للشاعر السوري نوري الجَرّاح..مجموعة «فتيان دمشقيون في نزهة»

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • للشاعر السوري نوري الجَرّاح..مجموعة «فتيان دمشقيون في نزهة»

    اضغط على الصورة لعرض أكبر. 

الإسم:	Screenshot_٢٠٢٤٠٦١٧-٠٨٥١١٠_Chrome.jpg 
مشاهدات:	6 
الحجم:	69.2 كيلوبايت 
الهوية:	219580
    «فتيان دمشقيون في نزهة» مجموعة الشاعر السوري نوري الجَرّاح: دمشق الأسيرة معلَّقةً بين الحضور والغياب

    15 - يونيو - 2024
    المثنى الشيخ عطية
    دمشقُ، دمشقُ، ودمشقُ!
    الورد الجوريُّ الذي لا تخلو حديقةٌ أو مزهريٌة من اعتزازها بوجوده فيها أبجديةً، زراعةً أو هديةً في عالمنا. الياسمين الذي يفوح من بساتين الأندلس حتى يومنا. اللوز الذي تلمع به عيون السوريّات متعةً أو ألماً إلى الأبعد من فرحنا أو حزننا؛ ودمشق الحرائق في نار حقد الغزاة الذين أتوا من داخلها واستولوا عليها، إذ تستولي عليهم؛ ويجدون أنفسهم خارجها. ودمشقُ الشّعر والنثر في الحضور والغياب؛ دمشق!
    و»كيف لشاعرٍ أن يلهجَ باسمك، يا سرّة الأرض، ولا تُفتَح لأجله الأبواب؟»، حيث يخاطب الشاعر السوري الدمشقيّ نوري الجَرّاح في مجموعته الجديدة الصادرة برسومات النحّات السوري عاصم الباشا: «فتيانٌ دمشقيّون في نزهةٍ»، دمشقَهُ المعلّقةَ بسلاسل آسريها كما لو كانوا أسْراها، وحلمِ مهجَّريها في العودة إلى حضنها وهم يبذرونها في المهاجر، إذْ هم سرقوها فاختفت أمام البرابرة الواقفين في ساحتها مذهولين ماذا يفعلون بالخلاء وهم برابرةُ تلال الجماجم، وإذْ لم يترك لهم الشاعر في قصيدة هذا الخلاء الصامت سوى حركةِ طفلٍ يلهو بعجلةٍ، ليكونَ القصيدةَ التي تَخْرِبُ تصوراتِ البرابرة، وتقلبُ المشهدَ لتصوراتنا، حيث:
    «شعر قائدُهم بالخزيِ لأنَّ الأبوابَ، كلَّ الأبوابِ كانت مفتوحةً، لم تنفلقْ جمجمةٌ بسهمٍ، ولم يسقطْ فارسٌ عن فرسٍ!/ وبخزيٍ أكبرَ شعر قائدُهم لأنَّ رجالَه لم يُرسِلوا إلى الحصون والأسوار كرات النار،/ ولم تكن لديهم فرصةٌ ليهدموا قلعةً ويقيموا في محيطها برجاً من الجماجم../ والمؤسف أكثر أنّهم بلغوا بطلائعهم قلبَ المدينة، ولم ترتفعْ مِلاءةٌ بيضاءُ على حانوتٍ، أو بيتٍ/ لم يركعْ جريحٌ،/ ولم تهتف امرأةٌ: أحرقوا المدينةَ، ولا تُدنِّسوا العذراواتِ!/ لا شكوى/ لا بكاء/ لا توسّلاتٍ/ فقط، صمتٌ مريبٌ لا يشبهه شيءٌ سوى زيارةِ مقبرةٍ في جبلٍ./ والسؤال الآن:/ ماذا يفعل البرابرةُ بمدينةٍ تُرِكَتْ مُشرَعةَ الأبواب ِولا يوجد فيها سوى صبيٍّ يلهو بعجلةٍ؟».
    ولا يفوتُ القارئَ هنا قلبُ الجرّاح لمشهد اختفاء البرابرة وعدم وصولهم إلى المدينة، في قصيدة الشاعر اليوناني كافافي الشهيرة «في انتظار البرابرة»، إلى اختفاء المدينة نفسها في قصيدته «وصول البرابرة» المهداة إلى طرواديي العصر/ السوريين، بعد معارضته الأولى لقصيدة كفافي، بوضع البرابرة وقلبهم إلى الغزاة داخل المدينة لا خارجها، في قصيدته التي سبقت هذه القصيدة، تحت عنوان «الغزاة يولدون في المدينة»، وأهداها «إلى كافافي في الإسكندرية».
    وقد أوضح الجَرّاح ذلك في شرحين يلِيان القصيدتين، حول معارضاته في التداخل مع قصيدة كفافي. وربّما يجد القارئ في هذين الشرحين زيادةً عن وجوب ترك فضاءات الغموض لمسَّاحات تَجْلِيَةِ زجاج القارئ، لكنّهما في كل الأحوال يُغنيان القصيدتين بتجارب التداخل مع الأعمال الكبيرة والخروج بالجديد الذي يضيف إبداعاً للإبداع.

