مسيرة عميد الأدب المغربي:عَبّاس الجَرّاري..كَرَّس حياته العلمية للاشتغال بالأدب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مسيرة عميد الأدب المغربي:عَبّاس الجَرّاري..كَرَّس حياته العلمية للاشتغال بالأدب



    مريم دمنوتي

    عَبّاس الجَرّاري: العَالِمُ المُتنوٍّرُ وأستاذ الأجيال
    يقترن الأدب المغربي باسم عبّاس الجَرّاري، فكلّما ذُكِرَ اسم عبّاس الجَرّاري ذُكِر معه. وكلّما أُثير الحديث عن الأدب المغربي حضر اسمه، حتّى لُقِّب بعميد الأدب المغربي. وهو لقب انتزعه في الساحة الثقافية المغربية عن جدارة واستحقاق. كَرَّس حياته العلمية للاشتغال بقضايا الأدب المغربي، تدريسا وتأليفا وإشرافا على العديد من الرسائل والأطاريح الجامعية. يُعدّ الجَرّاري ذاكرة حيّة للأدب المغربي بشِقّيه الشعري والنثري، كما يظهر ذلك جليّا من خلال مؤلفاته العديدة التي تُعبّرعن سعة معارفه، وعُمق ثقافته الأدبية ومدى تنوعها من النقد الأدبي إلى أدب الرحلة والسيرة الذاتية والشعر والتراجم وتاريخ الأدب وقضايا الفكر الإسلامي. ومن بين هذه المؤلفات، نذكر على سبيل المثال لا الحصر: «القصيدة: الزجل في المغرب» 1970، «الحرية والأدب»1971، «موشحات مغربية» 1973، «الأمير الشاعر أبو عبد الربيع سليمان الموحدي» 1974، «الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه» 1979، «في الإبداع الشعبي»1988، «رحيق العمر موجز سيرتي الذاتية» 2020، وغيرها من المؤلفات القيمة.

    فكما يعلم الجميع، أن الأديب عَبَّاس الجَرَّاري – رحمه الله – رجل دولة، فقد تمّ تعيينه مستشارا للملك محمد السادس في التاسع والعشرين من مارس/آذار 2000. ومع ذلك، لم تمنعه المَهام الجسيمة والمسؤوليّات الكبيرة، من الاستمرار فاعلا في الساحة الثقافية. فشَغفُ الرّجُلِ بالأدب المغربي ظاهرُ العيان في أبحاثه وكتاباته، فقد ظلّ وفيّا للجامعة المغربية، ونموذجا مُشرِّفا للدبلوماسيّة الثقافية، وظل الباحث المُنشغل بقضايا التربية والتعليم، المُنكبّ على التأليف في حقول الأدب المغربي وتأهيل الشباب الباحثين من طلبة الدراسات العليا لإنجاز أبحاث رصينة أكاديمية في مجال الأدب المغربي، ما أكسبه – في تقديري – احتراما وتقديرا كبيرين في الجامعة المغربية من طرف زملائه وطلبته، وكذلك من طرف الباحثين والأدباء والمهتمين بالشأن الثقافي المغربي.
    استطاع عَبّاس الجَرّاري أن يُحوّل الحواجز إلى حوافز، والسّير قُدما دون الالتفات إلى تثبيط المثبطين، ولا إلى دعوات المرجفين. فقد عَمَد إلى استكمال مشروعه العلمي الثقافي الذي تأسّس على مبدأ التشبت بالهوية الإسلامية للمملكة المغربية والقيم الدينية السمحة السائدة في المجتمع المغربي. لقد استطاع استثمار مُهمة الخطابة التي أُسندت إليه في ظل الثقة المولوية لشخصه الكريم في بناء مشروع علمي متكامل ومنسجم قوامه الاهتمام بالأدب المغربي في مختلف تجليّاته وأنماطه، إضافة إلى الاهتمام بالأدب المغربي في مختلف تجليّاته وأنماطه، إضافة إلى الاهتمام بقضايا الفكر الإسلامي انطلاقا من مفاهيم المدرسة المغربية القائمة على امتزاج الثقافة العربية بالثقافة الإسلامية. وقد عَبّر عن هذا التّوجه قائلا: « ما كنت لأضيق بما أسمع عن تعييني في الخطبة، فضلا عن اعتباره غَبْنا ، فقد كنت في سياق مشروعي العلمي والثقافي أستكمل مختلف أدواته.
    فمع الخطبة وانفتاحي على عوالم أخرى تبدو بعيدة عن المهام الجامعية وما إليها مما كنت أنهض به في الساحة الثقافية، وفي إطار تخصص اللغة العربية وآدابها والفكر الإسلامي، كنت أشعر بمشروعي ينمو ويتسع ليشمل آفاق تراث المغرب وإبداعه في مختلف أنماطه ومجالاته، وكيفية تحديثه وتبليغه للجماهير العريضة ـ مع احترام لها وتقدير كبيرين – وفق منظور قائم على منهج يتجاوز قدر الإمكان مجرد الوعظ والإرشاد إلى معرفة حقيقية وجود المغرب ومكانته وأهمية دوره، انطلاقا من هويّته الإسلامية بجميع ثوابثها ومكونّاتها، والتعريف بهذه الحقيقة، مما وصلت به الجامعة إلى تكوين أجيال من الباحثين والدارسين». لا يكاد يختلف اثنان في الوسط الجامعي المغربي حول تفرّد وموسوعيّة شخصيّة الرّاحِل عبّاس الجَرَّاري وعلى تَشعبّ مساره الفكري. فهو نموذج للمثقف الملتزم والعالِم المُتنورِّ، والأكاديمي الرصين. خاض في مجالات معرفية مختلفة، واتّسم بغزارة إنتاجاته الأدبية ليصير بعد ذلك الواحد المُتعدِّد والشخصيّة العبقريّة الفذّة التي اجتمع فيها ما تفرّق في غيرها.
    تعود أسباب هذه الشهرة العلمية، وهذا النُّبوغ الواسع الفيّاض إلى شغفه بالمعرفة منذ صغره وحُبّه للتعلّم مدى الحياة، الأمر الذي أكسبه شخصية علمية مهيبة، فضلا، عن نشأته في بيت علم ودين. وقد أشار الكاتب إلى ذلك، في مقدمة سيرته الذاتية «رحيق العمر» قائلا: «وإني لأودُّ منذ البدء في هذا التقديم، أن أشير إلى أُنّ نشأتي في بيت علم ودين ووطنية كان لها أكبر تأثير على مسيرة حياتي، وكان لي فيها الوالد رحمه الله هو القدوة والمثال».

