" مقهى بغداد " عزلة ورثاثة وسحر منسي
حين يتحول المكان إلى بطل حيث اليوم يشبه البارحة !
تلقيت دعوة من مؤسسة ( الفيلم هاوس ) في مدينة لاهاي لمناسبة مرور ربع قرن على تأسيسها وفي طيات الدعوة إن المؤسسة سوف تعرض اربعة افلام في وقت واحد دون ان تقدم اية معلومة عن طبيعة الافلام التي سوف تعرض في هذه المناسبة - الاحتفالية . توزع الجمهور العريض على القاعات الاربع بموجب بطاقات وزعت للمدعوين وقبل بدء الفيلم قدمت مديرة المؤسسة شرحا قصيرا عن سبب عدم التعريف بالافلام التي سوف تعرض بأنها مفاجأة للجمهور لان الافلام ليست من انتاج حديث وسبق إن عرضت في هذه المؤسسة في السنوات الماضية وهي فرصة للجمهور الذي لم يشاهد هذه الافلام عند عروضها الاولى .
وقد كانت حقا مفاجأة كبيرة لي وللاخرين الذين حضروا معي عندما بدأ عرض فيلم ( مقهى بغداد ) . قد يندهش القارئ العربي ألان عندما يعرف ان هناك مدينة امريكية اسمها بغداد بنيت في منتصف القرن المنصرم أو بعده بقليل بالقرب من صحراء لاس فيكاس ودزني لاند وهي المكان الذي تدور فيه قصة فيلم " مقهى بغداد " . كنت قد عرفت هذه المعلومة عند بدء الغزو الامريكي للعراق عن طريق محطة السي أن أن ، وبالتحديد بعد القصف الجوي الامريكي لبغداد عاصمة العراق المنكوب . ففي النشرة الاولى للسي أن أن التي تلت القصف الجوي ظهر المذيع وهو يقدم فقرات النشرة بخبر ( بغداد تحترق ) وتلا ذلك تقرير مصور عن سكان مدينة بغداد الامريكية وهم يجوبون الشوارع بحثا عن الحرائق التي اشار اليها مقدم نشرة الاخبار والهلع باد على وجوههم ، في حين إن الحرائق كانت تلتهم بغداد الاصيلة خلف المحيطات وليست بغداد المزعومة .
يبدأ الفيلم بظهور سائحين المانيين – رجل وزوجته – في صحراء لاس فيكاس يبدو انهما من طبقة برجوازية حيث يقودان سيارة امريكية حديثة مع اناقة مفرطة . بعد مشادة سريعة يترك الزوج امرأته وينطلق في سيارته الحديثة إلى مكان مجهول . تحاول الزوجة بحقيبتها المليئة البحث عن مكان تسترخي فيه وتجد بعد مسافة ليست قصيرة مقهى بغداد الذي يتوفر على نزل ايضا ومحطة مهجورة لتعبئة الوقود . ومن هذا المكان تبدأ القصة الحقيقية للفيلم حيث تستأجر غرفة رثة وتكتشف أنها حملت الحقيبة التي تعود لزوجها في مفارقة ستجعل كل ما تقوم به هذه المرأة الغريبة غريبا مثلها على الدوام .
يبدو مقهى بغداد مكانا مهجورا وقذرا أو مخزنا لاشياء قديمة عديمة الفائدة أكثر منه مقهى ، والاكثر من ذلك عندما يكون مديرو هذا المقهى من الغرباء ( سود ، امريكيون لا تينيون ) مع شخصية غريبة في حضورها هي رسام الديكور المتقاعد في هوليود جاك بالنس الذي يبدو حضوره في هذا المكان المهجور غامضا وملتبسا للغاية وتلك العاهرة التي تقدم خدمات سريعة للزوار الطارئين . اما الشاب ابن صاحبة المقهى الذي لا يفارق البيانو العتيق والذي يبدو مجنونا بموسيقى باخ فأن ياسمين ستمنحه دفقة حقيقية حينما تستمع اليه وحيدة بكل جوارحها .
ولكي يضفي المخرج لمسة غرائبية اخرى على الفيلم جعل الشرطي المسؤول عن ( المدينة - المقهى ) هنديا احمر بضفائر طويلة تتدلى من تحت قبعته الرسمية . هذه هي حال المدن الامريكية التي يبنيها الغرباء دائما وتطردهم في نهاية الامر كما سيحدث مع ياسمينة حين يطالبها الشرطي ذو الضفائر بمغادرة البلاد لأن اقامتها انتهت .
