فَائق العَبُودي.. لعبة إيهامية وشفرات طلسمية
لوحات تطرح رموزا وثيمات مستوحاة من بلاد الرافدين.
الجمعة 2024/06/14
لوحة السلام أحدث أعمال العبودي
فائق العبودي فنان غادر بغداد لكنها لم تغادره، بل حمل العراق وحضارة بلاد الرافدين معه في غربته، فكان صوتها وأصبحت ألوانه ولوحاته رموزا وشيفرات وثيمات تعبر كلها عن بيئته وتنقلها إلى المتلقي وتثير في عقله تساؤلات عديدة وتستفزه كي يجد إجاباته الخاصة عليها.
لَمْ تَكنْ تجربة التشكيلي العراقي المغترب فائق العبودي في معرضه الأخير الذي أقامه في مدينة بابل الأثرية ضمن فعاليات مهرجان بابل للثقافات والفنون في أبريل الماضي، سوى ميلاد متواصل للمضمون الفني الذي كرس جهده فيه ليصبح له لونه الخاص وهويته الفنية وطريقته المؤثرة في ذلك.
لقد كان انحيازه في الغور بالأثر الرافدي واستنهاض الشفرات “الطلسمية” عبر أدوات فنية معاصرة يكشف مدى أهمية هذا الأثر ومدى قدرة الفنان على إقناع الآخر في تجربة تظهر كأنها حاضرة بتقنية الاشتعال وإبراز ملامح لها ثيمات خاصة ومرجعياتها المثيولوجية أو التاريخية، فثيمة الشكل في كل لوحة تسحبنا إلى سؤال مرجعي للمثلثات والمربعات، والكتابات المسمارية، والتعويذات، وغيرها. فإلى أي مدى يمكن التوصل إلى حقيقة هذه المضامين عبر المرجعيات هذه؟
العبودي يقودنا إلى جدل مفاهيمي وأعمال تطرح سؤالا معرفيا، وهنا تأتي طريقة الموضوع الذي اشتغل عليه بميزة التفكير
قد تُعَد هذه المرجعيات ضمن لعبة فائق العبودي الجمالية عَبرَ غواية اللون والعجائن والقماش والمكونات الأخرى، لذلك أجدني في مواجهة مع أعمال العبودي في قراءة تلد قراءة أخرى، خاصة عندما تصبح اللوحة في مشروع مطروح في فضاء واسع لتجربة شخصية (معرض شخصي). لذلك تعتبر اللوحة الفنية فضاءً مستقلا عن أيّ فضاء واقعي أو متخيل، ولكنها ما إن تعرض في صالة أو ساحة أو متحف حتى تكتسب الفضاء.
بحسب الناقد ياسين النصير، لوحات فائق العبودي اكتسبت صفة “البويطيقيا التشكيلية” لأنها أعطت صفة التلقي الجمالي والفني والإبداعي، وبالتالي نجد أنفسنا أمام لوحات في حالة تأملية مسترخية، ولكن اللعبة الإيهامية من قبل الفنان ذاته جعلتنا نتمعن في عمق الأداء وتقنية التجربة واستحضار الموضوع عنده، وبالتالي تصبح جميع الأعمال نصوصا لها جماليتها الخاصة ولها تكنيكها الخاص، ولا ضير في إضافة بعض الأشياء التي تلائم وحدة الموضوع لديه، لأن اللوحة مثل اللغة الشعرية تخضع للتحولات والإضافات عبر سمة التجريب.
لوحات المعرض الأخير للفنان اتسمت بإيقاع متناسق ومتقارب، وتأتي هذه ضمن وحدة الموضوع الذي كرّس جهده فيه، بل امتازت في الفترة الأخيرة بما تمتلكه من ملامح واضحة وبارزة، كما امتلكت تراسلا بصريا ملفتا للنظر إزاء ما جاءت به جميع المشتركات التي تخص الإنشاء والألوان والقماش والعجائن. وكان توظيف الألوان وتوزيعها بالشكل الذي شاهدناه يعطي دلالات فيها قصدية؛ بمعنى أن استخدام الألوان الحارة والمضيئة والبارزة مع الألوان الباردة ببروز كبير يعطي قناعة فحواها أنها تساهم عبر المنظور في التوهج البَصَري. كما أن الاشتغال على الاستعارة بوصفها تشبيها بليغا لطرفي الجمال يكشف قدرة الفنان على خلق عوالمه الجمالية وفق آليات قد تكون مكررة، لكنها مؤثرة في الاختيار.
هنا يأتي دور التجديدات والإضافات لتعكس رؤيا الفنان داخل لوحاته، وتشكيل الهوية الخاصة به. ومهما امتدت فرشاته في تثبيت ثيمات مضافة، فإن ذلك لا يخرج من ملامحه. وقد قدم فائق العبودي في معارضه الشخصية السابقة أو حتى في مشاركته الجماعية في معارض مشتركة ما يثبت إمساكه بجوهر مشروعه وطريقة تقديمه المعاصرة.
