نصوص تشكيلية واستذكار نقدي تحية إلى محمد صبري
فنانون يرسمون لوحات متأثرين بتجربة الفنان الراحل.
الجمعة 2024/05/31
انشرWhatsAppTwitterFacebook
لوحة للفنان حسين النجار
يرحل الفنان، لكن أعماله تظل بيننا، تذكّرنا به وبمسيرته الفنية وأبرز محطاتها، وتحث بين فترة وأخرى على تنظيم معارض تستعيد موهبته، عبر أنامل فنانين متأثرين بأسلوبه، وآراء نقاد يقيّمون تجربته ويستعيدون حضوره الإنساني وذكرياتهم معه.
بغداد - في قاعة أكد للفنون ببغداد استذكر بعض زملاء وطلبة الفنان الراحل محمد صبري فقيدهم، من خلال معرض مشترك لخمسة عشر فنانا وفنانة تحت عنوان “تحية إلى محمد صبري” بأعمال انطباعية، المدرسة التي كان الراحل أحد فرسانها في العراق، ونهلها من أستاذه الفنان فائق حسن الذي كان أحد المقربين عنده.
شارك في المعرض كل من الفنانين: كاظم نوير، وعاصم عبدالأمير، وصلاح هادي، وفاخر محمد، وعلي شاكر نعمة، وشرحبيل أحمد، ورائد منصور، وحسين الجاسم، وعبدالعزيز الدهر، وحسن أحمد، ومحمد علي إجحالي، وحسين النجار، ومحسن الشمري، وحسن عبدالشهيد، وسهى الجميلي، مع عرض لبعض لوحات الراحل محمد صبري.
استلهمت جميع المشاركات زوايا متميزة من أصالة الطبيعة العراقية حصرا، وجميعها اتسمت بدقة المهارة التي تعتمد على المدارس الكلاسيكية، ولكن كل ضمن أسلوبه الفني، وضرباته اللونية وغيرها.
لمحة عن الفنان
فنان ترك أعمالا تشكيلية ثرية
الفنان الراحل محمد صبري فرج من مواليد عام 1955 في ذي قار. حاصل على بكالوريوس رسم عام 1978. وماجستير رسم عام 1981، وعمل مدرسا في كلية الفنون الجميلة منذ عام 1984. ابتدأ الرسم مبكرا منذ صغره بتأثير من والده الرسام، الذي كان زميلا للفنان عطا صبري في معهد إعداد المعلمين في الرستمية ببغداد.
شارك في جميع معارض جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين ودائرة الفنون التشكيلية. كما أقام معرضا شخصيا في قاعة حوار عام 1999. وهو أحد مؤسسي “جماعة الأربعة” الفنية التي تأسست في بداية الثمانينات من القرن الماضي، مع كل من فاخر محمد وعاصم عبدالأمير وحسن عبود. وشارك في جميع معارضها. توفي في 12 أبريل 2002 في عمان بعد مرض عضال لم يمهله أكثر من أربعة أشهر.
وفي وصفه لتجربته الفنية قال صبري “أنا أشتغل على مشروعي الخاص واختياري العزلة لا يعني انقطاعي عن العالم لأنني أرسم باستمرار وبحكم كوني مدرسا في كلية الفنون فأنا أمارس واجبي وأحاول أن أنقل لطلابي أفضل ما أعرف وأنا في ذلك أشعر بثقل مهمتي وبنبلها. البعض مع الأسف يريد منا أن نرسم لوحة واحدة ونكررها طيلة حياتنا تحت ذريعة الأسلوب وفي ذلك جهل لمعنى الأسلوبية. أنا أرسم مثلما أريد”.
وفي تعليق له على ظاهرة انتشار قاعات الرسم، كان للراحل رأي إيجابي حيث قال إن “ظاهرة افتتاح قاعات للرسم في حد ذاتها إيجابية فهي دلالة على انتشار الوعي الفني، لكن الذي حدث أن الكثير من هذه القاعات تتعامل بصيغة دكان يعرض بضاعته، وبوجود فنانين يعتبرون الرسم مجرد أكل عيش يصبح الأمر كارثة لأن البعض من هؤلاء يرسم بالجملة، فهو أقرب إلى المقاول والأسطى منه للفنان، وحاجة هذه الدكاكين إلى بضاعة جعلت البعض يساق إلى المتاجرة بسهولة”.