    محور النزهة:

    في بنية مجموعته المهداةِ إلى ابنته «آية» والمتمحورة حول دمشق في الثورة السورية وما بعد قتل ربيعها بخاصةٍ، في ثيمة النزهة الملتبسة؛ يضع الجَرّاح خمسَ قصائد لا سبعاً كما سيهجس القارئ من عنوان أولاها: «الألواح السبعة»، التي تأتي في سبع قصائد جزئية، ومن تركيب القصيدة الثانية «فاكهة صيفٍ في صحافٍ» المكوَّنة من سبع قصائد جزئية كذلك، لكي تكتمل دائرة المجموعة بالسُّباعيات. غير أن الشعر الذي لا يخضع لقانون عادةً يُحبِط هجس القارئ وتخطيط تكوين المبدع إن حدث، حيث تتوالى بعد هاتين القصيدتين السُّباعيتين، ثلاثُ قصائد هي: «قناعٌ يتمرأى في قناعٍ»، «البرابرة والغزاة والمدينة»، «قصيدة الأرض»، وتتكون كل من القصائد الثلاث من قصيدتين جزئيتين، باستقلالية كل قصيدة جزئية في المجموعة كقصيدة كاملة ضمن انتمائها إلى أمّ.
    وفي هذه البنية لا يغيب عن القارئ تكوينها كباقةٍ تبرز فيها القصيدة الجزئية الثانية من القصيدة الثانية، «فتيانٌ دمشقيون في نزهةٍ» التي احتلّت مكانة عنوان المجموعة كمحورٍ لها تنبني عليه مستوياتُها، حيث من المفترض بها تحت هذا العنوان، وقد حققت ذلك في الحقيقة، أن تُمثّل القصائدَ ككلٍّ، وكما من المفترض بشاعرٍ كبير مثل الجرّاح ألا يضعَ عنواناً معلّقاً لوحده ولا يمتّ بصلةٍ لبقية القصائد، إنْ من جهة الموضوعات أو شكل القصيدة.
    وفي الحقيقة لا تمنحُ هذه القصيدة نفسَها لحسبان القارئ لها واسطةَ عقد المجموعة مباشرةً، إلا أنه سرعان ما يستمتعُ بتركيب الجَرّاح لها كذلك، حتى آخر سطرٍ من المجموعة، عائداً بذاكرته خلال القراءة، إلى لمسةِ التضاد غير المعتاد فيها، بدءاً من الجملة الأولى التي ستنسحب على ما يليها، بين ما هو ظاهرٌ وما هو خفيٌّ، ويشمل المجموعة ككلّ، بالتساؤل: شجرةٌ تلك، أم سرابٌ يتمرأى في شجرةٍ؟
    ويحدث على الأغلب في هذا التضاد الذي يعيشه متداخلاً بالتساؤلات، أن يهتزّ يقين القارئ منذ البداية فيما تشكّل من واقعٍ أمامه وصدّقه بالخوف أو الإنكار، وهذا ما يحدث في خلفيات المجموعة، التي ينرسم عليها ربيع الثورة السورية المغتال، فيما لا يُصدَّق! وما حدثَ في الحقيقةِ، إذْ بدا للجميع أن نظامَ الاستبدادِ قد سقط، أمام زخم أعداد وتضحيات الثوار، إلى درجة قفز الكثير من المثقفين المرتبطين بالنظام من سفينته والسباحة بسهولة في مياه الثورة.
    غير أن ما تبدّى بعدها من تعاضدِ قوى العالم جميعها على قتل الربيع السوري، لم يَدَعْ مجالاً لعقلٍ أنْ يُصَدِّق، ولم يكنْ لغير الشعر الرفيع أن يكشف هذه المتضادات داخل النفس، بعد سنواتٍ من التجارب، وبالتساؤل الذي يبدو هادئاً في البداية، لكنّه، سرعان ما يفصح عن قنابل تفجير الكشف المرعبة داخل الذات القارئة، في مواجهتها للخوف والإنكار.
