.رحلة التلاشي...
1- التكوين..
من بين عدد لايحصى من حبّات الرمل ،بالقرب من ساحل البحر المالح ، ساقني المدُّ أو الجزر ، لا أذكر في حينها،من فتحة ضيقة ، الى داخل هُلامي،احاط بي من كل جانب،يحرّكني عن موضعي بين جدران صلدة برّاقة ، محاولا قذفي الى الخارج ، ثمّ يجعلني ساكنا بعد ان ييأس من محاولاته،يحيطني بنسيج ستائري ، يفرز حولي طبقات متتابعة من سائل جيلاتيني،كنت اسبح بداخله في البداية ،ثمّ مالبث طويلا حتّى بدأ يتماسك ويشتد صلابة ،يتكوّر حولي رويدا رويدا ويأخذ شكل كرة ملساء ، يزداد جسدها نعومة وبريقا بمرور الوقت ،وحين اكتملت دورة حياتها، وصارت تنتظرمن يقتنصها،اتاها من يخرجها من القاع ، ليعرج بها الى الفضاء الارحب ،صاحب الحظ السعيد فتح بابها ، واطلق سراحها ، مبتهجا،ثمّ ضمّها الى اخواتها، فصارت واحدة منهن.
2- في السّوق...
بعد ان تداولتني ايادي الطوّاشّة *1 في دول الخليج ، منها ماكان نظيفا،ومنها ماكان قذرا ، انتهى بي المطاف الى سوق صياغة الذهب والمجوهرات ، في محلّة باب الطوب، في مدينة الموصل، كانت قلادة اللؤلؤ، من المجوهرات البارزة ، تتلألأ بين المصوغات الذهبية الخالصة، أوالمطعّمة بالأحجار الكريمة ،تشغل حيزا بارزا خلف الواجهة الزجاجية لمحل الصائغ،ينعكس عنها الضوء ، فتحيطها هالة من البريق والسحر فتبدو للناظر وكأنّها تتحدث.
حينما كانت الموصل مدينة عامرة ، اشترى احد اثريائها عقد اللؤلؤ،وقدّمه كهدية لزوجته ، للتعبير عن حبّه لها، فرحتْ به كثيرا ولم تدعْه يفارق عنقها منذ ذلك الحين.
3- داعش والخضراء...
هذا العنوان يعيدنا الى الوراء ، حيث عصر الجاهلية،لانّه يرادف داحس والغبراء ، ويذكّرنا بحرب استمرت اربعين سنة،كان سببها تسابق بين حصان داحس والفرس الغبراء ، على رهان بين طرفي النزاع عبس وذبيان ، لحراسة قوافل النعمان بن المنذر،
كنت في عنق الزوجة ، حين دخلت العصابة الى بيت الثري الموصلي،عناصرها قد اطلقوا للشعر الكثيف العنان في لحاهم ورؤوسهم ، ملامحهم وهيئاتهم تثير الرعب والخوف في النفوس، خصوصا وان اخبارهم قد سبقتْ بوصف افعالهم ، إنّهم ينحرون الانسان نحرا دونما وازع او رادع، اعتقلوا الثري الموصلي واقتادوه الى جهة مجهولة،غيّبوه عن عائلته واخذوا يطالبونها بالفدية مقابل اطلاق سراحة، وكانت العائلة تدفع وتدفع حتى استنفدتْ كلّ مالديها من اموال، وفقدتْ الامل ، حينها عثر الناس على جثته ملقية على قارعة الطريق.
كانت الايام تجثم على صدور اهل الموصل بثقلها، وهم بين نارين نار داعش من داخل المدينة، ونارالقذائف والصواريخ من خارج المدينة ومن سمائها،كانوا يطلبون من الناس ان يمكثوا في بيوتهم لايغادرونها!! وفيها عناصر داعش تمنعهم من الفرار كذلك، حتى استحالت المدينة الى ركام.