توفي محمد صبري بهدوء، ومع موته حدث الصدع في أركان الرسم الأكاديمي، أو هكذا أطلقنا عليه، حتى بدأ يلفظ آخر أنفاسه، بهدوء وصمت. إنها معادلة غريبة، ففي عصر التداول والاستنساخ والعودة إلى المرجعيات البصرية، صرنا نعيش الفن أفرادا لا جماعات، ولأن الأفراد يموتون فإن الذاكرة الثقافية ظلت تعيش على الأسى والأسى وحده، تعيش على أوهامه.
15
فنانا يوجهون "تحية إلى محمد صبري" بأعمال انطباعية، المدرسة التي كان الراحل أحد فرسانها
رحل محمد صبري، الإنسان والفنان، وفي فجيعته الحبلى بالألم والمرارة مناسبة لإعادة إنتاجه أو إعادة قراءته، إنه نتاج سنوات محمولة على العوز والمعاناة والجهد والعفة والألم.
رثاه الدكتور عاصم عبدالأمير فكتب فيه “في شقة بمدينة الشعب لا تكفي لحقول غربتك ورصيدك فيها كأس، حفنة ملح وأوراق الخس ونافذة مورقة بالهم وأشجار من شمع ذابل. في عمان كنت أراك ضامرا كعود ثقاب أو كطائر جنائزي كنت تمضي وحيدا بعيدا إلى مقبرة من سحاب. محمد صبري طيف مر علينا سريعا، دون أن يودع فينا سوى رحيق الفراق”.
أما الدكتور عاصم فرمان فكتب “بسرعة مجنونة وذهول غادرنا العديد من الفنانين أساتذة وأصدقاء. وحين نتأمل رحيل الفنان المبدع محمد صبري، جميعنا يتذكر ثلاثة عقود من السنين – خاتمة القرن العشرين طالبا مجدا، صديقا مهذبا، وفنانا مبدعا، عشقه الآخرون بهدوء، ثلاثة عقود من السنين، تزاحمت بها: الإصرار على العمل، والحرمان، الهموم، الحنين، الأحلام، الألم، العبث والجنون، والضنك، والجوع أحيانا. مهما كانت الأسباب والمعاناة. جميعنا كان ينتظر الكأس الأخيرة! لكنه قاوم بعشق ثمل، وابتهاج حزين، وبألوان الحب واللا حب، وعطر القداح والياسمين”.
وتابع “كانت زيارتي الأخيرة له في الغربة القاتلة أواخر شهر مارس من عام 2002 وهو على سرير يتيم محاطا بحنان الأصدقاء جسام خضر، وناجي مطر، وماهر محمد، وعمر حمدان. تحاصره العيون الخائرة لأطفاله، أما الآخرون وهم قلة فقد تغافلوا زيارته إلى حد الجفاء! إنها الغربة القاتلة! لم يصدق.. ولن يرغب أن يصدق إطلاقا ارتباك الغد، وأصر على ذلك، متناسيا أو مرغما، أصر على أنها حمامة بيضاء تجثم فوق صدره، وليست بغراب. كان تحوله شاحبا على الرغم من نشاط وتيقظ الحواس، جميعنا تمنى أن يكون مرافقا لنا إلى بغداد، ولكن! لم أستطع زيارته مرة ثانية أو ثالثة، إنها لحظات ذعر وانفجار، لحظات اختناق من شحنة هواء أصابها العطب”.
وأردف “في بيت الفن، جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين، وفي شهر تموز (يوليو) من عام 2002، اجتمع أصدقاؤه ومحبوه وزملاؤه، نستذكر الصديق الراحل محمد صبري مبدعا وابتسامته الأثيرية الساخرة تتجول ما بيننا وشاهدة على نبلكم في ذكراه، من خلال حضوركم وفاء له”.
محمد صبري والثلاثة الآخرون
جميع المشاركات استلهمت زوايا متميزة من أصالة الطبيعة العراقية حصرا، وجميعها اتسمت بدقة المهارة التي تعتمد على المدارس الكلاسيكية
يروي فاخر محمد تفاصيل عن علاقته مع الراحل فيقول “عندما ارتديت الخاكي وحذاء العسكرية في 12 أغسطس 1980، لم أكن أتوقع أن الأحداث ستأتي تباعا وبهذه السرعة. وعندما بدأت الحرب، لم تنقطع الآمال بأن فجرا ملونا بالحب والرسم والنقاشات الثقافية سيستمر على الرغم من كل شيء، والفاصلة الزمنية كانت سنتين اشتد فيهما أوار الحرب وفقدان الأصدقاء وكانت أيضا سنتين من التحضير والاتقان للمعرض الذي أقيم في القاعة العليا في المتحف الوطني للفن الحديث أسميناه معرض جماعة الأربعة، محمد صبري، فاخر محمد، عاصم عبدالأمير وحسن عبود. الرسم والرفقة المستمرة والعلاقة الوطيدة كانت العامل المشترك”.
