الشاعر الباكستاني أفضال أحمد سيد يعيد اختراع الشعر الأردي المعاصر
"اخترعت الشعر" أول مختارات بالعربية للشاعر المجدد.
الأربعاء 2024/06/05
ShareWhatsAppTwitterFacebook
شاعر يلتقط الحياة بدقة
تؤثر التجارب الحياتية على قصائد الشعراء فتدخل في تفاصيلها وتقودها أحيانا إلى هوامش ومجاهل يكشفونها عبر اللعبة الشعرية – إن صحت العبارة – بين الشعور واللغة والفكرة، فالشاعر ابن بيئته يتوسع بتوسعها، وهكذا نقرأ تجربة الشاعر الباكستاني أفضال أحمد سيد الذي صدرت له مختارات هي الأولى بالعربية.
يعد الشاعر والمترجم الباكستاني أفضال أحمد سيد أحد أشهر شعراء النثر ومعالم الآداب الأردية. بدأ كتابة الشعر سنة 1976، وأصدر أربع مجموعات شعرية، الأولى “تاريخ منتحل” سنة 1984، والثانية “خيمة سوداء” سنة 1986، والثالثة “الإعدام في لغتين” سنة 1990، والرابعة “الروكوكو وعوالم أخرى” سنة 2000، ثم أصدر أعماله الشعرية الكاملة هذه مجمعة سنة 2009 بعنوان “منجم الطين”.
وباستثناء المجموعة الثانية “خيمة سوداء” التي ضمت ما كتبه من غزليات كلاسيكية، فإن أعماله الشعرية الأخرى كلها قصائد نثر تمثل أغلبها طفرة في قصيدة النثر الأردية التي ما زالت تعاني من الرفض والتهميش إلى حد كبير لحساب فن الغزل الذي ما زال مهيمنا بقوة في الهند وباكستان. ولذلك يعد من أهم رواد قصيدة النثر وأحد أعمدتها الأساسية.
تجربة شعرية
قصائد الشاعر تمثل أغلبها طفرة في قصيدة النثر الأردية التي ما زالت تعاني من الرفض والتهميش لحساب فن الغزل
تكشف المختارات التي ترجمها الكاتب والمترجم المصري هاني السعيد وعنونها بـ”اخترعت الشعر” وقدم لها أفضال أحمد سيد عن عمق تجربته وخصوصية رؤاها وأفكارها وتجلياتها الفنية والجمالية، هي الأولى في العربية.
يقول أفضال عن ترجمته للعربية “إنها لبشرى سارة لي أن تنشر مختارات من شعري في مصر من خلال سلسلة كتب آفاق عالمية التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة – وزارة الثقافة بالقاهرة. وقد ذكرني هذا الخبر المبهج بتلك الأيام التي تعرفت فيها للمرة الأولى على الشعراء العرب، فصرت أسيرا لسحرهم إلى الأبد. وما زالت أشعار عظماء الشعر العربي القديم: امرؤ القيس، وأبو نواس، والمتنبي تنير مسارات عقلي حتى الآن جنبا إلى جنب أشعار حافظ، ونظيري، وبيدل، وغالب، وإقبال”.
ويضيف أن لمسلمي شبه القارة الهندية الباكستانية علاقة خاصة باللغة والثقافة العربيتين، والعالم العربي. وهذا هو السبب في أن الترجمات الأردية للشعراء والكتاب العرب تحظى بشعبية كبيرة لدى القراء الباكستانيين، وخاصة الأسماء المشهورة هنا: أدونيس، ومحمود درويش، ونزار قباني، وفدوى طوقان، والروائيين: نجيب محفوظ، والطيب صالح، وليلى أبوزيد، وليلى أبوالعلاء. كما أنني كنت طالبا في الجامعة الأميركية ببيروت من سنة 1974 إلى 1976، فأتيحت لي فرصة ثمينة للتعرف المباشر على الحضارة العربية العظيمة وثقافتها، وتركت الفترة التي أمضيتها هناك أثرا عميقا في تفكيري وشخصيتي وشعري.
