ماذا نفعل حتى لا يغدو الشعر قصيدة حزينة وبكاء على الأطلال
أزمة الشعر في مصر لها علاقة بالنشر والجودة والتوزيع والقراءة.
الجمعة 2024/06/14
نشر الشعر حكر على الأسماء التي تبيع
لا اختلاف على تراجع حضور الشعر في المدونة الأدبية العربية التي عرفت على أنها مدونة شعر، تراجع في المقروئية والانتشار علاوة على تراجع في القيمة رغم الطفرة العددية في كتّاب الشعر. عوامل كثيرة أدت إلى هذا و"العرب" تبحث في هذه العوامل مع عدد من الناشرين والشعراء المصريين.
القاهرة - أصبح واضحا لكل ذي عينين وجود أزمة في الشعر بمصر. أغلب دور النشر الخاصة تغلق الباب أمام المبدعين للتقدم بدواوين شعرية للنشر. والناشرون يقولون إن القراء لا يقبلون على الشراء، والمكتبات ترفض قبول دواوين الشعر، وبحساب المكاسب والأرباح هي كتب تخسر، بينما هناك سلاسل شعرية تصدر عن دور النشر الرسمية، لكن النشر فيها يستغرق سنوات قبل صدور الديوان.
يحدث ذلك في بلد صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي وصلاح جاهين وفؤاد حداد وسيد حجاب، وغيرهم الكثير من الأسماء اللامعة من شعراء الستينات وما بعدها، على مستوى شعر الفصحى والعامية. وللأزمة جوانب عديدة، لا تقف عند حدود النشر فحسب. ومن حين إلى آخر يبرز الحديث في الأمر للاستيعاب والفهم، على أمل الحل، حتى لا تغدو الأزمة قصيدة حزينة وبكاء على الأطلال.
أقامت مؤسسة بيت الحكمة للثقافة، والتي تم اختيارها أفضل ناشر مصري في الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، ندوة لمناقشة مختلف جوانب المسألة قبل أيام، وجاء عنوان الندوة في صيغة سؤال “هل الشعر خارج تفضيلات دور النشر؟”، ومن هذا السؤال تتفرع أسئلة كثيرة، هل الأزمة هي أزمة نشر أم توزيع أم قراءة أم أنها ترتبط بجودة المنتج نفسه؟
الظاهرة ليست مصرية أو عربية فقط وإنما عالمية، هذا ما يؤكده الشاعر المصري أحمد الشهاوي، موضحا أن دور النشر الفرنسية المهمة كان لها في الماضي سلاسل شعرية، اختفت الآن ولم تعد تصدر، ما عدا داري نشر هما الأكبر في العالم، ولم ينشر في إحداهما سوى شاعرين عربيين هما أدونيس ومحمود درويش، بالإضافة إلى نشر عيون الشعر في العالم، مثل شعر لوركا ونيرودا، فالناشر يعرف أن هذه الكتب ستباع. وأكبر الشعراء في العالم الآن لا ينشرون أكثر من ألف نسخة من دواوينهم.
أرقام فادحة وفاضحة
◙ عناوين مختلفة
وفي تفصيل المسألة مصريا وعربيا، يكشف الشهاوي أن الواقع يؤكد أن دور النشر ترفض الشعر، ونادرا ما نجد دارا تنشر شعرا. وتنقسم الدور التي تنشر الشعر في مصر إلى ثلاثة أقسام، الأول: دور النشر الرسمية التي تتبع وزارة الثقافة، متمثلة في الهيئة المصرية العامة للكتاب وهيئة قصور الثقافة، والثاني: دور النشر الخاصة، والثالث: النشر الذاتي، أي يذهب الشاعر إلى دار الكتب والوثائق القومية ليحصل على رقم إيداع لكتابه، وينشر ويوزّع الكتاب على نفقته الخاصة.
يقول الشهاوي “في زمني كان المعتاد طبع 3 آلاف نسخة من الديوان، لكن مع اعتماد الديجيتال وسيلة للطباعة أصبح ممكنا أن يصل عدد النسخ المطبوعة إلى خمس نسخ فقط، كما فعلت شاعرة أعرفها، والأرقام فادحة وفاضحة في ما يتعلق بالتكلفة التي يتحملها الشاعر، فنشر حوالي 150 نسخة يتطلب دفع نحو عشرة آلاف جنيه (نحو 200 دولار).
