هل حارب الجزائريون طواحين الهواء؟!
11 - يونيو - 2024م
نزار بولحية
ربما حاول البعض بطريقة أو بأخرى أن يلمح لذلك، ولعل هناك من يرى أن آخر وأحدث محاولة في ذلك الاتجاه كانت مجرد زوبعة في فنجان، وأن الأجدى هو أن توصف بالحدث الهامشي الذي لا معنى له. لكن ألن يفتح الأمر وبغض النظر عن تباين المواقف ووجهات النظر نحوه أعين كثيرين على جملة من الأسئلة الحقيقية التي تطرح نفسها اليوم بقوة على البلد المغاربي؟
ليس من المستبعد أن تقود مزيد من التراكمات نحو ذلك، والثابت هو أن تلك الأسئلة ستبدو في ذلك الوقت أعقد وأصعب بكثير من السؤال التقليدي عن عدد شهداء الجزائر، إذ سيكون بمقدور أي صبي جزائري أن يقدم وعلى طبق، الجواب الكلاسيكي وهو أنهم مليون ونصف المليون شهيد. أما المختصون وبعض المؤرخين فقد يرفعون الرقم عاليا إلى خمسة ملايين شهيد، بل ربما حتى إلى أكثر من ذلك. لكن هل كان الفرنسيون وبعد مضي أسابيع قليلة فقط على توقيعهم مع الجزائريين على اتفاقية ومذكرة مشتركة قالت عنها الإذاعة الرسمية في الجزائر، إنها تهدف «لاسترجاع الأرشيف الجزائري خلال الحقبة الاستعمارية، وممتلكات لا تقدر قيمها التاريخية بثمن في قلوب الشعب الجزائري»، يأملون في أن يخرج شخص ما، حتى إن لم يكن من أهل الذكر أو الاختصاص، ومن داخل بلد عربي بالذات ليحصر الرقم في مئة وستة وخمسين شخصا فقط، «قتلوا في سجن وهران وسجن قسنطينة وسجن الجزائر العاصمة»، خلال سنوات الاستعمار التي استمرت لأكثر من قرن وربع القرن؟ من المؤكد أنه لم يدر بخلدهم أنه قد يوجد في بلد بعيد عن قارتهم، لم يسبق له أن عانى من ويلات الاستعمار الفرنسي من يمكنه أن يكون فرنسيا أكثر من الفرنسيين أنفسهم، ولعل الشاعر السعودي عبد الرحمن الشمري حاز في هذا الجانب سبقا ما. والسؤال هنا هو كيف أمكن للرجل أن يتوصل إلى تلك النتيجة العجيبة؟ وما هي المصادر أو الأدلة أو الوثائق العلمية التي استند إليها؟
تصريحات انتشرت كالنار في الهشيم شككت في التضحيات والدماء السخية التي بذلها الجزائريون في فترة الاستعمار، وهو ما لم يقدم حتى غلاة الفرنسيين ومتطرفوهم على فعله
ليس معروفا حتى الآن أي جزئية ولو بسيطة حول ذلك. لقد كانت على ما يبدو كلمة خرجت من فمه بوعي، أو ربما من دون وعي وتم الأمر باختصار شديد وببساطة أيضا ومثلما قال هو نفسه فقط من خلال ما وصفه ببحثه البسيط في الموضوع، من دون الكشف لا عن طبيعة ذلك البحث، ولا عن منهجيته، ولا عن أدواته، ولا عن الوقت الذي استغرقه. لكن ما الذي جعل أديبا وليس باحثا مختصا في التاريخ مثلا يقحم نفسه أصلا في قضية معقدة يتداخل فيها التاريخي بالسياسي ويشتبك فيها الماضي بالحاضر بشكل وثيق؟ حتى الآن تبدو الدوافع الحقيقية وراء تلك العملية غامضة ومجهولة. وليس مؤكدا بعد أن كانت التحقيقات التي تعهدت بفتحها السلطات السعودية ضد الشمري ستميط اللثام عاجلا أم آجلا عما إذا كان يمكن أن يكون وراء ذلك التصرف الفردي في الظاهر جهة ما، وتقود بالتالي إلى معرفة كل التفاصيل والحيثيات المحيطة بالمسألة، وبغض النظر عما يمكن أن يتكشف في وقت لاحق فليس هذا المجال المناسب بالتأكيد للرد على تلك التصريحات التي انتشرت كالنار في الهشيم، بمجرد أن بثت مؤخرا في برنامج على منصة «عكاس» لتثير جدلا واسعا، بعد أن تضمنت قدرا كبيرا من التشكيك في التضحيات والدماء السخية التي