ويلفت “أتيحت لي أيضا فرصة السفر إلى مصر مرتين، فأقمت بالقاهرة، والإسكندرية، والسويس، ودمياط. ومن بين عدة مناظر بديعة لا تنسى في حياتي، ذلك المنظر الذي يقع بالقرب من دمياط، حيث يتلاقى نهر النيل بالبحر المتوسط. يواصل هاني السعيد ترجمة القصائد الأردية، وأنا ممتن له، فقد أثمرت جهوده إصدار هذه المختارات. ويرجى ألا ينظر إلى وجه المبالغة في عنوان هذه المجموعة إلا على أنه ليس أكثر من تعبير شعري. وأود أن أعبر عن سعادتي مرة أخرى، إذ تنشر مختارات من شعري باللغة التي زين بيت لأحد شعرائها الصفحة الأولى من مجموعتي الأولى، كان الشاعر هو المتنبي، والبيت هو: الخيل، والليل، والبيداء، تعرفني/ والسيف والرمح والقرطاس والقلم”.
من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن الشاعر شهد حروبا أهلية في بيروت في السبعينات أثناء إقامته هناك كطالب جامعي وكذلك في دكا عام 1971. وكان يعيش في مدينة كراتشي المضطربة منذ عقود. يتردد صدى هذا العنف والأزمات في قصائده.
طور أفضال ميلا للشعر في وقت مبكر من حياته. ومع ذلك، لم يخطر بباله أن يجعل من الأدب مهنة احترافية. وعندما حان الوقت للتفكير في التعليم العالي، تقدم بطلب إلى كلية زراعية بالقرب من منزله في دكا، وانتهى به الأمر بدراسة علم الحشرات. وظل يواصل العمل كعالم حشرات حتى سن التقاعد، ويعتقد أنه لم يعتمد على الأدب أو التدريس لكسب لقمة عيشه. وقال “كان لدي المزيد من الحرية في قراءة كل ما اخترت قراءته والكتابة بالطريقة التي شعرت بها بالرغبة في الكتابة”.
يعتبر الشاعر فيض أحمد فيض أحد أقوى التأثيرات على تجربة أفضال يقول “عندما بدأت بكتابة الشعر لأول مرة، كنت أقلد أسلوب فيض عن وعي. لقد استغرق الأمر مني بضع سنوات حتى أتمكن من العثور على صوتي الخاص”. الطريق إلى صوته المميز جاء من خلال ترجمات الشعر من جميع أنحاء العالم.
المختارات تكشف عن عمق تجربة أفضال أحمد سيد الشعرية وخصوصية رؤاها وأفكارها وتفاعلاتها وتجلياتها الفنية والجمالية
لا يعتبر أفضال أن من بين مؤثراته الشعراء الفرس مثل حافظ ومير تقي مير فحسب، بل أيضا الشعراء الأتراك المعاصرين مثل ناظم حكمت، والشعراء الإسبان مثل فيديريكو غارسيا لوركا، وشعراء أميركا اللاتينية مثل أوكتافيو باث وبابلو نيرودا. مثل هذا التعليم الشعري المتنوع يعني أن أفضال لم يكن مقيدا بمجازات أو تقاليد شعرية واحدة فقط. لكن تحولا ملحوظا في وجهة النظر حدث في الوقت الذي قرأ فيه مختارات مترجمة من شعر أوروبا الشرقية المكتوبة بعد الحرب العالمية الثانية. كان للكتاب تأثير فوري ومؤثر عليه ومعاصريه. لقد عرضتهم لأصوات جديدة، أصوات عاشت المحرقة وشهدت معاناة لا يمكن تصورها. كانت هذه الأصوات خافتة، هزيلة، وغير رومانسية.
