق الكتابية (الرقم ) بعد أن كانت دراسة عصر فجر التاريخ مقتصرة على المكتشفات الأثرية غير الكتابية.
ثانيا : ظهور أساليب فنية جديدة وأنماط حياة متطورة عن العصر السالف , والفترة هذه تمتد من نهاية عصر جمدة نصر وحتى بداية عصر الممالك الأكادية . وهذا النمط الجديد المتطور تجلى في مدن الهلال الخصيب التي ذكر معظم ملوكها في ثبت الملوك السومريين المدون في حوالي العام 2000ق.م
ثالثا : بروز مدن رئيسية لعبت دورا في حركة التاريخ آنذاك وهي كيش وماري وايبلا ولغش وتل خفاجي ( الى الشمال الشرقي من بغداد ) وتل أسمر ( الى الشرق من خفاجي ) . وهناك أيضا مراكز ثانوية كانت تدخل في صراع المصالح بين المدن المتناحرة حينا والمتوحدة أو ما شابه التوحد في أحيان نادرة . ومن هذه المراكز تل الخويرة الواقع في منطقة الفرات الأعلى بين بلدتي رأس العين وتل أبيض , في محافظة الرقة حاليا , بين نهري الخابور والبليخ في الجزيرة السورية بالقرب من الحدود التركية .
أعمال التنقيب
التنقيب المنهجي بدأ العام 1958 برئاسة العالم المعروف أنطون مورتغات . وبعد وفاته تسلمت زوجته اورزولا مورتغات التنقيب عنه في 1977 بمساعدة فينفرد أورتمان .
دلت الكشوفات عن استيطان منذ الألف الثالث ق.م ( عصر ما يسمى بفجر السلالات ) , شمل مساحة واسعة جدا من الموقع . واستمر الاستيطان حتى 2300ق.م ثم أفرغ , ثم عاد في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد .
ينتمي التل مبدئيا الى مجموعة " التلال الإكليلية " وهي تسمية أطلقها اوبنهايم على مجموعة تلال تنبئ عن وجود مدن تحتها . وتبدو وكان ثمة مركزا ودائرة : المركز هو الاكروبول او المدينة العليا والدائرة تشغلها احياء المدينة السكنية ( المدينة الواطئة أو السفلى ) .
والتنقيبات الجارية لم تقدم _ حتى الاّن _ الدليل الجازم على وجود سور حول المدينة في تل خويرة على رغم العثور على معطيات تنبئ بوجوده كالواجهة الخارجية التي تتألف من منحدر اصطناعي , ووجود خندق يحيط بهذه الواجهة يدل على وجود سور .
وأظهرت الدراسات أن في التل مدينتين علوية وسفلية . الثانية تشكل قطاعا بعرض 100 متر . يحيط بالأولى ( الاكروبول ) الذي يشغل مساحة 220 الف متر مربع أما مساحة السفلية فهي 430 ألف متر مربع .
التنقيبات في المدينة العليا كشفت عن وجود حي سكني أطلق علبيه اسم " حي المنازل " اذ تبين وجود منازل مشيدة بشكا منتظم داخل شبكة من الطرقات المتعاقدة . مساحة المنزل الواحد من 120 الى 180 مترا مربعا .
والقسم الأعظم يتألف من صحن واسع يدخل اليه او ممر توجد الى جانبه غرفة المنزل الرئيسية المجاورة للشارع والمجهزة بمقاعد وموائد .
ولوحظ أن تصريف المياه كان يتم عبر مجار خاصة تصب في مجرى الشارع العام . وعثر في بعض المنازل على بقايا أفران لشي الفخار بكميات كبيرة . وكشف أيضا عن ثلاثة أبنية حجرية ضخمة في وسط المدينة العليا , يعتقد أنها معابد وبلغت أبعاد المعبد الأول 30× 15 م ,. و يتألف من قاعدة ضخمة مشيدة بالواح حجرية كبيرة . أما الجدران فمشيدة بألواح حجرية كبيرة أما الجدران
فمشيدة بالواح حجرية كبيرة وضخمة في منطقة القاعدة فقط , ثم يلي ذلك اللبن المشوي . وثمة معبد اّخر , أطلق عليه اسم المعبد الشمالي , مشيد بألواح حجرية ضخمة في الطبقات السفلية من الجدران فوق مصطبة منخفضة من اللبن المشوي وهو من نماذج المعابد ذات الرواق الأمامي التي كانت شائعة في مدن الهلال الخصيب آنذاك ولا سيما في كش وماري ايبلا .