بذلها الجزائريون في فترة الاستعمار، بل حتى نوعا من المبالغة في التقليل والتهوين من أعداد الذين سقطوا شهداء برصاص الاستعمار الفرنسي، وهو ما لم يقدم حتى غلاة الفرنسيين ومتطرفوهم على فعله. ولا شك في أنه سيكون من السهل على أي أحد أن يفند أطروحة الشمري بمجرد أن يعدد مثلا بعض المجازر الشهيرة التي ارتكبتها القوات الاستعمارية الفرنسية في حق الجزائريين. وربما يكفي هنا ذكر واحدة منها فقط وهي مجزرة الثامن من مايو عام خمسة وأربعين الشهيرة والتي قتل فيها بالرصاص الحي ما لا يقل عن خمسة وأربعين ألف متظاهر جزائري خرجوا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية للتعبير عن مطالبتهم للسلطات الاستعمارية بالوفاء بوعدها لهم بمنحهم الاستقلال. لكن بعيدا عما قيل في حق شهداء الجزائر، ألا يبدو توقيت مثل تلك التصريحات مريبا؟ لقد تزامن تقريبا مع توقيع الجانبين الجزائري والفرنسي الشهر الماضي، ومثلما أشرنا إلى ذلك، على اتفاقية لم يكشف بعد عن كامل تفاصيلها، إلا أنه يفترض أنها ستفتح الباب أمام الحصول على نوع من الاعتراف الفرنسي بالجرائم الاستعمارية في الجزائر، قد يفضي لاحقا إلى تقديم اعتذار رسمي من جانب باريس عنها، مع تعويضات مادية ورمزية، ما قد يسمح في الوقت نفسه، وكما كتبنا في مقال سابق، لتونس والمغرب بالخصوص بمطالبة الفرنسيين بالتوقيع على اتفاقيات مماثلة. كما أن من شأن تلك الاتفاقية أن تعبد الطريق أمام زيارة مرتقبة للرئيس الجزائري إلى باريس، سبق أن تم تأجيلها أكثر من مرة. ولعل هناك من قد يقول وفي صلة بذلك أن تصريحات الشمري، أخذت حجما أكبر من حجمها، وأن ربطها بأي سياق سياسي هو نوع من التعسف والإجحاف. فما الرابط بين كلام طائش، أو زلة لسان قد يكون ارتكبها أحد الفنانين، ومسألة معقدة وشائكة بحجم ملف الذاكرة، الذي لا يزال يقف حجر عثرة أمام أي تقارب كبير بين باريس والجزائر؟ ولنفترض جدلا أن الأمر تم بشكل معاكس، وحصل على الطرف الآخر، أي أن هناك شاعرا أو أديبا أو وجها إعلاميا معروفا من دولة غربية مثل سويسرا مثلا، خرج في إحدى المحطات الإذاعية أو القنوات التلفزيونية بتصريحات تؤكد أن فرنسا أجرمت بحق الجزائريين وبحق باقي الشعوب المغاربية أيضا، وأنها أبادت أكثر من عشرة ملايين جزائري على امتداد فترة احتلالها المباشر لذلك البلد. فهل كان الفرنسيون سينظرون إليه على أنه مجرد موقف أو رأي لا يلزم غير صاحبه؟ أم كانوا سيعتبرونه محاولة للتشويش على ملف حساس لا يرغبون بالتورط في دفع تكلفته، التي قد تكون باهظة جدا لا بالنسبة لعلاقتهم بالجزائر فقط، بل بباقي الدول المغاربية والافريقية أيضا؟
لقد قال الرئيس الجزائري وفي آخر خطاب ألقاه في وزارة الدفاع الشهر الماضي وفي إشارة إلى ارتباط مستقبل الجزائر بماضيها إلى أنه «عندما نتكلم عن الذاكرة فإن كثيرين يلوموننا، والشعب الذي لا جذور له ولا سلفا صالحا له، فإن مصيره مجهول»، غير أن بقاء ملف الذاكرة بين الجزائريين والفرنسيين مفتوح منذ أكثر من ستين عاما يجعل البعض يتساءل عما ستكون عليه الجزائر في اليوم الذي يلي أي اتفاق نهائي على غلق ذلك الملف. ولعل واحدا من الأسئلة الصعبة التي ستطرح نفسها على الجزائريين والتي يتعين عليهم وحدهم أن يجيبوا عنها هو ما شكل وطبيعة البلد الذي سقط الشهداء دفاعا عنه ويطمح الاحفاد للعيش فيه؟
كاتب وصحافي من تونس