كانت كراتشي في السبعينات والثمانينات تتمتع بأجواء ثقافية مواتية لتبادل الأفكار والمواد الجديدة. وكان أحد العناصر الحاسمة فيها هو شبكة البث العامة راديو باكستان، حيث عمل العديد من الشعراء.
وقد أشار أفضال إلى أن زيارة المحطة كانت بمثابة فرصة لمشاركة القصائد والانضمام إلى الأحاديث الأدبية. وقال عن زوجته تنوير أنجم، وهي شاعرة أيضا “هذا أيضا هو المكان الذي التقيت فيه تنوير للمرة الأولى”. وكانت منازل أقرانه أيضا بمثابة صالونات أدبية. قمر جميل – وصفه أفضال بأنه “زعيم حركة قصائد النثر” – أبقى بيته مفتوحا حيث يمكن للشعراء الدخول إليه، وتستمر المناقشات حتى وقت متأخر من الليل. وعقد آخرون، مثل أنور سين روي وعذرا عباس، اجتماعات أسبوعية. كان منزل أفضال مركزا آخر. من هذه الثقافة، المتمثلة في تجربة الشكل والمشاركة والترجمة، ظهر جيل جديد بدأ في إعادة تعريف الشعر الأردي.
جسر من الزمن
كتب شعراء الأردية في الماضي بغزارة عن الحب والألم. وحتى الآن، يهيمن على متن الشعر الأوردي الشعر الموزون والمقفى بشكل مباشر للغاية – إلى الحبيب، أو الدولة، أو القراء، أو الله. ولكن، في مواجهة هذا الاتجاه السائد، أراد أفضال وزملاؤه جذب القارئ إلى داخل تجاربهم الحياتية، من خلال استخدام أشياء عادية مثل الدراجات وأجهزة التلفزيون وملقط صيد الكلاب في سطورهم.
قصائدهم ليست ملخصات دقيقة للحياة البشرية. إنها أشياء متحركة ومزخرفة، لها جلد وأسنان، كما لو كانت تحاول التقاط الحياة نفسها. عندما سئل سيد عن كيفية تعريفه للحداثة في الشعر، قال “أن تكون حداثيا يعني إنكار السرديات الكبرى، ومقاومة السلطة، وحتى سلطة الوزن في الشعر”. وهذا ما كان يفعله هو ومعاصروه.
لمسلمي شبه القارة الهندية الباكستانية علاقة خاصة باللغة والثقافة العربيتين، والعالم العربي. وهذا هو السبب في أن الترجمات الأردية للشعراء والكتاب العرب تحظى بشعبية كبيرة لدى القراء الباكستانيين
يقول أفضال أحمد سيد عن إحدى قصائده “اخترعت الشعر” التي حملت عنوان المختارات. هذه نظرة ساخرة لفكرة الاختراع. هل فعلا المغاربة هم من اخترعوا البردي كما يتساءل الشاعر؟ هل الشعر اخترع الحب؟ ومع ذلك، وبقدر ما يمكن لأي فرد أن ينسب إليه الفضل في ابتكارات أسلوبية معينة، فقد ساعد أفضال بالتأكيد في إعادة اختراع الشعر الأردي المعاصر. فهو لا يعتمد على الاستعارة والتشبيه بشدة كما فعل أسلافه.
منهج أفضال هو أن يأخذ القراء عبر جسر من الزمن، مبني جزئيا من لقطات من ذاكرته، وجزئيا من المناظر الطبيعية وسكانها من البشر والحيوانات. أصداء المعاناة التي وصفها كبار كتاب أوروبا الشرقية، مثل الشاعرة البولندية الحائزة على جائزة نوبل فيسلافا شيمبورسكا، التي كتبت عن المجاعة ومعسكرات الاعتقال، تملأ أعماله. لكن القراء سيرون أيضا طابع التقليد الأردي في القصائد التي تتحدث عن معاناة الحب وإهاناته.