ويضيف “أتذكر في هذا المعرض كانت واحدة من لوحات محمد صبري غير جافة، لوحة جديدة، قال لي ‘لقد أحببتها’. وأجريت عليها تعديلات كثيرة، كان آخر من يوصل لوحاته إلى المعرض، لسبب بسيط، كان لديه تصور مختلف للزمن، ومحمد صبري يستطيع أن يمنح الدقيقة تصورا وبعدا أكثر من قياسها التقليدي للزمن، وهو يكره المحددات الزمنية، ويتضايق جدا من الارتباطات الملزمة، لأنها حسب ما أعتقد تعكر صفو روحه”.
ويشير إلى أنه “في معارض الأربعة التي أقيمت في بغداد وجميعها -ما عدا المعرض الأخير- أقيمت أثناء الحرب، كانت أعمال محمد صبري تسودها علامة شفافة من حزن وجوه ساعة في فضاء معتم، وجوهه هو ووجود الله مصرية أو عراقية قديمة أو حبيبات زرعن فيه يوما سعادات سريعة، كان يدير تكويناته بحساسية فنان متمرس. والمعروف عن محمد صبري كونه أحد أفضل الفنانين العراقيين في تقنية الرسم الأكاديمي، الطبيعة أو الموديل أو التكوينات الإنشائية، وهذا شكل تأثيرا واضحا حتى في لوحاته ذات المنحى الحديث”.
كما يكشف أنه “قبل أن تنتهي حياته القصيرة، كانت هناك مشكلة يعيشها محمد صبري، هي اللاجدوى، وهذا ما دفعه إلى الركون مؤخرا في زاوية ضيقة من هذا العالم؛ شقة في حي الشعب ببغداد، مع امرأة وطفلتين وكأس جعله عالما آخر، وجد نفسه فيه. إلا أنه غدر به وهذا ما توقعناه”.
الفنان النبيل
في حديثه عن الفنان الراحل، كتب الدكتور مكي عمران راجي “عيون تحدق نحو آفاق لم تعد تراها. وصمت يحاول استدراج الحديث من رحم صدى كنخلة تضلل الحمضيات في القيض لتفوز إلا قفاص بالمسرة. بث روحه في لوحة وأباح حبه لوطنه، لطلبته ولفنه الجميل. راح يحرث ذاته عبر النسيج الأبيض ويطرز ما أؤتمن عليه من قبل أستاذنا الجليل فائق حسن، بات مخلصا للدرس فتأسر”.
ويرى أن محمد صبري “بقي أمينا لإنسانيته بنبل، وبعيدا عن إغواء المحنة أدرك ذاته في أن يمضي خارج حدود المكان والزمان كنصب شيد للحياة وتحديها. نبيلا كعادته مضى في لضى الدنيا دون اكتراث والمحنة تنسل في الثنايا لتشيد موطنا لخلية غريبة في جسد توضأ بالوحدة والصمت. إنه الطائر المهاجر في جوانيته، يغادرنا بصمت كما يحلو له. ويمر بنا بوصفه نسمة بين ارتحالين مؤسسا وجوده الإنساني النبيل. إنه النبيل حقا… والفنان الحقيقي بدون ضجيج وفرص تطرزها الموائد للأضواء. لقد عتق دنان ذاته واحتسى الأسى بلا تردد واختار رحيله بلا ضجيج وأباح لفنه مشروعية الاكتشاف”.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
علي إبراهـيم الدليمي
كاتب عراقي
فنانون يرسمون لوحات متأثرين بتجربة الفنان الراحل.
الجمعة 2024/05/31
انشرWhatsAppTwitterFacebook
لوحة للفنان حسين النجار
يرحل الفنان، لكن أعماله تظل بيننا، تذكّرنا به وبمسيرته الفنية وأبرز محطاتها، وتحث بين فترة وأخرى على تنظيم معارض تستعيد موهبته، عبر أنامل فنانين متأثرين بأسلوبه، وآراء نقاد يقيّمون تجربته ويستعيدون حضوره الإنساني وذكرياتهم معه.
بغداد - في قاعة أكد للفنون ببغداد استذكر بعض زملاء وطلبة الفنان الراحل محمد صبري فقيدهم، من خلال معرض مشترك لخمسة عشر فنانا وفنانة تحت عنوان “تحية إلى محمد صبري” بأعمال انطباعية، المدرسة التي كان الراحل أحد فرسانها في العراق، ونهلها من أستاذه الفنان فائق حسن الذي كان أحد المقربين عنده.