◙ هل الأزمة هي أزمة نشر أم توزيع أم قراءة أم أنها ترتبط بجودة المنتج نفسه؟
تمويل نشر الشعر من جانب الدولة، فكرة يؤيدها الشهاوي، على غرار بيت الشعر المغربي الذي ينشر للشعراء المغاربة بالتعاون مع وزارة الثقافة المغربية، قائلا “إن بيت الشعر في مصر فقير فكريا، وليس ماديا، لأنه لم ينشر كتابا واحدا. في الدنمارك يتم تقديم منح للشعراء، ليعيشوا طوال العمر دون أن يعملوا عملا سوى كتابة الشعر”. ويتساءل الشهاوي “إذا كانت كتب الشعر لا تباع كما يقال، فلماذا كانت تباع بكثافة في سلسلة مكتبة الأسرة (سلسلة مصرية). المهم هو الترويج للكتاب سواء أكان شعريا أو غير شعري، فإذا رُوّج له جيدا سوف يباع”.
يرى الشاعر والصحافي المصري عزمي عبدالوهاب أن المشكلة لا تخص نوعا أدبيا بعينه، إنما يمكن أن نذهب إلى أنها ترتبط بفنون القول عموما، فأين ذهب فن الكاريكاتير مثلا بعد بهجت وحجازي (رسامان شهيران في مصر رحلا عن الحياة منذ سنوات)، وجان بول سارتر الفيلسوف والكاتب الفرنسي الكبير لم يعد يُقرأ في باريس نفسها، كما أن الروايات التي تفوز بجوائز كبرى لدينا أثق أنها لا تطبع أكثر من خمسمئة نسخة، لأجل أن يتقدم بها صاحبها في جائزة خليجية.
“حرب شوارع الثقافة المصرية”، هذا عنوان مقال سابق للشاعر عزمي عبدالوهاب، تناول فيه المعارك والحروب بين الشعراء، وتقاتلهم على السفر والتكريم والمشاركة في المؤتمرات، وشيوع لماذا هو وليس أنا؟ ويقول عبدالوهاب الشعر أزمته أكبر من باقي الفنون، وهو ما يفسره بالحرب الموجهة إليه من داخله وخارجه، من النصوص نفسها وطبيعتها، ومن الشعراء وصراعاتهم، فهناك استسهال يجعل الشعر ضعيفا، والمقاطع القصيرة التي تنشر على فيسبوك صنعت أزمة للشعر الحقيقي، لأن ذلك ليس هو الشعر.
وبينما يُفترض عمومية أزمة القراءة، وشمولها مختلف فنون الكتابة، لا يفتأ بعض الشعراء يهاجمون الرواية بضراوة، ليس فقط لانتشارها الكبير في الوقت الحالي على حساب الشعر، إنما طعنا في جذورها.
ويثير عزمي عبدالوهاب الجدل بقوله إن الشعر “فن العربية الأول وسوف يظل، أما الرواية فهي فن مشبوه”، مستندا إلى رأي إدوارد سعيد (المفكر الفلسطيني – الأميركي) أن الرواية فن استعماري، نشأت وتطورت مع التوسع الاستعماري. ويضيف أن “رباعية الإسكندرية”، وهي سلسلة من أربع روايات للكاتب البريطاني لورانس داريل، في الأصل تقرير مخابراتي للكاتب الذي كان موظفا في وزارة المستعمرات البريطانية عن الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في مصر.
الإجابات اليقينية القاطعة، لا يملكها أحد، إلا اذا وُجدت أرقام وإحصاءات دقيقة، يمكن أن يستدلّ بها. أشرف عويس شاعر وناشر في الوقت نفسه، قدم من خلال تجربته مديرا لدار النسيم للنشر رؤية أخرى، مؤكدا أن الشعر ليس خارج حسابات وتفضيلات دور النشر كما يقال.