يذكر أن أفضال أحمد سيد ولد في 26 سبتمبر 1946 في “غازي بور” التابعة لمقاطعة أتربرديش بالهند (قبل تقسيم الهند وباكستان سنة 1947). وتلقى تعليمه في مدينة دكا البنغالية (قبل تقسيم باكستان وبنغلاديش)، التي بدأ فيها أيضا حياته المهنية بالعمل في وزارة الزراعة الائتلافية هناك. وعند تقسيم باكستان وبنغلاديش سنة 1971 انتقل مع أسرته إلى مدينة كراتشي الباكستانية.
يترجم أفضال عن الإنجليزية والفارسية، وهو من أوائل من ترجموا لماركيز وجان جينيه في اللغة الأردية، كما ترجم أيضا من الشرق الأعمال الشعرية الفارسية الكاملة للشاعر الأردي والفارسي الكبير “مير تقي مير” ونال عنها جائزة باكستانية مرموقة، كما ترجم مختارات للشاعر الكبير “بيدل”، وأصدر في مطلع سنة 2020 ترجمته لمختارات من الشعر الفارسي.
درس أفضال أحمد سيد ماجستير علم الحشرات في الجامعة الأميركية ببيروت بين عامي 1974 و1976 في بعثة علمية من الحكومة الائتلافية الباكستانية، فشهد الحرب الأهلية اللبنانية أثناء إقامته هناك، وكان قد شهد سابقا الحرب الأهلية الباكستانية المعروفة بحرب استقلال بنغلاديش أثناء إقامته في دكا سنة 1971. وهكذا فإن أفضال قد ولد بالهند فانقسمت الهند وباكستان بعد ميلاده بأقل من سنة، ثم انتقلت به أسرته من الهند إلى مدينة دكا التي كانت مدينة باكستانية، فانقسمت باكستان إلى باكستان وبنغلاديش بعد خمس وعشرين سنة من ميلاده، فاضطر إلى الانتقال مجددا وهو في مطلع شبابه من بنغلاديش إلى باكستان، ولعله عبر عن ملمح من هذه المأساة في قصيدته “كان يتبقى مني شيء ما”.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري
"اخترعت الشعر" أول مختارات بالعربية للشاعر المجدد.
الأربعاء 2024/06/05
ShareWhatsAppTwitterFacebook
شاعر يلتقط الحياة بدقة
تؤثر التجارب الحياتية على قصائد الشعراء فتدخل في تفاصيلها وتقودها أحيانا إلى هوامش ومجاهل يكشفونها عبر اللعبة الشعرية – إن صحت العبارة – بين الشعور واللغة والفكرة، فالشاعر ابن بيئته يتوسع بتوسعها، وهكذا نقرأ تجربة الشاعر الباكستاني أفضال أحمد سيد الذي صدرت له مختارات هي الأولى بالعربية.
يعد الشاعر والمترجم الباكستاني أفضال أحمد سيد أحد أشهر شعراء النثر ومعالم الآداب الأردية. بدأ كتابة الشعر سنة 1976، وأصدر أربع مجموعات شعرية، الأولى “تاريخ منتحل” سنة 1984، والثانية “خيمة سوداء” سنة 1986، والثالثة “الإعدام في لغتين” سنة 1990، والرابعة “الروكوكو وعوالم أخرى” سنة 2000، ثم أصدر أعماله الشعرية الكاملة هذه مجمعة سنة 2009 بعنوان “منجم الطين”.
وباستثناء المجموعة الثانية “خيمة سوداء” التي ضمت ما كتبه من غزليات كلاسيكية، فإن أعماله الشعرية الأخرى كلها قصائد نثر تمثل أغلبها طفرة في قصيدة النثر الأردية التي ما زالت تعاني من الرفض والتهميش إلى حد كبير لحساب فن الغزل الذي ما زال مهيمنا بقوة في الهند وباكستان. ولذلك يعد من أهم رواد قصيدة النثر وأحد أعمدتها الأساسية.