    يتبيّن مما سَبق، أن عوامل الوراثة والمحيط الأسري ظاهرة الأهمية، واضحة القيمة في التنشئة الاجتماعية لعبّاس الجَرَّاري وفي رَسم مَعالِم منظومته الفكرية والسلوكيّة. فشغف الأديب بالمعرفة منذ نعومة أظفاره، لم يكن وليد صدفة، بل جاء نتيجة تأثره بوالده -رحمه الله – الذي كان مُولعا بالعلم، مُحِّبا للمعرفة، عاشقا للكتابة والتأليف. يتّضح ذلك بجلاء، في غزارة إنتاجاته الأدبية التي تبلغ نحو الثمانين كتابا في مجالات متنوعة كالتجويد والتفسير والدراسات القرآنية والسيرة النبوية والفقه والتشريع والفتاوى والتاريخ والحضارة والرحلة والشعر والسيرة الذاتية والمذكرات والمسرح والموسيقى والتربية والتعليم. لقد جمع بين العلم الرصِّين والسُّلوك الحَسن، فكان القدوة والمثال لطلبته، الذين تتلمذوا على يده، حيث عَمِل على تأهيلهم وتشجيعهم للاهتمام بالتراث المغربي، جمعا ودراسة وتحقيقا. فقد أسهم الكاتب في تبوّء الأدب المغربي مكانة رفيعة ضمن النسيج الثقافي العربي، بعدما هيمن الأدب المشرقي – تأثير النهضة العربية في مصر وبلاد الشام ـ لسنوات طويلة في مقرراتنا الدراسية، وشكّل موضوعا للعديد من الرسائل والأطاريح في جامعاتنا المغربية. وحسبي أن أشير هنا إلى أن عبّاس الجَرَّاري، كان له قصب السّبق في إدراج مادة الأدب المغربي في التدريس الجامعي في شعبة اللغة العربية وآدابها، وتأسيس مدرسة بَحثية تُعني بدراسة الأدب المغربي بمختلف أجناسه وأنواعه وأنماطه، من طرف صفوة من الباحثين المغاربة، ينتمون لجهات مختلفة من جهات المملكة المغربية بغية كتابة تاريخ أدب مغربي يَمْتح من التنوع الثقافي اللغوي بمكوناته الإسلاميّة والعربيّة والأمازيغية والصحراوية، وبروافده الافريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية، وذلك لتبيان دور كل جهة من ربوع الوطن في الإسهام في تطور الأدب المغربي وازدهاره. ويحضرني في هذا الإطار، كتاب الشيخ المغربي الجليل العلامة المختار السوسي «سوس العالِمة» الذي دعا فيه إلى ضرورة الاهتمام بالتراث الثقافي لكلّ جهة من جهات المملكة المغربية ودراسته، حتّى نَتمكَّن من بناء المغرب الثقافي المُوحّد في تنوع مُكونّاته، وكتابة تاريخ الثقافة الوطنية المغربية الذي يُشكّل طابع الوحدة والتنوع أبرز سِماته.
    وختاما، إنّ الأديب عبّاس الجَرَّاري نموذج حيّ للعَالِم المُتنوِّر والأستاذ الأكاديمي المتواضع المُتفهِّم لأوضاع طلبته، لا يتأخر في تقديم المساعدة والعون لهم. فهو سَليل الأسرة الجرَّارية، التي تُعتبر من أعرق الأسر المغربية. لقد اجتمعت في شخصيّته الصِّفات التي عُرِفت بها الأسرة الجرارية وفي مُقدّمتها العِلْمُ والصَّلاح والنُّبْل وحُسْن الخُلق والتواضع، كما تميّزت عبر التاريخ بوطنيّتها الصَّادقة وكِفاحها من أجل صِيانة الوحدة الترابيّة للمملكة المغربية والدِّفاع عن مُقدسّاتها وثوابِتها.

    كاتبة من المغرب
يعمل...
X