في معرضه الشخصي الأخير يقودنا التشكيلي فائق العبودي إلى جدل مفاهيمي وأعمال تطرح سؤالا معرفيا، وهنا تأتي طريقة الموضوع الذي اشتغل عليه بميزة التفكير وإثارة العلامات المستخدمة. ومهما طرحت هذه العلامات سمات الترميز والإيحاء وضرورة الأداء للأشكال المطروحة داخل اللوحات، فقد عبرت عن فحوى الهوية الكبرى لحضارة بلد ومرجعياته وأثره الكبير وآثاره عبر آلاف السنين، فالمعطى الحضاري عند استدعائه في حاضرنا الآن لا بد أن يواكب تقنية العصر داخل العمل التشكيلي.
وهذا ما قام به الفنان ليعبر عن جذره الأول وعن استنشاقه لحضارة الرافدين، مع أنه عاش في غربته سنوات طويلة وأتقن عبر بصره شواهد الفن الأوروبي، لكن هذا لم يجعله يغادر تكوينه الأول فكانت استعادته للأثر هي استعادة رحمية ساهمت في ترصين هويته التشكيلية عبر عقود.
ولد فائق العبودي في بغداد، ودرس الفنون الجميلة والتصوير الفوتوغرافي، ثم درس التصميم الطباعي في سويسرا، وحصل على بكالوريوس فنون من الجامعة العربية المفتوحة في شمال الولايات المتحدة.
يعيش الفنان في مدينة لوزان السويسرية منذ سنة 1999 وأسس فيها مركز “فضاء الشرق الثقافي”، ومجلة “ألوان ثقافية” وهي مجلة تهتم بالثقافة والإبداع والفنون. وشارك في عدد من المعارض الجماعية في مركز الفنون الجميلة في بغداد ما بين 1990 و1997. وأقام أول معرض شخصي له في العراق سنة 1996، وقدم أعماله الفنية في الإمارات العربية المتحدة سنة 1998 ثم في سويسرا وفرنسا اعتبارا من سنة 1999. وفي حصيلته اثنان وثلاثون معرضا شخصيا في دول عديدة. وهو عضو في عدد من أكاديميات الفنون الجميلة.
زهير الجبوري
كاتب وناقد عراقي
لوحات تطرح رموزا وثيمات مستوحاة من بلاد الرافدين.
الجمعة 2024/06/14
لوحة السلام أحدث أعمال العبودي
فائق العبودي فنان غادر بغداد لكنها لم تغادره، بل حمل العراق وحضارة بلاد الرافدين معه في غربته، فكان صوتها وأصبحت ألوانه ولوحاته رموزا وشيفرات وثيمات تعبر كلها عن بيئته وتنقلها إلى المتلقي وتثير في عقله تساؤلات عديدة وتستفزه كي يجد إجاباته الخاصة عليها.
لَمْ تَكنْ تجربة التشكيلي العراقي المغترب فائق العبودي في معرضه الأخير الذي أقامه في مدينة بابل الأثرية ضمن فعاليات مهرجان بابل للثقافات والفنون في أبريل الماضي، سوى ميلاد متواصل للمضمون الفني الذي كرس جهده فيه ليصبح له لونه الخاص وهويته الفنية وطريقته المؤثرة في ذلك.
لقد كان انحيازه في الغور بالأثر الرافدي واستنهاض الشفرات “الطلسمية” عبر أدوات فنية معاصرة يكشف مدى أهمية هذا الأثر ومدى قدرة الفنان على إقناع الآخر في تجربة تظهر كأنها حاضرة بتقنية الاشتعال وإبراز ملامح لها ثيمات خاصة ومرجعياتها المثيولوجية أو التاريخية، فثيمة الشكل في كل لوحة تسحبنا إلى سؤال مرجعي للمثلثات والمربعات، والكتابات المسمارية، والتعويذات، وغيرها. فإلى أي مدى يمكن التوصل إلى حقيقة هذه المضامين عبر المرجعيات هذه؟
العبودي يقودنا إلى جدل مفاهيمي وأعمال تطرح سؤالا معرفيا، وهنا تأتي طريقة الموضوع الذي اشتغل عليه بميزة التفكير
قد تُعَد هذه المرجعيات ضمن لعبة فائق العبودي الجمالية عَبرَ غواية اللون والعجائن والقماش والمكونات الأخرى، لذلك أجدني في مواجهة مع أعمال العبودي في قراءة تلد قراءة أخرى، خاصة عندما تصبح اللوحة في مشروع مطروح في فضاء واسع لتجربة شخصية (معرض شخصي). لذلك تعتبر اللوحة الفنية فضاءً مستقلا عن أيّ فضاء واقعي أو متخيل، ولكنها ما إن تعرض في صالة أو ساحة أو متحف حتى تكتسب الفضاء.