وعثر على عدد كبير من الكتل الطينية التي كانت تستخدم لسد فوهات الجرار الفخارية وهي مشفوعة بطبعات أختام اسطوانية تضيء على فن الاختام العائد للألف الثالث قبل الميلاد . ونذكر انه عثر على ختم اسطواني يعود الى السلالة المبكرة التي سيطرت على منطقة ما بين النهرين . ولوحظ أن الكتل الطينية أو أغطية الجرار زينت من الجهة الخلفية بصور لحيوانات خرافية واسطورية وواقعية كالماعز والعقرب والأسد والعجل .
عندما تجول اوبنهايم في منطقة الخابور عثر على مجموعة كبيرة من الانصاب الحجرية بعضها مرمي على الأرض وبعضها مازال قائما . ويبدو أنها كانت مصطفة على نسقين على جانبي الشارع الممتد من الشمال الى الجنوب بعرض بضعة امتار ومرصوف بطبقة من الحصى . يذكر أنه لم يعثر حتى الاّن على مثيل لهذه الانصاب في مدن الهلال الخصيب ما يجعل فهم وظيفتها صعبا .
وعثر كذلك على بناء حجري يعتقد أنه قصر , وكشف عن جدار يشكل حدود البناء الشمالية بطول 50 مترا . وكشفت التنقيبات في مقابر المدينة السفلية عن قبر واحد هو عبارة عن حفرة في الأرض ذات مدخل يسبه مدخل المناجم , ويحوي على غرفة جانبية تضم رفات طفل يتراوح عمره بين 10-11 سنة . اما الاناث الجنائزي فكان ضئيلا : مسلقان من العظم وأربعة صحون من الفخار .
منتصف الألف الثاني
ونتيجة لعدم تحقق الوحدة السياسية بين مدن الهلال الخصيب في عصر الممالك الكنعانية الامورية الأولى 2000-1600ق.م ( بابل واشور وماري وكركميش ويمحاض وقطنة وبيبلوس ( جبيل ) ودان وحاصور ومجدو ... الخ ) , واقتصار الأمر على محالفات تارة ومناحرات تارة أخرى , فقد زاد عدد الممالك في النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد, وهذا الوضع ساعد القوى المتربصة في تحقيق فاعليتها التاريخية , وأصبحت المناطق الممتدة من جبال زاغروس وحتى بحر اّمور (ألمتوسط ) تحت السيطرة الحورية – الميتانية مما دفع بالفراعنة المصريين الى دخول الجناح الغربي , في وقت كان الكيشيون القادمون من ايران قد سيطروا على بلاد بابل .
في ظل هذا الوضع السياسي المتدهور بدأ الاستيطان الجديد في تل خويرة على انقاض مستوطنة الألف الثالث قبل الميلاد وذلك في حدود العام 1530 ق.م وتلاحظ هنا ضالة مساحة الاستيطان مقارنة مع سوية الالف الثالث ق.م واستمر الاستيطان حتى القرن الثاني عشر قبل الميلاد.
منذ القرن الرابع عشر ق.م ضمت الإمبراطورية الاّشورية تل خويرة ووصلت حتى الفرات .
عثر بنتيجة الحفريات والتنقيبات على مبنى أطلق عليه اسم المبنى الميتاني وهو يتألف من غرف وباحات كثيرة تمثل جزءا من حي سكني . أما من اّثار العصر الاّشوري الوسيط فقد عثر في المدينة الفوقانية على عدد من القبور المشيدة تحت ارضيات البيوت السكنية . وهذه البيوت مصطفة على جانبي الطريق . والقبور مماثلة لتلك التي عثر عليها في اّشور من الفترة نفسها .