شارك في المعرض كل من الفنانين: كاظم نوير، وعاصم عبدالأمير، وصلاح هادي، وفاخر محمد، وعلي شاكر نعمة، وشرحبيل أحمد، ورائد منصور، وحسين الجاسم، وعبدالعزيز الدهر، وحسن أحمد، ومحمد علي إجحالي، وحسين النجار، ومحسن الشمري، وحسن عبدالشهيد، وسهى الجميلي، مع عرض لبعض لوحات الراحل محمد صبري.
استلهمت جميع المشاركات زوايا متميزة من أصالة الطبيعة العراقية حصرا، وجميعها اتسمت بدقة المهارة التي تعتمد على المدارس الكلاسيكية، ولكن كل ضمن أسلوبه الفني، وضرباته اللونية وغيرها.
لمحة عن الفنان
فنان ترك أعمالا تشكيلية ثرية
الفنان الراحل محمد صبري فرج من مواليد عام 1955 في ذي قار. حاصل على بكالوريوس رسم عام 1978. وماجستير رسم عام 1981، وعمل مدرسا في كلية الفنون الجميلة منذ عام 1984. ابتدأ الرسم مبكرا منذ صغره بتأثير من والده الرسام، الذي كان زميلا للفنان عطا صبري في معهد إعداد المعلمين في الرستمية ببغداد.
شارك في جميع معارض جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين ودائرة الفنون التشكيلية. كما أقام معرضا شخصيا في قاعة حوار عام 1999. وهو أحد مؤسسي “جماعة الأربعة” الفنية التي تأسست في بداية الثمانينات من القرن الماضي، مع كل من فاخر محمد وعاصم عبدالأمير وحسن عبود. وشارك في جميع معارضها. توفي في 12 أبريل 2002 في عمان بعد مرض عضال لم يمهله أكثر من أربعة أشهر.
وفي وصفه لتجربته الفنية قال صبري “أنا أشتغل على مشروعي الخاص واختياري العزلة لا يعني انقطاعي عن العالم لأنني أرسم باستمرار وبحكم كوني مدرسا في كلية الفنون فأنا أمارس واجبي وأحاول أن أنقل لطلابي أفضل ما أعرف وأنا في ذلك أشعر بثقل مهمتي وبنبلها. البعض مع الأسف يريد منا أن نرسم لوحة واحدة ونكررها طيلة حياتنا تحت ذريعة الأسلوب وفي ذلك جهل لمعنى الأسلوبية. أنا أرسم مثلما أريد”.
وفي تعليق له على ظاهرة انتشار قاعات الرسم، كان للراحل رأي إيجابي حيث قال إن “ظاهرة افتتاح قاعات للرسم في حد ذاتها إيجابية فهي دلالة على انتشار الوعي الفني، لكن الذي حدث أن الكثير من هذه القاعات تتعامل بصيغة دكان يعرض بضاعته، وبوجود فنانين يعتبرون الرسم مجرد أكل عيش يصبح الأمر كارثة لأن البعض من هؤلاء يرسم بالجملة، فهو أقرب إلى المقاول والأسطى منه للفنان، وحاجة هذه الدكاكين إلى بضاعة جعلت البعض يساق إلى المتاجرة بسهولة”.
توفي محمد صبري بهدوء، ومع موته حدث الصدع في أركان الرسم الأكاديمي، أو هكذا أطلقنا عليه، حتى بدأ يلفظ آخر أنفاسه، بهدوء وصمت. إنها معادلة غريبة، ففي عصر التداول والاستنساخ والعودة إلى المرجعيات البصرية، صرنا نعيش الفن أفرادا لا جماعات، ولأن الأفراد يموتون فإن الذاكرة الثقافية ظلت تعيش على الأسى والأسى وحده، تعيش على أوهامه.
15
فنانا يوجهون "تحية إلى محمد صبري" بأعمال انطباعية، المدرسة التي كان الراحل أحد فرسانها
رحل محمد صبري، الإنسان والفنان، وفي فجيعته الحبلى بالألم والمرارة مناسبة لإعادة إنتاجه أو إعادة قراءته، إنه نتاج سنوات محمولة على العوز والمعاناة والجهد والعفة والألم.
رثاه الدكتور عاصم عبدالأمير فكتب فيه “في شقة بمدينة الشعب لا تكفي لحقول غربتك ورصيدك فيها كأس، حفنة ملح وأوراق الخس ونافذة مورقة بالهم وأشجار من شمع ذابل. في عمان كنت أراك ضامرا كعود ثقاب أو كطائر جنائزي كنت تمضي وحيدا بعيدا إلى مقبرة من سحاب. محمد صبري طيف مر علينا سريعا، دون أن يودع فينا سوى رحيق الفراق”.