الانحراف الحاد في مجريات الفيلم والذي سيقلب التوقعات رأسا على عقب حين تسأل المرأة الالمانية ياسمينة السائحة ( مارينا سيكبريخت ) صاحبة المقهى براندا عن مركز مدينة بغداد ، حيث تتلقى جوابا صادما : ( ماذا تعنين بمركز المدينة ؟ هنا كل شيء ) ؟ من هنا يتحول المكان إلى بطل للحكاية الشائكة برغم الحيل السحرية التي ستقدمها السائحة بعد ذلك من اجل البقاء في هذا المكان بعد إن نفدت اموالها . وبرغم إن الالعاب السحرية التي تقدمها ياسمينة تلقى رواجا لدى اصحاب المقهى اولا وبالتالي لدى الزبائن الاخرين ما يجعل المقهى يزدهر ، إلا ان الفيلم يكشف في النهاية ان السحر المزعوم ما هو سوى العلاقات الحميمة المفقودة بين هؤلاء الناس الغرباء الذين يتقاسمون هذا المكان والذين يشعرون بهذه العزلة القاتلة في هذه الرقعة النائية المعزولة تحت هذه الرثاثة والغبار والقذارة الداخلية التي تجلوها المرأة البرجوازية ياسمين حينما تشرع بتنظيف المكان دون ان يطلب منها احد كي تحدث الانقلاب الذي سيكون شاملا .
بالمقابل ينضم شاب طارئ جديد إلى المقهى – المدينة وهو غريب ايضا ويطلب من صاحبة المقهى ان تسمح له بنصب خيمته خلف المقهى حيث ستعمق مصائر هؤلاء الشخوص الطارئين من حجم العزلة وتكشف عنها في الوقت نفسه . بهذا الكادر القليل والبسيط للغاية استطاع المخرج الالماني الامريكي بيرسي ادلون ان يقدم حكايته التي استمرت ساعة ونصف في مكان لا تتجاوز مساحته كيلومترا واحدا خالقا الكثير من الزوايا المفتوحة لكاميرته التي جعلت من هذا المكان البائس محورا رئيسيا في الفيلم دون ان يشعر المشاهد بالرتابة .
وبرغم ان شخوص الفيلم تبدو سطحية ومباشرة باستثناء ياسمينة البرجوازية التي بدت قليلة الكلام ، إلا إن اداء الممثلين الذي اتسم بحرية اقرب إلى العبث ساهم في عكس طبيعة المكان وتأثيره الضاغط على هؤلاء الشخوص المهمشين . فقد نجحت براندا المرأة السوداء صاحبة المقهى في جعلنا نشعر بالغضب من زوجها وابنائها المشغولين بأمورهم التافهة ، فالزوج لا ينجح حتى في شراء ماكينة للقهوة التي هي كل شيء بالنسبة للمقهى . ثم البنت المراهقة العابثة مع الشبان من خارج المدينة ، واخيرا الشاب الذي لا يغادر البيانو .
تدخل ياسمينة من هذه الثغرة وتقوم ببناء علاقة مع هؤلاء الناس كل على حدة وتنجح في ربط نسيج هذه العلاقات مع بعض لتجمع شمل الاسرة المعزولة . بعد ذلك يجيء دور رسام الديكورات المتقاعد جاك بالنس ليسهم في ذلك من خلال علاقة حب ستربطه بياسمينة التي سوف يرسم لها عددا من البروتريهات .. ياسمينة التي تتحول في نهاية الفيلم الى منقذة يتغير تحت يديها مصير كل هؤلاء الشخوص . بالاضافة إلى النجاح الاقتصادي الذي سوف ينعش المكان ويستقطب المزيد من الزوار بحيث تبقى المقهى على طول الوقت مليئة بالناس الذين سوف يقتلون هذه العزلة باللقاء الدائم .
يكمن نجاح الفيلم في انه يدور في رقعة جرداء لا تتجاوز الكيلومتر الواحد وتخليه عن الكثير من الديكورات وذلك الكادر القليل للغاية بحيث تحول المكان إلى البطل الحقيقي للفيلم دون ان يتسرب الملل إلى نفوس المشاهدين الذين تابعوه حتى النهاية . وقد ساهمت بعض الانقلابات الصغيرة فيه من تخليص الايقاع من الرتابة برغم انه يصور الرتابة هذه . ولو كان هناك مصطلح يمكن ان نختزل فيه هذا الفيلم لقلنا انه من نوع السينما الفقيرة على غرار المسرح الفقير
حين يتحول المكان إلى بطل حيث اليوم يشبه البارحة !