وخلال عشر سنوات، هي عمر دار النسيم المصرية، تم نشر 120 ديوان شعر، منها ديوانان مترجمان، وتشمل ثمانين ديوانا بالفصحى وأربعين بالعامية المصرية، كتبها 98 شاعرا مصريا و22 غير مصريين، منهم ثمانون شاعرا لهم أعمال سابقة وأسماؤهم لها اعتبارها في ساحة الشعر، بالإضافة إلى أربعين ديوانا لشعراء ينشرون لأول مرة.
النشر بمقابل
◙ دواوين تنشر بمقابل
يشير عويس إلى وجود دواوين تنشر بمقابل مادي يدفعه الشاعر، وأخرى تتحمل الدار تكلفتها كاملة، علما بأن النشر الممول موجود مصريا وعربيا ودوليا، والأزمة هي أزمة توزيع وقراءة، وإن كانت تبرز أكثر في الشعر، وفي الرواية يوجد كُتاب جيدون جدا، لا أحد يسمع عنهم أو يقرأ لهم.
دار النسيم ليست وحدها التي تهتم بنشر دواوين الشعر، بل إن هناك دورا أخرى، وإن كان عددها صغيرا بالطبع، وقد يرتبط ذلك بشخصية الناشر نفسه صاحب الدار. مرام الشاعر مسؤولة التسويق بدار بتانة للنشر، تقول إن الدار تحرص على وضع الدواوين الشعرية ضمن خططها للنشر، وتم نشر العديد منها، في ضوء حرص الدكتور عاطف عبيد مدير الدار على ذلك لمحبته الشعر.
تراجعت نسبة نشر الشعر في العالم من 11 في المئة من مجمل الكتب المنشورة إلى نسبة 6.5 في المئة. الشاعر والصحافي المصري مصطفى عبادة يعمل حاليا على إعداد كتاب عن الكتب والنشر، وتوصل خلال بحثه إلى نسب وإحصاءات مهمة، وفسر تراجع نسبة نشر الشعر في العالم وليس مصر وحدها بعدة عوامل، أهمها استحواذ دور النشر الكبيرة على الدور الصغيرة، والاتجاه إلى “الروبوت المؤلف”، فالكتابة تتم بواسطة الذكاء الاصطناعي في الشعر.
◙ تراجع نسبة نشر الشعر في العالم وليس مصر يعود إلى استحواذ دور النشر الكبيرة على الدور الصغيرة والاتجاه إلى "الروبوت المؤلف"
ويقول لـ”العرب” إن نسبة 20 في المئة من الكتب المعروضة على موقع أمازون هي كتب مؤلفة بواسطة الذكاء الاصطناعي، وهذه كارثة تهدد البشرية كلها، حتى أن العالم أصبح يتحدث ويناقش ما بعد الإنسانية.
مصطفى عبادة، نشر دواوين شعر من قبل، صادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة (رسمية) وعن دور نشر خاصة، يوضح أنه في ما يتعلق بالكتب في مصر والعالم العربي عموما، أن نسبة 90 في المئة من المنشور هو السرد (الرواية والقصة القصيرة)، ونسبة واحد في المئة في العلوم الإنسانية، ثم يأتي الشعر وكتب الطبخ والتنمية البشرية، معتبرا أن مشكلة العقل العربي أنه “حكّائي وليس تفكيريا".
ويتساءل قائلا “هل نحتاج إلى الحكايات أم الفكر، الآن نحتاج إلى كتب علم النفس والاجتماع لتفسر لنا واقع وشخصية المصريين بعد ثورتين في 2011 و2013، فهل هناك عالم في النفس أو الاجتماع فسر لنا مثلا تأثير الاحتكاك المباشر بين المصريين والشعوب المقيمة في مصر بشكل مستمر، مثل السوريين والسودانيين وغيرهما، هناك تأثير مهم يجب أن يُفهم في الثقافة والسلوك، والطعام الذي أصبح هجينا مع الأكلات السورية".
ويوضح عبادة لـ"العرب" أن مصر فيها خمسمئة قصر ثقافة، و26 فرعا للهيئة المصرية العامة للكتاب في القاهرة، ودار المعارف المصرية كذلك، ولا تتم الاستفادة من كل ذلك بشكل حقيقي، فالمسألة تحتاج إلى إعادة تشكيل بالكامل، والأزمة ليست أزمة الشعر فقط إنما هي أزمة تفكير أيضا.