كنت اشعر بما يجول في صدر زوجة الثري ، واتحسس مدى المعاناة والألم ،وانا اتدلّى مع عقد اللؤلؤ من عنقها الى صدرها، قررتْ بعد ان اقترب القصف من بيتها ، ان تجازف بنفسها وببناتها الاربعة وان تخرج من المدينة بأقصى ماتملك من طاقة،وفعلا استطاعت وبناتها الافلات من بين فكّي الموت،وقررت مغادرة العراق عن طريق مدينة زاخو الحدودية في اقصى الشمال الى تركيا.
4- الرحلة...
لم تمكث ارملة الثري الموصلي كثيرا في تركيا، لصعوبة العيش بدون مورد مالي مستمر، فقررت الهجرة مع بناتها الى اوربا عن طريق البحر الى اليونان،وفي الطريق الى جزيرة كوس اليونانية،اهتزّ قارب الهاربين من الجحيم، جحيم الحرب في العراق سوريا ، بفعل تيارات مائية خطيرة ، سببتها ريح عاصفة، فانقلبت لتلقي بماعلى ظهرها من النساء والاطفال والرجال، في بحر ايجة.
كنت شاهدا على اختناق ارملة الثري الموصلية ،لأني كنت عالقا في عنقها،لحظات تمتنع عن الشهيق كي لا يدخل الماء الى رئتيها، لكنّها تضطر اخيرا لاستنشاق الماء رغبة في الحياة ، تمتلئ و تمتلئ ، فتنازع العذاب حتى تموت،وبمرور الوقت تتفسخ جثتها ،وتعتاش عليها الاسماك،حتى اذا مابقي منها الا النصف التهمها الحوت،كنت اشعر وانا معها في بطنه، انّه يفرز احماضا ، جعلت عقد اللؤلؤ يتحلل ، ثمّ رويدا رويدا يتلاشى ، فعدت انا كما كنت ، مجرّد حبّة رمل.
*1 الطوّاشّة: جمع مفرده طوّاش: تاجر اللؤلؤ.
القاص والناقد العراقي
اسماعيل آل رجب
تشرين
1- التكوين..
من بين عدد لايحصى من حبّات الرمل ،بالقرب من ساحل البحر المالح ، ساقني المدُّ أو الجزر ، لا أذكر في حينها،من فتحة ضيقة ، الى داخل هُلامي،احاط بي من كل جانب،يحرّكني عن موضعي بين جدران صلدة برّاقة ، محاولا قذفي الى الخارج ، ثمّ يجعلني ساكنا بعد ان ييأس من محاولاته،يحيطني بنسيج ستائري ، يفرز حولي طبقات متتابعة من سائل جيلاتيني،كنت اسبح بداخله في البداية ،ثمّ مالبث طويلا حتّى بدأ يتماسك ويشتد صلابة ،يتكوّر حولي رويدا رويدا ويأخذ شكل كرة ملساء ، يزداد جسدها نعومة وبريقا بمرور الوقت ،وحين اكتملت دورة حياتها، وصارت تنتظرمن يقتنصها،اتاها من يخرجها من القاع ، ليعرج بها الى الفضاء الارحب ،صاحب الحظ السعيد فتح بابها ، واطلق سراحها ، مبتهجا،ثمّ ضمّها الى اخواتها، فصارت واحدة منهن.
2- في السّوق...
بعد ان تداولتني ايادي الطوّاشّة *1 في دول الخليج ، منها ماكان نظيفا،ومنها ماكان قذرا ، انتهى بي المطاف الى سوق صياغة الذهب والمجوهرات ، في محلّة باب الطوب، في مدينة الموصل، كانت قلادة اللؤلؤ، من المجوهرات البارزة ، تتلألأ بين المصوغات الذهبية الخالصة، أوالمطعّمة بالأحجار الكريمة ،تشغل حيزا بارزا خلف الواجهة الزجاجية لمحل الصائغ،ينعكس عنها الضوء ، فتحيطها هالة من البريق والسحر فتبدو للناظر وكأنّها تتحدث.