صحيفة الحياة اللندنية 7 \ 1\ 1991
د. بشار خليف
يتميز العصر الذي أطلق عليه اسم عصر فجر السلالات ( 2800 – 2350 ق.م ) والتالي لعصر فجر التاريخ الذي شهد بداية التدوين بخصائص عدة :
أولا : اعتمادنا في دراسة هذا العصر على الوثائق الكتابية (الرقم ) بعد أن كانت دراسة عصر فجر التاريخ مقتصرة على المكتشفات الأثرية غير الكتابية.
ثانيا : ظهور أساليب فنية جديدة وأنماط حياة متطورة عن العصر السالف , والفترة هذه تمتد من نهاية عصر جمدة نصر وحتى بداية عصر الممالك الأكادية . وهذا النمط الجديد المتطور تجلى في مدن الهلال الخصيب التي ذكر معظم ملوكها في ثبت الملوك السومريين المدون في حوالي العام 2000ق.م
ثالثا : بروز مدن رئيسية لعبت دورا في حركة التاريخ آنذاك وهي كيش وماري وايبلا ولغش وتل خفاجي ( الى الشمال الشرقي من بغداد ) وتل أسمر ( الى الشرق من خفاجي ) . وهناك أيضا مراكز ثانوية كانت تدخل في صراع المصالح بين المدن المتناحرة حينا والمتوحدة أو ما شابه التوحد في أحيان نادرة . ومن هذه المراكز تل الخويرة الواقع في منطقة الفرات الأعلى بين بلدتي رأس العين وتل أبيض , في محافظة الرقة حاليا , بين نهري الخابور والبليخ في الجزيرة السورية بالقرب من الحدود التركية .
أعمال التنقيب
التنقيب المنهجي بدأ العام 1958 برئاسة العالم المعروف أنطون مورتغات . وبعد وفاته تسلمت زوجته اورزولا مورتغات التنقيب عنه في 1977 بمساعدة فينفرد أورتمان .
دلت الكشوفات عن استيطان منذ الألف الثالث ق.م ( عصر ما يسمى بفجر السلالات ) , شمل مساحة واسعة جدا من الموقع . واستمر الاستيطان حتى 2300ق.م ثم أفرغ , ثم عاد في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد .
ينتمي التل مبدئيا الى مجموعة " التلال الإكليلية " وهي تسمية أطلقها اوبنهايم على مجموعة تلال تنبئ عن وجود مدن تحتها . وتبدو وكان ثمة مركزا ودائرة : المركز هو الاكروبول او المدينة العليا والدائرة تشغلها احياء المدينة السكنية ( المدينة الواطئة أو السفلى ) .
والتنقيبات الجارية لم تقدم _ حتى الاّن _ الدليل الجازم على وجود سور حول المدينة في تل خويرة على رغم العثور على معطيات تنبئ بوجوده كالواجهة الخارجية التي تتألف من منحدر اصطناعي , ووجود خندق يحيط بهذه الواجهة يدل على وجود سور .
وأظهرت الدراسات أن في التل مدينتين علوية وسفلية . الثانية تشكل قطاعا بعرض 100 متر . يحيط بالأولى ( الاكروبول ) الذي يشغل مساحة 220 الف متر مربع أما مساحة السفلية فهي 430 ألف متر مربع .
التنقيبات في المدينة العليا كشفت عن وجود حي سكني أطلق علبيه اسم " حي المنازل " اذ تبين وجود منازل مشيدة بشكا منتظم داخل شبكة من الطرقات المتعاقدة . مساحة المنزل الواحد من 120 الى 180 مترا مربعا .
والقسم الأعظم يتألف من صحن واسع يدخل اليه او ممر توجد الى جانبه غرفة المنزل الرئيسية المجاورة للشارع والمجهزة بمقاعد وموائد .
ولوحظ أن تصريف المياه كان يتم عبر مجار خاصة تصب في مجرى الشارع العام . وعثر في بعض المنازل على بقايا أفران لشي الفخار بكميات كبيرة . وكشف أيضا عن ثلاثة أبنية حجرية ضخمة في وسط المدينة العليا , يعتقد أنها معابد وبلغت أبعاد المعبد الأول 30× 15 م ,. و يتألف من قاعدة ضخمة مشيدة بالواح حجرية كبيرة . أما الجدران فمشيدة بألواح حجرية كبيرة أما الجدران
فمشيدة بالواح حجرية كبيرة وضخمة في منطقة القاعدة فقط , ثم يلي ذلك اللبن المشوي . وثمة معبد اّخر , أطلق عليه اسم المعبد الشمالي , مشيد بألواح حجرية ضخمة في الطبقات السفلية من الجدران فوق مصطبة منخفضة من اللبن المشوي وهو من نماذج المعابد ذات الرواق الأمامي التي كانت شائعة في مدن الهلال الخصيب آنذاك ولا سيما في كش وماري ايبلا .