محمد شعير
كاتب مصري
أزمة الشعر في مصر لها علاقة بالنشر والجودة والتوزيع والقراءة.
الجمعة 2024/06/14
نشر الشعر حكر على الأسماء التي تبيع
لا اختلاف على تراجع حضور الشعر في المدونة الأدبية العربية التي عرفت على أنها مدونة شعر، تراجع في المقروئية والانتشار علاوة على تراجع في القيمة رغم الطفرة العددية في كتّاب الشعر. عوامل كثيرة أدت إلى هذا و"العرب" تبحث في هذه العوامل مع عدد من الناشرين والشعراء المصريين.
القاهرة - أصبح واضحا لكل ذي عينين وجود أزمة في الشعر بمصر. أغلب دور النشر الخاصة تغلق الباب أمام المبدعين للتقدم بدواوين شعرية للنشر. والناشرون يقولون إن القراء لا يقبلون على الشراء، والمكتبات ترفض قبول دواوين الشعر، وبحساب المكاسب والأرباح هي كتب تخسر، بينما هناك سلاسل شعرية تصدر عن دور النشر الرسمية، لكن النشر فيها يستغرق سنوات قبل صدور الديوان.
يحدث ذلك في بلد صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي وصلاح جاهين وفؤاد حداد وسيد حجاب، وغيرهم الكثير من الأسماء اللامعة من شعراء الستينات وما بعدها، على مستوى شعر الفصحى والعامية. وللأزمة جوانب عديدة، لا تقف عند حدود النشر فحسب. ومن حين إلى آخر يبرز الحديث في الأمر للاستيعاب والفهم، على أمل الحل، حتى لا تغدو الأزمة قصيدة حزينة وبكاء على الأطلال.
أقامت مؤسسة بيت الحكمة للثقافة، والتي تم اختيارها أفضل ناشر مصري في الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، ندوة لمناقشة مختلف جوانب المسألة قبل أيام، وجاء عنوان الندوة في صيغة سؤال “هل الشعر خارج تفضيلات دور النشر؟”، ومن هذا السؤال تتفرع أسئلة كثيرة، هل الأزمة هي أزمة نشر أم توزيع أم قراءة أم أنها ترتبط بجودة المنتج نفسه؟
الظاهرة ليست مصرية أو عربية فقط وإنما عالمية، هذا ما يؤكده الشاعر المصري أحمد الشهاوي، موضحا أن دور النشر الفرنسية المهمة كان لها في الماضي سلاسل شعرية، اختفت الآن ولم تعد تصدر، ما عدا داري نشر هما الأكبر في العالم، ولم ينشر في إحداهما سوى شاعرين عربيين هما أدونيس ومحمود درويش، بالإضافة إلى نشر عيون الشعر في العالم، مثل شعر لوركا ونيرودا، فالناشر يعرف أن هذه الكتب ستباع. وأكبر الشعراء في العالم الآن لا ينشرون أكثر من ألف نسخة من دواوينهم.
أرقام فادحة وفاضحة
◙ عناوين مختلفة
وفي تفصيل المسألة مصريا وعربيا، يكشف الشهاوي أن الواقع يؤكد أن دور النشر ترفض الشعر، ونادرا ما نجد دارا تنشر شعرا. وتنقسم الدور التي تنشر الشعر في مصر إلى ثلاثة أقسام، الأول: دور النشر الرسمية التي تتبع وزارة الثقافة، متمثلة في الهيئة المصرية العامة للكتاب وهيئة قصور الثقافة، والثاني: دور النشر الخاصة، والثالث: النشر الذاتي، أي يذهب الشاعر إلى دار الكتب والوثائق القومية ليحصل على رقم إيداع لكتابه، وينشر ويوزّع الكتاب على نفقته الخاصة.
يقول الشهاوي “في زمني كان المعتاد طبع 3 آلاف نسخة من الديوان، لكن مع اعتماد الديجيتال وسيلة للطباعة أصبح ممكنا أن يصل عدد النسخ المطبوعة إلى خمس نسخ فقط، كما فعلت شاعرة أعرفها، والأرقام فادحة وفاضحة في ما يتعلق بالتكلفة التي يتحملها الشاعر، فنشر حوالي 150 نسخة يتطلب دفع نحو عشرة آلاف جنيه (نحو 200 دولار).