حينما كانت الموصل مدينة عامرة ، اشترى احد اثريائها عقد اللؤلؤ،وقدّمه كهدية لزوجته ، للتعبير عن حبّه لها، فرحتْ به كثيرا ولم تدعْه يفارق عنقها منذ ذلك الحين.
3- داعش والخضراء...
هذا العنوان يعيدنا الى الوراء ، حيث عصر الجاهلية،لانّه يرادف داحس والغبراء ، ويذكّرنا بحرب استمرت اربعين سنة،كان سببها تسابق بين حصان داحس والفرس الغبراء ، على رهان بين طرفي النزاع عبس وذبيان ، لحراسة قوافل النعمان بن المنذر،
كنت في عنق الزوجة ، حين دخلت العصابة الى بيت الثري الموصلي،عناصرها قد اطلقوا للشعر الكثيف العنان في لحاهم ورؤوسهم ، ملامحهم وهيئاتهم تثير الرعب والخوف في النفوس، خصوصا وان اخبارهم قد سبقتْ بوصف افعالهم ، إنّهم ينحرون الانسان نحرا دونما وازع او رادع، اعتقلوا الثري الموصلي واقتادوه الى جهة مجهولة،غيّبوه عن عائلته واخذوا يطالبونها بالفدية مقابل اطلاق سراحة، وكانت العائلة تدفع وتدفع حتى استنفدتْ كلّ مالديها من اموال، وفقدتْ الامل ، حينها عثر الناس على جثته ملقية على قارعة الطريق.
كانت الايام تجثم على صدور اهل الموصل بثقلها، وهم بين نارين نار داعش من داخل المدينة، ونارالقذائف والصواريخ من خارج المدينة ومن سمائها،كانوا يطلبون من الناس ان يمكثوا في بيوتهم لايغادرونها!! وفيها عناصر داعش تمنعهم من الفرار كذلك، حتى استحالت المدينة الى ركام.
كنت اشعر بما يجول في صدر زوجة الثري ، واتحسس مدى المعاناة والألم ،وانا اتدلّى مع عقد اللؤلؤ من عنقها الى صدرها، قررتْ بعد ان اقترب القصف من بيتها ، ان تجازف بنفسها وببناتها الاربعة وان تخرج من المدينة بأقصى ماتملك من طاقة،وفعلا استطاعت وبناتها الافلات من بين فكّي الموت،وقررت مغادرة العراق عن طريق مدينة زاخو الحدودية في اقصى الشمال الى تركيا.
4- الرحلة...
لم تمكث ارملة الثري الموصلي كثيرا في تركيا، لصعوبة العيش بدون مورد مالي مستمر، فقررت الهجرة مع بناتها الى اوربا عن طريق البحر الى اليونان،وفي الطريق الى جزيرة كوس اليونانية،اهتزّ قارب الهاربين من الجحيم، جحيم الحرب في العراق سوريا ، بفعل تيارات مائية خطيرة ، سببتها ريح عاصفة، فانقلبت لتلقي بماعلى ظهرها من النساء والاطفال والرجال، في بحر ايجة.
كنت شاهدا على اختناق ارملة الثري الموصلية ،لأني كنت عالقا في عنقها،لحظات تمتنع عن الشهيق كي لا يدخل الماء الى رئتيها، لكنّها تضطر اخيرا لاستنشاق الماء رغبة في الحياة ، تمتلئ و تمتلئ ، فتنازع العذاب حتى تموت،وبمرور الوقت تتفسخ جثتها ،وتعتاش عليها الاسماك،حتى اذا مابقي منها الا النصف التهمها الحوت،كنت اشعر وانا معها في بطنه، انّه يفرز احماضا ، جعلت عقد اللؤلؤ يتحلل ، ثمّ رويدا رويدا يتلاشى ، فعدت انا كما كنت ، مجرّد حبّة رمل.
*1 الطوّاشّة: جمع مفرده طوّاش: تاجر اللؤلؤ.
القاص والناقد العراقي
اسماعيل آل رجب
تشرين