تجربة شعرية
قصائد الشاعر تمثل أغلبها طفرة في قصيدة النثر الأردية التي ما زالت تعاني من الرفض والتهميش لحساب فن الغزل
تكشف المختارات التي ترجمها الكاتب والمترجم المصري هاني السعيد وعنونها بـ”اخترعت الشعر” وقدم لها أفضال أحمد سيد عن عمق تجربته وخصوصية رؤاها وأفكارها وتجلياتها الفنية والجمالية، هي الأولى في العربية.
يقول أفضال عن ترجمته للعربية “إنها لبشرى سارة لي أن تنشر مختارات من شعري في مصر من خلال سلسلة كتب آفاق عالمية التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة – وزارة الثقافة بالقاهرة. وقد ذكرني هذا الخبر المبهج بتلك الأيام التي تعرفت فيها للمرة الأولى على الشعراء العرب، فصرت أسيرا لسحرهم إلى الأبد. وما زالت أشعار عظماء الشعر العربي القديم: امرؤ القيس، وأبو نواس، والمتنبي تنير مسارات عقلي حتى الآن جنبا إلى جنب أشعار حافظ، ونظيري، وبيدل، وغالب، وإقبال”.
ويضيف أن لمسلمي شبه القارة الهندية الباكستانية علاقة خاصة باللغة والثقافة العربيتين، والعالم العربي. وهذا هو السبب في أن الترجمات الأردية للشعراء والكتاب العرب تحظى بشعبية كبيرة لدى القراء الباكستانيين، وخاصة الأسماء المشهورة هنا: أدونيس، ومحمود درويش، ونزار قباني، وفدوى طوقان، والروائيين: نجيب محفوظ، والطيب صالح، وليلى أبوزيد، وليلى أبوالعلاء. كما أنني كنت طالبا في الجامعة الأميركية ببيروت من سنة 1974 إلى 1976، فأتيحت لي فرصة ثمينة للتعرف المباشر على الحضارة العربية العظيمة وثقافتها، وتركت الفترة التي أمضيتها هناك أثرا عميقا في تفكيري وشخصيتي وشعري.
ويلفت “أتيحت لي أيضا فرصة السفر إلى مصر مرتين، فأقمت بالقاهرة، والإسكندرية، والسويس، ودمياط. ومن بين عدة مناظر بديعة لا تنسى في حياتي، ذلك المنظر الذي يقع بالقرب من دمياط، حيث يتلاقى نهر النيل بالبحر المتوسط. يواصل هاني السعيد ترجمة القصائد الأردية، وأنا ممتن له، فقد أثمرت جهوده إصدار هذه المختارات. ويرجى ألا ينظر إلى وجه المبالغة في عنوان هذه المجموعة إلا على أنه ليس أكثر من تعبير شعري. وأود أن أعبر عن سعادتي مرة أخرى، إذ تنشر مختارات من شعري باللغة التي زين بيت لأحد شعرائها الصفحة الأولى من مجموعتي الأولى، كان الشاعر هو المتنبي، والبيت هو: الخيل، والليل، والبيداء، تعرفني/ والسيف والرمح والقرطاس والقلم”.
من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن الشاعر شهد حروبا أهلية في بيروت في السبعينات أثناء إقامته هناك كطالب جامعي وكذلك في دكا عام 1971. وكان يعيش في مدينة كراتشي المضطربة منذ عقود. يتردد صدى هذا العنف والأزمات في قصائده.
طور أفضال ميلا للشعر في وقت مبكر من حياته. ومع ذلك، لم يخطر بباله أن يجعل من الأدب مهنة احترافية. وعندما حان الوقت للتفكير في التعليم العالي، تقدم بطلب إلى كلية زراعية بالقرب من منزله في دكا، وانتهى به الأمر بدراسة علم الحشرات. وظل يواصل العمل كعالم حشرات حتى سن التقاعد، ويعتقد أنه لم يعتمد على الأدب أو التدريس لكسب لقمة عيشه. وقال “كان لدي المزيد من الحرية في قراءة كل ما اخترت قراءته والكتابة بالطريقة التي شعرت بها بالرغبة في الكتابة”.
