غلاف كتاب فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية للغزالي (الجزيرة)
شيء من الفكر السياسي لأبي حامد الغزالي!6/6/2024
في كتابه "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية"، أفرد شيخ الإسلام أبو حامد الغزالي (توفي 505 هجرية، 1111م)، فصلا يتحامى فيه لصالح شرعية الدولة العباسية في زمنه.
ولا يخفى على القارىء أن الغاية من الكتاب هي التصدي لمقالات وعقائد الفرق الشيعية الباطنية، وبالتحديد الإسماعيليين الفاطميين الذين شكلوا تهديدا مذهبيا وسياسيا وعسكريا مقلقا للخلافة في بغداد.
يتوزع الكتاب إلى عشرة فصول، ثمانية منها للحديث عن الباطنية والتعريف بمذهبهم وحججهم والرد عليها وإبطالها، والتاسع للبرهنة على أن الإمام الحق في عصره هو الخليفة العباسي المستظهر بالله، والعاشر لتوضيح الوظائف الدينية التي تكفل لمن يواظب عليها استحقاق الإمامة.
والغزالي درس المنطق واعتبره مقدمة للعلوم كلها، والمثقف العرفاني متعدد المشارب والذي تلتقي فيه تأثيرات يونانية وفارسية وهرمسية.
ويمكن تلخيص الاعتبارات التي ساقها الغزالي -الشافعي مذهبا الأشعري عقيدة- لترجيح موقفه المساند للخليفة المستظهر بالله، في نقطتين، الأولى أن العباسيين كانت لهم "الشوكة"، والثانية وأن هذه "الشوكة" إلى جانب ذلك مدعومة من "أكثرية" المسلمين.
حينها لم تكن دولة بني العباس في أحسن أحوالها، وهي التي انتقلت للتو من هيمنة السلاطين البويهيين الإيرانيين "الشيعة" إلى هيمنة السلاطين السلاجقة الأتراك "السنة" الذين كان يكن لهم الغزالي ولاء خاص بوصفهم "سلاطين" و"ملوك" إلى جانب ولائه للخليفة العباسي بوصفه "إمام" المسلمين ورمز وحدتهم.
اشتهر الغزالي بكونه الفقيه والمتكلم والمربي المسلم الذي استعان بالفلسفة في حربه على الفلسفة. وفي كتابه "تهافت الفلاسفة" حكم بكفر طائفة من الفلاسفة (لا سيما أبي نصر الفارابي وابن سينا، وعلاقة هذا الأخر بالإسماعيلية كانت أوضح من علاقة الفارابي).
والغزالي درس المنطق واعتبره مقدمة للعلوم كلها، والمثقف العرفاني متعدد المشارب والذي تلتقي فيه تأثيرات يونانية وفارسية وهرمسية.
أغلبية أهل السنة -من الناحية الاسمية- يقولون بالاختيار والشورى كشرط أساسي للإمامة الصحيحة، بغض النظر عما يقصدونه عمليا بهذا الشرط، مع التذكير بحقيقة أن قضية الإمامة والخلافة لديهم تنتمي إلى فقه المصالح ومجالها الظن، لا إلى العقائد.
بشأن الإمامة، وهو ما يهمنا الآن، كتب الغزالي قائلا: "وإذا كانت الإمامة تقوم بالشوكة، وإنما تقوى الشوكة بالمظاهرة والمناصرة والكثرة في الأتباع والأشياع وتناصر أهل الاتفاق والاجتماع، فهذا أقوى مسلك من مسالك الترجيح". (الغزالي، فضائح الباطنية، ص173)
نفهم من هذا أن "الشوكة" -والتي تعني القوة المادية والتغلب وما في حكمهما- وسيلة مشروعة لقيام الإمامة، ومعنى "الشوكة" يكاد يطابق معنى "العصبية" في فكر ابن خلدون الذي جاء بعد الغزالي بنحو قرنين.
إلا أن الشوكة وحدها عند الغزالي كما لاحظنا لا تكفي، وإنما يجب أن يحصل "صاحبها" على رضا ومشايعة الأكثرية من المحكومين.