تلقيت دعوة من مؤسسة ( الفيلم هاوس ) في مدينة لاهاي لمناسبة مرور ربع قرن على تأسيسها وفي طيات الدعوة إن المؤسسة سوف تعرض اربعة افلام في وقت واحد دون ان تقدم اية معلومة عن طبيعة الافلام التي سوف تعرض في هذه المناسبة - الاحتفالية . توزع الجمهور العريض على القاعات الاربع بموجب بطاقات وزعت للمدعوين وقبل بدء الفيلم قدمت مديرة المؤسسة شرحا قصيرا عن سبب عدم التعريف بالافلام التي سوف تعرض بأنها مفاجأة للجمهور لان الافلام ليست من انتاج حديث وسبق إن عرضت في هذه المؤسسة في السنوات الماضية وهي فرصة للجمهور الذي لم يشاهد هذه الافلام عند عروضها الاولى .
وقد كانت حقا مفاجأة كبيرة لي وللاخرين الذين حضروا معي عندما بدأ عرض فيلم ( مقهى بغداد ) . قد يندهش القارئ العربي ألان عندما يعرف ان هناك مدينة امريكية اسمها بغداد بنيت في منتصف القرن المنصرم أو بعده بقليل بالقرب من صحراء لاس فيكاس ودزني لاند وهي المكان الذي تدور فيه قصة فيلم " مقهى بغداد " . كنت قد عرفت هذه المعلومة عند بدء الغزو الامريكي للعراق عن طريق محطة السي أن أن ، وبالتحديد بعد القصف الجوي الامريكي لبغداد عاصمة العراق المنكوب . ففي النشرة الاولى للسي أن أن التي تلت القصف الجوي ظهر المذيع وهو يقدم فقرات النشرة بخبر ( بغداد تحترق ) وتلا ذلك تقرير مصور عن سكان مدينة بغداد الامريكية وهم يجوبون الشوارع بحثا عن الحرائق التي اشار اليها مقدم نشرة الاخبار والهلع باد على وجوههم ، في حين إن الحرائق كانت تلتهم بغداد الاصيلة خلف المحيطات وليست بغداد المزعومة .
يبدأ الفيلم بظهور سائحين المانيين – رجل وزوجته – في صحراء لاس فيكاس يبدو انهما من طبقة برجوازية حيث يقودان سيارة امريكية حديثة مع اناقة مفرطة . بعد مشادة سريعة يترك الزوج امرأته وينطلق في سيارته الحديثة إلى مكان مجهول . تحاول الزوجة بحقيبتها المليئة البحث عن مكان تسترخي فيه وتجد بعد مسافة ليست قصيرة مقهى بغداد الذي يتوفر على نزل ايضا ومحطة مهجورة لتعبئة الوقود . ومن هذا المكان تبدأ القصة الحقيقية للفيلم حيث تستأجر غرفة رثة وتكتشف أنها حملت الحقيبة التي تعود لزوجها في مفارقة ستجعل كل ما تقوم به هذه المرأة الغريبة غريبا مثلها على الدوام .
يبدو مقهى بغداد مكانا مهجورا وقذرا أو مخزنا لاشياء قديمة عديمة الفائدة أكثر منه مقهى ، والاكثر من ذلك عندما يكون مديرو هذا المقهى من الغرباء ( سود ، امريكيون لا تينيون ) مع شخصية غريبة في حضورها هي رسام الديكور المتقاعد في هوليود جاك بالنس الذي يبدو حضوره في هذا المكان المهجور غامضا وملتبسا للغاية وتلك العاهرة التي تقدم خدمات سريعة للزوار الطارئين . اما الشاب ابن صاحبة المقهى الذي لا يفارق البيانو العتيق والذي يبدو مجنونا بموسيقى باخ فأن ياسمين ستمنحه دفقة حقيقية حينما تستمع اليه وحيدة بكل جوارحها .
ولكي يضفي المخرج لمسة غرائبية اخرى على الفيلم جعل الشرطي المسؤول عن ( المدينة - المقهى ) هنديا احمر بضفائر طويلة تتدلى من تحت قبعته الرسمية . هذه هي حال المدن الامريكية التي يبنيها الغرباء دائما وتطردهم في نهاية الامر كما سيحدث مع ياسمينة حين يطالبها الشرطي ذو الضفائر بمغادرة البلاد لأن اقامتها انتهت .