يعتبر الشاعر فيض أحمد فيض أحد أقوى التأثيرات على تجربة أفضال يقول “عندما بدأت بكتابة الشعر لأول مرة، كنت أقلد أسلوب فيض عن وعي. لقد استغرق الأمر مني بضع سنوات حتى أتمكن من العثور على صوتي الخاص”. الطريق إلى صوته المميز جاء من خلال ترجمات الشعر من جميع أنحاء العالم.
المختارات تكشف عن عمق تجربة أفضال أحمد سيد الشعرية وخصوصية رؤاها وأفكارها وتفاعلاتها وتجلياتها الفنية والجمالية
لا يعتبر أفضال أن من بين مؤثراته الشعراء الفرس مثل حافظ ومير تقي مير فحسب، بل أيضا الشعراء الأتراك المعاصرين مثل ناظم حكمت، والشعراء الإسبان مثل فيديريكو غارسيا لوركا، وشعراء أميركا اللاتينية مثل أوكتافيو باث وبابلو نيرودا. مثل هذا التعليم الشعري المتنوع يعني أن أفضال لم يكن مقيدا بمجازات أو تقاليد شعرية واحدة فقط. لكن تحولا ملحوظا في وجهة النظر حدث في الوقت الذي قرأ فيه مختارات مترجمة من شعر أوروبا الشرقية المكتوبة بعد الحرب العالمية الثانية. كان للكتاب تأثير فوري ومؤثر عليه ومعاصريه. لقد عرضتهم لأصوات جديدة، أصوات عاشت المحرقة وشهدت معاناة لا يمكن تصورها. كانت هذه الأصوات خافتة، هزيلة، وغير رومانسية.
كانت كراتشي في السبعينات والثمانينات تتمتع بأجواء ثقافية مواتية لتبادل الأفكار والمواد الجديدة. وكان أحد العناصر الحاسمة فيها هو شبكة البث العامة راديو باكستان، حيث عمل العديد من الشعراء.
وقد أشار أفضال إلى أن زيارة المحطة كانت بمثابة فرصة لمشاركة القصائد والانضمام إلى الأحاديث الأدبية. وقال عن زوجته تنوير أنجم، وهي شاعرة أيضا “هذا أيضا هو المكان الذي التقيت فيه تنوير للمرة الأولى”. وكانت منازل أقرانه أيضا بمثابة صالونات أدبية. قمر جميل – وصفه أفضال بأنه “زعيم حركة قصائد النثر” – أبقى بيته مفتوحا حيث يمكن للشعراء الدخول إليه، وتستمر المناقشات حتى وقت متأخر من الليل. وعقد آخرون، مثل أنور سين روي وعذرا عباس، اجتماعات أسبوعية. كان منزل أفضال مركزا آخر. من هذه الثقافة، المتمثلة في تجربة الشكل والمشاركة والترجمة، ظهر جيل جديد بدأ في إعادة تعريف الشعر الأردي.
جسر من الزمن
كتب شعراء الأردية في الماضي بغزارة عن الحب والألم. وحتى الآن، يهيمن على متن الشعر الأوردي الشعر الموزون والمقفى بشكل مباشر للغاية – إلى الحبيب، أو الدولة، أو القراء، أو الله. ولكن، في مواجهة هذا الاتجاه السائد، أراد أفضال وزملاؤه جذب القارئ إلى داخل تجاربهم الحياتية، من خلال استخدام أشياء عادية مثل الدراجات وأجهزة التلفزيون وملقط صيد الكلاب في سطورهم.
قصائدهم ليست ملخصات دقيقة للحياة البشرية. إنها أشياء متحركة ومزخرفة، لها جلد وأسنان، كما لو كانت تحاول التقاط الحياة نفسها. عندما سئل سيد عن كيفية تعريفه للحداثة في الشعر، قال “أن تكون حداثيا يعني إنكار السرديات الكبرى، ومقاومة السلطة، وحتى سلطة الوزن في الشعر”. وهذا ما كان يفعله هو ومعاصروه.