◙ هل الأزمة هي أزمة نشر أم توزيع أم قراءة أم أنها ترتبط بجودة المنتج نفسه؟
تمويل نشر الشعر من جانب الدولة، فكرة يؤيدها الشهاوي، على غرار بيت الشعر المغربي الذي ينشر للشعراء المغاربة بالتعاون مع وزارة الثقافة المغربية، قائلا “إن بيت الشعر في مصر فقير فكريا، وليس ماديا، لأنه لم ينشر كتابا واحدا. في الدنمارك يتم تقديم منح للشعراء، ليعيشوا طوال العمر دون أن يعملوا عملا سوى كتابة الشعر”. ويتساءل الشهاوي “إذا كانت كتب الشعر لا تباع كما يقال، فلماذا كانت تباع بكثافة في سلسلة مكتبة الأسرة (سلسلة مصرية). المهم هو الترويج للكتاب سواء أكان شعريا أو غير شعري، فإذا رُوّج له جيدا سوف يباع”.
يرى الشاعر والصحافي المصري عزمي عبدالوهاب أن المشكلة لا تخص نوعا أدبيا بعينه، إنما يمكن أن نذهب إلى أنها ترتبط بفنون القول عموما، فأين ذهب فن الكاريكاتير مثلا بعد بهجت وحجازي (رسامان شهيران في مصر رحلا عن الحياة منذ سنوات)، وجان بول سارتر الفيلسوف والكاتب الفرنسي الكبير لم يعد يُقرأ في باريس نفسها، كما أن الروايات التي تفوز بجوائز كبرى لدينا أثق أنها لا تطبع أكثر من خمسمئة نسخة، لأجل أن يتقدم بها صاحبها في جائزة خليجية.
“حرب شوارع الثقافة المصرية”، هذا عنوان مقال سابق للشاعر عزمي عبدالوهاب، تناول فيه المعارك والحروب بين الشعراء، وتقاتلهم على السفر والتكريم والمشاركة في المؤتمرات، وشيوع لماذا هو وليس أنا؟ ويقول عبدالوهاب الشعر أزمته أكبر من باقي الفنون، وهو ما يفسره بالحرب الموجهة إليه من داخله وخارجه، من النصوص نفسها وطبيعتها، ومن الشعراء وصراعاتهم، فهناك استسهال يجعل الشعر ضعيفا، والمقاطع القصيرة التي تنشر على فيسبوك صنعت أزمة للشعر الحقيقي، لأن ذلك ليس هو الشعر.
وبينما يُفترض عمومية أزمة القراءة، وشمولها مختلف فنون الكتابة، لا يفتأ بعض الشعراء يهاجمون الرواية بضراوة، ليس فقط لانتشارها الكبير في الوقت الحالي على حساب الشعر، إنما طعنا في جذورها.
ويثير عزمي عبدالوهاب الجدل بقوله إن الشعر “فن العربية الأول وسوف يظل، أما الرواية فهي فن مشبوه”، مستندا إلى رأي إدوارد سعيد (المفكر الفلسطيني – الأميركي) أن الرواية فن استعماري، نشأت وتطورت مع التوسع الاستعماري. ويضيف أن “رباعية الإسكندرية”، وهي سلسلة من أربع روايات للكاتب البريطاني لورانس داريل، في الأصل تقرير مخابراتي للكاتب الذي كان موظفا في وزارة المستعمرات البريطانية عن الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في مصر.
الإجابات اليقينية القاطعة، لا يملكها أحد، إلا اذا وُجدت أرقام وإحصاءات دقيقة، يمكن أن يستدلّ بها. أشرف عويس شاعر وناشر في الوقت نفسه، قدم من خلال تجربته مديرا لدار النسيم للنشر رؤية أخرى، مؤكدا أن الشعر ليس خارج حسابات وتفضيلات دور النشر كما يقال.