    فها هو ذا الواقع يستقرّ وينساب مياهاً هادئةً، لكنه ما يلبثُ أن ينفتحَ ليضع وجهَنا المقتربَ منه، بين فكَّي تمساحِ ما أخفاه الهدوء. وها هو ذا الجَرّاح يُجري تجلّيات الحقيقة والسراب بعد تساؤلات شجرة السراب، بختام المقاطع بالتساؤلات المتواترة في القصيدة:
    1: بعد أن سار الفتية لخوض معركة المصير أمام الأسوار: «هل نحن جنودٌ في نزهةٍ،/ أم منشدون عُمْيٌ في جوقةٍ تائهةٍ بعد مقتلةٍ في خلاءٍ؟».
    2: بعد أن أزيلت المتاريس، ورفعت الحواجز، وانطفأت الحرائق، «وجرت الصبايا خلف الشبان، ولمعت الشمس على الحراب المكسورة في الأعناق»، بتصوير الجراح كما لو كانت عين الكاميرا تلتقط «خلال» المعركة المشاهد واحداً إثر آخر، وتُجَمِّع اللقطات داخل القارئ لتعطيه الصورة كاملة، وبَعد تصويره ساحة الواقع المضَلِّل كما لو لم يجرِ أي شيء «بعد» المعركة، حيث:
    «اليوم نذهب إلى الحقل، ولن نجد أرض المعركة،
    لا نبالَ،
    ولا أقواسَ،
    لا حرابَ،
    لا طعناتٍ..»،
    يأتي التساؤل الثالث:
    «أَحُلمٌ ما أراه؟ قال المسافر للطريقِ، وقد طالت وقصرت.
    وطالت
    وقصرت،
    قبل أن ينهض السراب ويفتح له الأبواب».
    3: بعد أنَّ «البنات اللواتي تشبثنَ بدروعنا وأجهشنَ عند البوابات،/ وميّزن من وراء الأسوار صراخ الهالكين من صيحات الناجين،/ وصلنَ إلى الحقلِ بِخُوَان الخبز وجِرار الماء،/ ووجدنَ المعولَ بجوار الشجرة../ والهواءَ مسترخياً في الظلَّ.». يأتي تساؤل الجراح الرابع الهادئ المرعب: «كيف أفسّر إذن، ذلك الجرحَ الذي ينزفُ في قصيدتي؟».
    4: وبعد تساؤلات التضاد، بسرد الشاعر المتكلّم الذي استمر طوال القصيدة كواحدٍ من هؤلاء الفتيان، يأتي ختامُ الجرّاح قصيدةَ الفتيان الدمشقيين الثوّار، بالحيرة بين ما حدث وما يمكن للنفس قسراً أو طوعاً أن تطمُرَه كما لم يحدث، حيث:
    «أخطو وأخالُ أننا لم نكن هنا يوماً/ وهذه الكسورُ في الأضلاع،/ والشمسُ التي اسودَّتْ في دمنا، ويبست على أرض المقتلة، لم تكن سوى سطرٍ في حكايةٍ رُوِيَتْ على فتيةٍ اضطجعوا في ظلال شجرةٍ على الطريق».
    وفي هز اليقين هذا بالمتضادات، يَدخلُ الجرّاح عوالم نهاية اليقين ونهاية الواقع مفتوحاً على واقعاته الافتراضية، وفق فلسفة فيزياء الكوانتوم، ويبتكر في هذا الدخول وضع دمشق ميّتةً حيَّة أمام تساؤلات صندوق الاحتمالات. ويفتح لدمشقِه المعلّقة بحضورها وغيابها في ذات الوقت عوالم متعدّدةً موازيةً يُخفيها ويُظهرها بها، في مخيّلة قصيدته، حيث: «تركتُ المساءَ يملأ الغرفة بحطام النجوم./ أتقلَّب/ وأنهض/ في أرضٍ أخرى».