وعثر على عدد كبير من الكتل الطينية التي كانت تستخدم لسد فوهات الجرار الفخارية وهي مشفوعة بطبعات أختام اسطوانية تضيء على فن الاختام العائد للألف الثالث قبل الميلاد . ونذكر انه عثر على ختم اسطواني يعود الى السلالة المبكرة التي سيطرت على منطقة ما بين النهرين . ولوحظ أن الكتل الطينية أو أغطية الجرار زينت من الجهة الخلفية بصور لحيوانات خرافية واسطورية وواقعية كالماعز والعقرب والأسد والعجل .
عندما تجول اوبنهايم في منطقة الخابور عثر على مجموعة كبيرة من الانصاب الحجرية بعضها مرمي على الأرض وبعضها مازال قائما . ويبدو أنها كانت مصطفة على نسقين على جانبي الشارع الممتد من الشمال الى الجنوب بعرض بضعة امتار ومرصوف بطبقة من الحصى . يذكر أنه لم يعثر حتى الاّن على مثيل لهذه الانصاب في مدن الهلال الخصيب ما يجعل فهم وظيفتها صعبا .
وعثر كذلك على بناء حجري يعتقد أنه قصر , وكشف عن جدار يشكل حدود البناء الشمالية بطول 50 مترا . وكشفت التنقيبات في مقابر المدينة السفلية عن قبر واحد هو عبارة عن حفرة في الأرض ذات مدخل يسبه مدخل المناجم , ويحوي على غرفة جانبية تضم رفات طفل يتراوح عمره بين 10-11 سنة . اما الاناث الجنائزي فكان ضئيلا : مسلقان من العظم وأربعة صحون من الفخار .
منتصف الألف الثاني
ونتيجة لعدم تحقق الوحدة السياسية بين مدن الهلال الخصيب في عصر الممالك الكنعانية الامورية الأولى 2000-1600ق.م ( بابل واشور وماري وكركميش ويمحاض وقطنة وبيبلوس ( جبيل ) ودان وحاصور ومجدو ... الخ ) , واقتصار الأمر على محالفات تارة ومناحرات تارة أخرى , فقد زاد عدد الممالك في النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد, وهذا الوضع ساعد القوى المتربصة في تحقيق فاعليتها التاريخية , وأصبحت المناطق الممتدة من جبال زاغروس وحتى بحر اّمور (ألمتوسط ) تحت السيطرة الحورية – الميتانية مما دفع بالفراعنة المصريين الى دخول الجناح الغربي , في وقت كان الكيشيون القادمون من ايران قد سيطروا على بلاد بابل .
في ظل هذا الوضع السياسي المتدهور بدأ الاستيطان الجديد في تل خويرة على انقاض مستوطنة الألف الثالث قبل الميلاد وذلك في حدود العام 1530 ق.م وتلاحظ هنا ضالة مساحة الاستيطان مقارنة مع سوية الالف الثالث ق.م واستمر الاستيطان حتى القرن الثاني عشر قبل الميلاد.
منذ القرن الرابع عشر ق.م ضمت الإمبراطورية الاّشورية تل خويرة ووصلت حتى الفرات .
عثر بنتيجة الحفريات والتنقيبات على مبنى أطلق عليه اسم المبنى الميتاني وهو يتألف من غرف وباحات كثيرة تمثل جزءا من حي سكني . أما من اّثار العصر الاّشوري الوسيط فقد عثر في المدينة الفوقانية على عدد من القبور المشيدة تحت ارضيات البيوت السكنية . وهذه البيوت مصطفة على جانبي الطريق . والقبور مماثلة لتلك التي عثر عليها في اّشور من الفترة نفسها .
صحيفة الحياة اللندنية 7 \ 1\ 1991