لمسلمي شبه القارة الهندية الباكستانية علاقة خاصة باللغة والثقافة العربيتين، والعالم العربي. وهذا هو السبب في أن الترجمات الأردية للشعراء والكتاب العرب تحظى بشعبية كبيرة لدى القراء الباكستانيين
يقول أفضال أحمد سيد عن إحدى قصائده “اخترعت الشعر” التي حملت عنوان المختارات. هذه نظرة ساخرة لفكرة الاختراع. هل فعلا المغاربة هم من اخترعوا البردي كما يتساءل الشاعر؟ هل الشعر اخترع الحب؟ ومع ذلك، وبقدر ما يمكن لأي فرد أن ينسب إليه الفضل في ابتكارات أسلوبية معينة، فقد ساعد أفضال بالتأكيد في إعادة اختراع الشعر الأردي المعاصر. فهو لا يعتمد على الاستعارة والتشبيه بشدة كما فعل أسلافه.
منهج أفضال هو أن يأخذ القراء عبر جسر من الزمن، مبني جزئيا من لقطات من ذاكرته، وجزئيا من المناظر الطبيعية وسكانها من البشر والحيوانات. أصداء المعاناة التي وصفها كبار كتاب أوروبا الشرقية، مثل الشاعرة البولندية الحائزة على جائزة نوبل فيسلافا شيمبورسكا، التي كتبت عن المجاعة ومعسكرات الاعتقال، تملأ أعماله. لكن القراء سيرون أيضا طابع التقليد الأردي في القصائد التي تتحدث عن معاناة الحب وإهاناته.
يذكر أن أفضال أحمد سيد ولد في 26 سبتمبر 1946 في “غازي بور” التابعة لمقاطعة أتربرديش بالهند (قبل تقسيم الهند وباكستان سنة 1947). وتلقى تعليمه في مدينة دكا البنغالية (قبل تقسيم باكستان وبنغلاديش)، التي بدأ فيها أيضا حياته المهنية بالعمل في وزارة الزراعة الائتلافية هناك. وعند تقسيم باكستان وبنغلاديش سنة 1971 انتقل مع أسرته إلى مدينة كراتشي الباكستانية.
يترجم أفضال عن الإنجليزية والفارسية، وهو من أوائل من ترجموا لماركيز وجان جينيه في اللغة الأردية، كما ترجم أيضا من الشرق الأعمال الشعرية الفارسية الكاملة للشاعر الأردي والفارسي الكبير “مير تقي مير” ونال عنها جائزة باكستانية مرموقة، كما ترجم مختارات للشاعر الكبير “بيدل”، وأصدر في مطلع سنة 2020 ترجمته لمختارات من الشعر الفارسي.
درس أفضال أحمد سيد ماجستير علم الحشرات في الجامعة الأميركية ببيروت بين عامي 1974 و1976 في بعثة علمية من الحكومة الائتلافية الباكستانية، فشهد الحرب الأهلية اللبنانية أثناء إقامته هناك، وكان قد شهد سابقا الحرب الأهلية الباكستانية المعروفة بحرب استقلال بنغلاديش أثناء إقامته في دكا سنة 1971. وهكذا فإن أفضال قد ولد بالهند فانقسمت الهند وباكستان بعد ميلاده بأقل من سنة، ثم انتقلت به أسرته من الهند إلى مدينة دكا التي كانت مدينة باكستانية، فانقسمت باكستان إلى باكستان وبنغلاديش بعد خمس وعشرين سنة من ميلاده، فاضطر إلى الانتقال مجددا وهو في مطلع شبابه من بنغلاديش إلى باكستان، ولعله عبر عن ملمح من هذه المأساة في قصيدته “كان يتبقى مني شيء ما”.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري