أتابع منذ أكثر من عشرين سنة - بحكم وجودي في المعهد المسرحي - العروض الدراسية لطلابه مما وفر لي متعة أن أكون شاهداً على تطورهم منذ السنة الأولى وصولاً للثالثة والرابعة.
المرة الأولى خلال هذه (الأكثر من عشرين سنة) التي أحضر فيها مشروعاً دراسياً لطلاب لا أعرفهم - كممثلين على الأقل - كانت بالأمس في اليوم العاشر من مشروع طلاب السنة الثالثة الذي أشرف عليه المسرحي القدير عروة العربي، بمساعدة الرائعين بشار أبو عاصي ونور علي.
العرض الذي حمل عنوان (بتوقيت دمشق) قُدِم كمشروع ارتجال، ومفهوم الارتجال يمكن أن نجد له تجليات محلية في رواة الصحراء الجوالين في الجزيرة العربية، وفي الحكواتي الذي يحرص مسرحيون عرب كثر على وجوده في مسرحياتهم، كشكل من أشكال تأصيل هذه المسرحيات. وهو يعود تاريخياً إلى أداء الممثلين الجوالين زمن الرومان، وما تلاه من أشكال الفرجة الشعبية حتى القرون الوسطى في أوروبا. حيث تبدل مفهوم الارتجال بشكل كبير منذ القرن السادس عشر مع نشوء (كوميديا ديلارتي) في إيطاليا حين أصبح ارتجال الممثل محصوراً بتنويعات على فكرة متفق عليها مسبقاً. واتسع مفهوم الارتجال في المسرح الحديث ليشمل كل مراحل العملية المسرحية، بدءاً من إعداد النص وكتابته، مروراً بأداء الممثلين، وصولاً إلى الإخراج، مع الاحتفاظ بحرية التعديل في كل جانب، حتى بعد بدء العروض.
أعتمد عدة أساتذة في المعهد المسرحي الارتجال كأسلوب أثناء تحضير العروض الدراسية، وعرض التخرج خاصة. إذ أنهى هذا الخيار جدلاُ قديماً عن موقع الأستاذ بين مشرف أو مخرج، وأتاح فرصاً متساوية للطلاب المشاركين. والأهم من ذلك أنه كرّس مفهوم الإبداع الجماعي على صعيدي كتابة النص وإخراج العرض. وهو أمر لا حاجة للحديث عن أهميته بالنسبة لطلاب معهد مسرحي عالي.
الفكرة التي انطلق منها عروة العربي أتاحت له تحقيق كل ما سبق. ففي قاعة الانتظار أمام قسم العناية المشددة في مشفى غير فاخر تجتمع عائلة متناثرة للاطمئنان على كبيرتها التي أغمي عليها خلال عرس ابنتها. لكن هذا الاجتماع القسري في اللحظة العاطفية الصعبة لا يقرب الأسرة من بعضها بل يزيدها تباعداً بحكم رفض الآخر المختلف. وفي مشاهد رشيقة متتابعة، تفصل بينها الطرقات التقليدية الثلاث للعرض المسرحي، يسلط كل ممثل الضوء على الشخصية التي يلعبها، بالبوح أو بالحوار مع الآخرين، وشيئاً فشيئاً تتكشف للمشاهد التفاصيل الصغيرة التي تصنع صورة عائلة فككتها الأعراف والتحولات الاجتماعية.
لتحقيق مشهدية مناسبة للفكرة مدّ عروة خشبة المسرح الإيطالي (صالة سعد الله ونوس) ليبتلع الفراغ الفاصل بين الخشبة وصف المقاعد الأول في الصالة فوفر فرصة توسيع مجال الحركة المسرحي، ورغم تضييق مساحة الخشبة الأصلية بديكور واقعي، بسيط ومناسب فإن ذلك منح الحضور الإحساس بأنهم في قلب الحدث. وعمق هذا الإحساس بشكل أساسي الأداء الرائع المتقن للطلاب، حيث نجح كل واحد منهم دون استثناء أو تمييز، بتبني الشخصية التي يلعبها وفي استخدام ملامحه الشخصية، وتعبير وجهه وجسده بأفضل ما يخدم الشخصية والعرض.
لست محايداً تجاه عروة العربي، فقد امتلك تقديري ومحبتي مذ كان طالباً في السنة الأولى مروراً بكل نجاحاته في السنوات التالية. واليوم إضافة.
لكني محايد بالمطلق تجاه عرض استطاع أن يستحوذ علينا لساعتين وعشر دقائق في صالة مكتظة وجو حار يكاد يفقد المرء القدرة على التنفس. عرض يستحق بجدارة أن يضاف إلى قائمة العروض المميزة في تاريخ المعهد المسرحي. وفي تاريخ المسرح السوري.