الانحراف الحاد في مجريات الفيلم والذي سيقلب التوقعات رأسا على عقب حين تسأل المرأة الالمانية ياسمينة السائحة ( مارينا سيكبريخت ) صاحبة المقهى براندا عن مركز مدينة بغداد ، حيث تتلقى جوابا صادما : ( ماذا تعنين بمركز المدينة ؟ هنا كل شيء ) ؟ من هنا يتحول المكان إلى بطل للحكاية الشائكة برغم الحيل السحرية التي ستقدمها السائحة بعد ذلك من اجل البقاء في هذا المكان بعد إن نفدت اموالها . وبرغم إن الالعاب السحرية التي تقدمها ياسمينة تلقى رواجا لدى اصحاب المقهى اولا وبالتالي لدى الزبائن الاخرين ما يجعل المقهى يزدهر ، إلا ان الفيلم يكشف في النهاية ان السحر المزعوم ما هو سوى العلاقات الحميمة المفقودة بين هؤلاء الناس الغرباء الذين يتقاسمون هذا المكان والذين يشعرون بهذه العزلة القاتلة في هذه الرقعة النائية المعزولة تحت هذه الرثاثة والغبار والقذارة الداخلية التي تجلوها المرأة البرجوازية ياسمين حينما تشرع بتنظيف المكان دون ان يطلب منها احد كي تحدث الانقلاب الذي سيكون شاملا .
بالمقابل ينضم شاب طارئ جديد إلى المقهى – المدينة وهو غريب ايضا ويطلب من صاحبة المقهى ان تسمح له بنصب خيمته خلف المقهى حيث ستعمق مصائر هؤلاء الشخوص الطارئين من حجم العزلة وتكشف عنها في الوقت نفسه . بهذا الكادر القليل والبسيط للغاية استطاع المخرج الالماني الامريكي بيرسي ادلون ان يقدم حكايته التي استمرت ساعة ونصف في مكان لا تتجاوز مساحته كيلومترا واحدا خالقا الكثير من الزوايا المفتوحة لكاميرته التي جعلت من هذا المكان البائس محورا رئيسيا في الفيلم دون ان يشعر المشاهد بالرتابة .
وبرغم ان شخوص الفيلم تبدو سطحية ومباشرة باستثناء ياسمينة البرجوازية التي بدت قليلة الكلام ، إلا إن اداء الممثلين الذي اتسم بحرية اقرب إلى العبث ساهم في عكس طبيعة المكان وتأثيره الضاغط على هؤلاء الشخوص المهمشين . فقد نجحت براندا المرأة السوداء صاحبة المقهى في جعلنا نشعر بالغضب من زوجها وابنائها المشغولين بأمورهم التافهة ، فالزوج لا ينجح حتى في شراء ماكينة للقهوة التي هي كل شيء بالنسبة للمقهى . ثم البنت المراهقة العابثة مع الشبان من خارج المدينة ، واخيرا الشاب الذي لا يغادر البيانو .
تدخل ياسمينة من هذه الثغرة وتقوم ببناء علاقة مع هؤلاء الناس كل على حدة وتنجح في ربط نسيج هذه العلاقات مع بعض لتجمع شمل الاسرة المعزولة . بعد ذلك يجيء دور رسام الديكورات المتقاعد جاك بالنس ليسهم في ذلك من خلال علاقة حب ستربطه بياسمينة التي سوف يرسم لها عددا من البروتريهات .. ياسمينة التي تتحول في نهاية الفيلم الى منقذة يتغير تحت يديها مصير كل هؤلاء الشخوص . بالاضافة إلى النجاح الاقتصادي الذي سوف ينعش المكان ويستقطب المزيد من الزوار بحيث تبقى المقهى على طول الوقت مليئة بالناس الذين سوف يقتلون هذه العزلة باللقاء الدائم .
يكمن نجاح الفيلم في انه يدور في رقعة جرداء لا تتجاوز الكيلومتر الواحد وتخليه عن الكثير من الديكورات وذلك الكادر القليل للغاية بحيث تحول المكان إلى البطل الحقيقي للفيلم دون ان يتسرب الملل إلى نفوس المشاهدين الذين تابعوه حتى النهاية . وقد ساهمت بعض الانقلابات الصغيرة فيه من تخليص الايقاع من الرتابة برغم انه يصور الرتابة هذه . ولو كان هناك مصطلح يمكن ان نختزل فيه هذا الفيلم لقلنا انه من نوع السينما الفقيرة على غرار المسرح الفقير