    مستويات النزهة:
    وحيث لا محورَ من دون مستوياتهِ يوجدُ، ولا واسطةَ عقدٍ من غير حبّاتِ العقد، بقصد التساوق هنا؛ يلمسُ القارئ ويعيش متعة التناغم على اختلاف القصائد، بمميزات القصيدة التي ربما يصحّ القول بوصفها قصيدة اللوحة، حيث يقيم الجرّاح داخل قصيدته، وللقصائد مع بعضها، معرضاً فنياً تتلاحقُ فيه الجمل الشعرية التصويرية لوحاتٍ. تبدو متخالفةً في الظاهر لكنها سرعان ما تتجمع لتَكُون صورةً عامةً واحدةً، لا يجمعُها تشكيلُ تداخُلِها وتلاحُمها بالطبيعة وكائناتِها فحسب، وإنما يزيدها غنىٍ وتساوقاً وتناغماً، جريانُها باللغة البحرية التي تتدفّقُ موجاتٍ تُخبّئ صوت سفحها في لون زُمرّدها. وتتكسّر صامتةً مراتٍ تطلقُ بعدها صوتَ نفسِها، كما لو كانتْ خارجةً بألقها من صَدَفة بوتشيلي، حافلةً بأساطير بلاد البحر الأبيض المتوسط، وواسطةِ عِقْدها الأساطيرُ السوريةُ، وليس أقلّها بحث قدموس عن أخته التي اختطفها زيّوس متنكراً بهيئة ثورٍ، لتمنح أوروبا اسمها.
    وأكثر من ذلك في هذا الفرد والجمع والإثراء تشكيلاً صوَرياً ولغةً؛ يُتوّج الجرّاح مجموعةَ الخفاء والتجلّي في نزهة فتيانه الملتبسة، في دمشق والمهاجر والموت والحياة، بالتساؤلات التي تمسح الغموض والكشف بزيت سحر الشعر.
    وفي هذا التساوق المتناسق لا يغيب عن القارئ وإن لم يدركه مباشرةً تمايز ربط الحاضر بالتاريخ لدى الجرّاح من خلال اللغة، حيث لا يورد في صراعات ومواجهات الحاضر أيّاً من طائرات وقنابل وصواريخ وشتّى أشكال أسلحة ومدمّرات الحاضر. ويستبدلُها بأسلحة التاريخ، الأقواس، النّبال، الرماح، الحراب والأحصنة، ومن خلال مسمّيات المدن، مثلما يأتي بالعنوان: فتيةٌ من دورا أوروبُّوس هاربون من فيلقٍ ساسانيٍّ في صيدون، للتعبير عن الاحتلال الإيراني لسورية وميلشيات حزب الله التابعة له في لبنان.
    ولكي يتمّ السعيُ نحو الكمال حيث لا نهاية للكمال إلا الموت، تخرجُ مجموعة الجرّاح الصغيرة الكبيرة متألقةً بما يُغنيها، ممسوحةً بشفافيات الغموض ومتفجرةً في بواطنها الرخوة والقاسية برؤوس مسنَّنةٍ حادةٍ ممتَشَقةٍ كما حرابٍ وسهامٍ وأحصنةٍ وحمحماتٍ، في تشابكها بمعاني القصائد.

    نوري الجراح: «فتيان دمشقيون في نزهة»
    منشورات المتوسط: ميلانو 2024
    112 صفحة.
يعمل...
X