وخلال عشر سنوات، هي عمر دار النسيم المصرية، تم نشر 120 ديوان شعر، منها ديوانان مترجمان، وتشمل ثمانين ديوانا بالفصحى وأربعين بالعامية المصرية، كتبها 98 شاعرا مصريا و22 غير مصريين، منهم ثمانون شاعرا لهم أعمال سابقة وأسماؤهم لها اعتبارها في ساحة الشعر، بالإضافة إلى أربعين ديوانا لشعراء ينشرون لأول مرة.
النشر بمقابل
◙ دواوين تنشر بمقابل
يشير عويس إلى وجود دواوين تنشر بمقابل مادي يدفعه الشاعر، وأخرى تتحمل الدار تكلفتها كاملة، علما بأن النشر الممول موجود مصريا وعربيا ودوليا، والأزمة هي أزمة توزيع وقراءة، وإن كانت تبرز أكثر في الشعر، وفي الرواية يوجد كُتاب جيدون جدا، لا أحد يسمع عنهم أو يقرأ لهم.
دار النسيم ليست وحدها التي تهتم بنشر دواوين الشعر، بل إن هناك دورا أخرى، وإن كان عددها صغيرا بالطبع، وقد يرتبط ذلك بشخصية الناشر نفسه صاحب الدار. مرام الشاعر مسؤولة التسويق بدار بتانة للنشر، تقول إن الدار تحرص على وضع الدواوين الشعرية ضمن خططها للنشر، وتم نشر العديد منها، في ضوء حرص الدكتور عاطف عبيد مدير الدار على ذلك لمحبته الشعر.
تراجعت نسبة نشر الشعر في العالم من 11 في المئة من مجمل الكتب المنشورة إلى نسبة 6.5 في المئة. الشاعر والصحافي المصري مصطفى عبادة يعمل حاليا على إعداد كتاب عن الكتب والنشر، وتوصل خلال بحثه إلى نسب وإحصاءات مهمة، وفسر تراجع نسبة نشر الشعر في العالم وليس مصر وحدها بعدة عوامل، أهمها استحواذ دور النشر الكبيرة على الدور الصغيرة، والاتجاه إلى “الروبوت المؤلف”، فالكتابة تتم بواسطة الذكاء الاصطناعي في الشعر.
◙ تراجع نسبة نشر الشعر في العالم وليس مصر يعود إلى استحواذ دور النشر الكبيرة على الدور الصغيرة والاتجاه إلى "الروبوت المؤلف"
ويقول لـ”العرب” إن نسبة 20 في المئة من الكتب المعروضة على موقع أمازون هي كتب مؤلفة بواسطة الذكاء الاصطناعي، وهذه كارثة تهدد البشرية كلها، حتى أن العالم أصبح يتحدث ويناقش ما بعد الإنسانية.
مصطفى عبادة، نشر دواوين شعر من قبل، صادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة (رسمية) وعن دور نشر خاصة، يوضح أنه في ما يتعلق بالكتب في مصر والعالم العربي عموما، أن نسبة 90 في المئة من المنشور هو السرد (الرواية والقصة القصيرة)، ونسبة واحد في المئة في العلوم الإنسانية، ثم يأتي الشعر وكتب الطبخ والتنمية البشرية، معتبرا أن مشكلة العقل العربي أنه “حكّائي وليس تفكيريا".
ويتساءل قائلا “هل نحتاج إلى الحكايات أم الفكر، الآن نحتاج إلى كتب علم النفس والاجتماع لتفسر لنا واقع وشخصية المصريين بعد ثورتين في 2011 و2013، فهل هناك عالم في النفس أو الاجتماع فسر لنا مثلا تأثير الاحتكاك المباشر بين المصريين والشعوب المقيمة في مصر بشكل مستمر، مثل السوريين والسودانيين وغيرهما، هناك تأثير مهم يجب أن يُفهم في الثقافة والسلوك، والطعام الذي أصبح هجينا مع الأكلات السورية".
ويوضح عبادة لـ"العرب" أن مصر فيها خمسمئة قصر ثقافة، و26 فرعا للهيئة المصرية العامة للكتاب في القاهرة، ودار المعارف المصرية كذلك، ولا تتم الاستفادة من كل ذلك بشكل حقيقي، فالمسألة تحتاج إلى إعادة تشكيل بالكامل، والأزمة ليست أزمة الشعر فقط إنما هي أزمة تفكير أيضا.
محمد شعير
كاتب مصري