بمعنى أن يحصل على شيء من "الولاء" الطوعي، وهو لن يحصل على شيء كهذا إلا بحسن الرئاسة والسياسة.
اللفظ "إمام" يأتي هنا بمعنى الحاكم، صاحب الولاية العامة [الدولة].
يبدو من النص في كتاب الغزالي كما لو أنه يقترب خطوة أولى نحو ما يسمى بـ المنطق الديمقراطي بمدلوله البسيط الحديث الذي تتحقق فيه شرعية الحاكم بحصوله على أغلبية أصوات المحكومين. نظريا، هذا صحيح إلى حد ما.
وليس في الأمر ما يستدعي العجب، إذا ما علمنا أن أغلبية أهل السنة -من الناحية الاسمية- يقولون بالاختيار والشورى كشرط أساسي للإمامة الصحيحة، بغض النظر عما يقصدونه عمليا بهذا الشرط، مع التذكير بحقيقة أن قضية الإمامة والخلافة لديهم تنتمي إلى فقه المصالح ومجالها الظن، لا إلى العقائد، بينما تنتمي لدى الشيعة إلى العقائد وأصول الدين، ويقولون -أي الشيعة- أنها منعقدة بالنص في علي وذريته، والإمام العلوي المنصوص عليه عندهم "هو محق سواء بويع أو لم يبايع، قل مبايعوه أو كثروا".
شرط ابتداء الانعقاد (انعقاد الإمامة) قيام الشوكة وانصراف القلوب إلى المشايعة ومطابقة البواطن والظواهر على المبايعة، فإن المقصود الذي طلبنا له الإمام جمع شتات الآراء في مصطدم تعارُض الأهواء
وحتى عند الزيدية، لم يكن الاختيار شرطا لصحّة الإمامة على الإطلاق. على أن فقهاء أهل السنة، وعلى الرغم من قولهم بالاختيار والاجماع، كانوا يعلمون في الحقيقة أنه من المتعذر إخضاع (الإمامة/ الخلافة) لهذا الاختبار العسير، لأن ذلك سيفضي إلى الحكم ببطلانها بناء على انتفاء شرط الإجماع.- الغزالي
ولهذا كان يكفيهم أن يشهدوا ما يدل على استتباب الأمر في الأقاليم لحكم الخليفة أو السلطان "المتغلب"، واتفاق عقيدته المعلنة مع المنظور السني العام للإسلام، كي تحظى خلافته بالاعتراف الشرعي، ويندب المسلمون لطاعته.
وكي تتضح مقالة الغزالي في السياسة أكثر، يجب قراءة هذه الفقرة: "فإن شرط ابتداء الانعقاد (انعقاد الإمامة) قيام الشوكة وانصراف القلوب إلى المشايعة ومطابقة البواطن والظواهر على المبايعة، فإن المقصود الذي طلبنا له الإمام جمع شتات الآراء في مصطدم تعارُض الأهواء، ولا تتفق الإرادات المتناقضة والشهوات المتباينة المتنافرة على متابعة رأي واحد إلا إذا ظهرت شوكته وعظمت نجدته وترسخت في النفوس رهبته ومهابته. ومدار جميع ذلك على الشوكة، ولا تقوم الشوكة إلا بموافقة الأكثرين من معتبري كل زمان". (فضائح الباطنية، ص177)
على أن حصول "الموافقة" و "المشايعة" التي يشدد الغزالي عليها لإسناد "صاحب الشوكة" وتثبيت إمامته، إنما تدرك بالدلائل العقلية الكلية أو عن طريق الحدس وليس بالإحصاء والعدد.
أي أن برهانها في ذلك الوقت ينبني على شعور الخاصة بالانتظام الظاهر للأمور في الأقطار الواقعة تحت سلطان الخليفة بما يحقق المصالح ويحمي "بيضة المسلمين".
فكان الانتظام -ولو في الحد الأدنى- دليل على كفاية السياسة وشرعية الدولة على النمط الامبراطوري الإسلامي.