بحسب الناقد ياسين النصير، لوحات فائق العبودي اكتسبت صفة “البويطيقيا التشكيلية” لأنها أعطت صفة التلقي الجمالي والفني والإبداعي، وبالتالي نجد أنفسنا أمام لوحات في حالة تأملية مسترخية، ولكن اللعبة الإيهامية من قبل الفنان ذاته جعلتنا نتمعن في عمق الأداء وتقنية التجربة واستحضار الموضوع عنده، وبالتالي تصبح جميع الأعمال نصوصا لها جماليتها الخاصة ولها تكنيكها الخاص، ولا ضير في إضافة بعض الأشياء التي تلائم وحدة الموضوع لديه، لأن اللوحة مثل اللغة الشعرية تخضع للتحولات والإضافات عبر سمة التجريب.
لوحات المعرض الأخير للفنان اتسمت بإيقاع متناسق ومتقارب، وتأتي هذه ضمن وحدة الموضوع الذي كرّس جهده فيه، بل امتازت في الفترة الأخيرة بما تمتلكه من ملامح واضحة وبارزة، كما امتلكت تراسلا بصريا ملفتا للنظر إزاء ما جاءت به جميع المشتركات التي تخص الإنشاء والألوان والقماش والعجائن. وكان توظيف الألوان وتوزيعها بالشكل الذي شاهدناه يعطي دلالات فيها قصدية؛ بمعنى أن استخدام الألوان الحارة والمضيئة والبارزة مع الألوان الباردة ببروز كبير يعطي قناعة فحواها أنها تساهم عبر المنظور في التوهج البَصَري. كما أن الاشتغال على الاستعارة بوصفها تشبيها بليغا لطرفي الجمال يكشف قدرة الفنان على خلق عوالمه الجمالية وفق آليات قد تكون مكررة، لكنها مؤثرة في الاختيار.
هنا يأتي دور التجديدات والإضافات لتعكس رؤيا الفنان داخل لوحاته، وتشكيل الهوية الخاصة به. ومهما امتدت فرشاته في تثبيت ثيمات مضافة، فإن ذلك لا يخرج من ملامحه. وقد قدم فائق العبودي في معارضه الشخصية السابقة أو حتى في مشاركته الجماعية في معارض مشتركة ما يثبت إمساكه بجوهر مشروعه وطريقة تقديمه المعاصرة.
في معرضه الشخصي الأخير يقودنا التشكيلي فائق العبودي إلى جدل مفاهيمي وأعمال تطرح سؤالا معرفيا، وهنا تأتي طريقة الموضوع الذي اشتغل عليه بميزة التفكير وإثارة العلامات المستخدمة. ومهما طرحت هذه العلامات سمات الترميز والإيحاء وضرورة الأداء للأشكال المطروحة داخل اللوحات، فقد عبرت عن فحوى الهوية الكبرى لحضارة بلد ومرجعياته وأثره الكبير وآثاره عبر آلاف السنين، فالمعطى الحضاري عند استدعائه في حاضرنا الآن لا بد أن يواكب تقنية العصر داخل العمل التشكيلي.
وهذا ما قام به الفنان ليعبر عن جذره الأول وعن استنشاقه لحضارة الرافدين، مع أنه عاش في غربته سنوات طويلة وأتقن عبر بصره شواهد الفن الأوروبي، لكن هذا لم يجعله يغادر تكوينه الأول فكانت استعادته للأثر هي استعادة رحمية ساهمت في ترصين هويته التشكيلية عبر عقود.
ولد فائق العبودي في بغداد، ودرس الفنون الجميلة والتصوير الفوتوغرافي، ثم درس التصميم الطباعي في سويسرا، وحصل على بكالوريوس فنون من الجامعة العربية المفتوحة في شمال الولايات المتحدة.
يعيش الفنان في مدينة لوزان السويسرية منذ سنة 1999 وأسس فيها مركز “فضاء الشرق الثقافي”، ومجلة “ألوان ثقافية” وهي مجلة تهتم بالثقافة والإبداع والفنون. وشارك في عدد من المعارض الجماعية في مركز الفنون الجميلة في بغداد ما بين 1990 و1997. وأقام أول معرض شخصي له في العراق سنة 1996، وقدم أعماله الفنية في الإمارات العربية المتحدة سنة 1998 ثم في سويسرا وفرنسا اعتبارا من سنة 1999. وفي حصيلته اثنان وثلاثون معرضا شخصيا في دول عديدة. وهو عضو في عدد من أكاديميات الفنون الجميلة.
زهير الجبوري
كاتب وناقد عراقي