هناك إشارة من الغزالي نفسه تفيد الإقرار في زمنه باستحالة تنظيم ما نسميها اليوم "عملية انتخابية" شاملة لإثبات أو نفي حقيقة الإجماع، فإن ذلك كما يقول الغزالي "غير ممكن ولا مقدور لأحد من الأئمة، ولا فرض ذلك أيضا في الأعصار الخالية للأئمة الماضين. وباطل أن يعتبر إجماع أهل الحل والعقد في جميع أقطار الأرض لأن ذلك مما يمتنع أو يتعذر تعذرا يفتقر فيه إلى انتظار مدة عساها تزيد على عمر الإمام، فتبقى الأمور في مدة الانتظار مهملة". (فضائح الباطنية، ص175)
لقد كان الغزالي على علم بصعوبة تحويل مبدأ الإجماع والاختيار -رغم إيمانه به- إلى ممارسة عملية حقيقية في زمنه.
وقد لجأ غير مرة إلى الاستدلال بالوقائع لسد النقص الواضح الذي يعتري حججه العقلية المجردة.
يلاحظ المستشرق جيب، أن النظرية السياسية الأشعرية بدأت من الماوردي يليه الجويني ومن ثم الغزالي، وكان ابن جماعة في كتابه تحرير "الأحكام" ذروة الواقعية السنية الأشعرية. (هاملتون جيب، دراسات في حضارة الاسلام، ص188)
(الطبيعة الإنسانية لا تتحمل النظام الأسمى، أي الخلافة)، فقد كان (الوعي بهذه النقطة هو الذي دفع الفقهاء إلى إهمال مسألة الخلافة)
- العروري
علينا أن نتذكر أن الأصول الأربعة عند أهل السنة في الفقة كما حددها الشافعي هي: الكتاب والسنة والاجماع والقياس، ويذهب جورج مقدسي إلى أن "الإجماع" هو "وحده العلامة المميزة للتسنن"، وينقل عن المستشرق جولدتسيهر أن التسنن "هو كنيسة الإجماع"، والتشيع "كنيسة السلطة المرجعية". (جورج مقدسي، "الإسلام الحنبلي"، ص107)
وهكذا؛ فمن الناحية النظرية، يقول الفقيه السني أن صحة الإمامة تتوقف على حصول الاجماع والاختيار من قبل "أهل الحل والعقد" على الأقل وفقا لما جرت عليه الأمور في بيعة أبو بكر الصديق، غير أنه سيشفع هذا القول بتذكيرك أن الضرورة العملية تقتضي، في أغلب الأحيان، الإغضاء عن هذا الشرط والتصرف بإيجابية حيال الأمر الواقع.
لننظر كذلك إلى ما يقوله الغزالي في موضع آخر من كتابه كما لو كان ينطق بلسان أهل السُنّة: "إننا نراعي الصفات والشروط في السلاطين تشوفا إلى مزايا المصالح، ولو قضينا ببطلان الولايات الآن لبطلت المصالح رأسا، فكيف يفوّت رأس المال في طلب الربح".
عبد الله العروي اعتبر كلام الغزالي أعلاه تعليلا واضحا "لضرورة التكيف مع الواقع".
وبما أن "الطبيعة الإنسانية لا تتحمل النظام الأسمى، أي الخلافة"، فقد كان "الوعي بهذه النقطة هو الذي دفع الفقهاء إلى إهمال مسألة الخلافة". (العروي، مفهوم الدولة، ص135)
العروي يقصد إهمال فقهاء أهل السنة لـ الخلافة كـ طوبى ومثال متخيل. وكان عليه إضافة أن هذا الموقف المتهاون هو الذي أطلق العنان للتكيف العقلاني في كل عصر مع الصيغ الممكنة التي يبتكرها الإنسان للإجتماع السياسي بما يحفظ الحقوق والمصالح العامة ويصون كرامة الأفراد.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
محمد العلائي
كاتب وباحث يمني