أما الدكتور عاصم فرمان فكتب “بسرعة مجنونة وذهول غادرنا العديد من الفنانين أساتذة وأصدقاء. وحين نتأمل رحيل الفنان المبدع محمد صبري، جميعنا يتذكر ثلاثة عقود من السنين – خاتمة القرن العشرين طالبا مجدا، صديقا مهذبا، وفنانا مبدعا، عشقه الآخرون بهدوء، ثلاثة عقود من السنين، تزاحمت بها: الإصرار على العمل، والحرمان، الهموم، الحنين، الأحلام، الألم، العبث والجنون، والضنك، والجوع أحيانا. مهما كانت الأسباب والمعاناة. جميعنا كان ينتظر الكأس الأخيرة! لكنه قاوم بعشق ثمل، وابتهاج حزين، وبألوان الحب واللا حب، وعطر القداح والياسمين”.
وتابع “كانت زيارتي الأخيرة له في الغربة القاتلة أواخر شهر مارس من عام 2002 وهو على سرير يتيم محاطا بحنان الأصدقاء جسام خضر، وناجي مطر، وماهر محمد، وعمر حمدان. تحاصره العيون الخائرة لأطفاله، أما الآخرون وهم قلة فقد تغافلوا زيارته إلى حد الجفاء! إنها الغربة القاتلة! لم يصدق.. ولن يرغب أن يصدق إطلاقا ارتباك الغد، وأصر على ذلك، متناسيا أو مرغما، أصر على أنها حمامة بيضاء تجثم فوق صدره، وليست بغراب. كان تحوله شاحبا على الرغم من نشاط وتيقظ الحواس، جميعنا تمنى أن يكون مرافقا لنا إلى بغداد، ولكن! لم أستطع زيارته مرة ثانية أو ثالثة، إنها لحظات ذعر وانفجار، لحظات اختناق من شحنة هواء أصابها العطب”.
وأردف “في بيت الفن، جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين، وفي شهر تموز (يوليو) من عام 2002، اجتمع أصدقاؤه ومحبوه وزملاؤه، نستذكر الصديق الراحل محمد صبري مبدعا وابتسامته الأثيرية الساخرة تتجول ما بيننا وشاهدة على نبلكم في ذكراه، من خلال حضوركم وفاء له”.
محمد صبري والثلاثة الآخرون
جميع المشاركات استلهمت زوايا متميزة من أصالة الطبيعة العراقية حصرا، وجميعها اتسمت بدقة المهارة التي تعتمد على المدارس الكلاسيكية
يروي فاخر محمد تفاصيل عن علاقته مع الراحل فيقول “عندما ارتديت الخاكي وحذاء العسكرية في 12 أغسطس 1980، لم أكن أتوقع أن الأحداث ستأتي تباعا وبهذه السرعة. وعندما بدأت الحرب، لم تنقطع الآمال بأن فجرا ملونا بالحب والرسم والنقاشات الثقافية سيستمر على الرغم من كل شيء، والفاصلة الزمنية كانت سنتين اشتد فيهما أوار الحرب وفقدان الأصدقاء وكانت أيضا سنتين من التحضير والاتقان للمعرض الذي أقيم في القاعة العليا في المتحف الوطني للفن الحديث أسميناه معرض جماعة الأربعة، محمد صبري، فاخر محمد، عاصم عبدالأمير وحسن عبود. الرسم والرفقة المستمرة والعلاقة الوطيدة كانت العامل المشترك”.
ويضيف “أتذكر في هذا المعرض كانت واحدة من لوحات محمد صبري غير جافة، لوحة جديدة، قال لي ‘لقد أحببتها’. وأجريت عليها تعديلات كثيرة، كان آخر من يوصل لوحاته إلى المعرض، لسبب بسيط، كان لديه تصور مختلف للزمن، ومحمد صبري يستطيع أن يمنح الدقيقة تصورا وبعدا أكثر من قياسها التقليدي للزمن، وهو يكره المحددات الزمنية، ويتضايق جدا من الارتباطات الملزمة، لأنها حسب ما أعتقد تعكر صفو روحه”.
ويشير إلى أنه “في معارض الأربعة التي أقيمت في بغداد وجميعها -ما عدا المعرض الأخير- أقيمت أثناء الحرب، كانت أعمال محمد صبري تسودها علامة شفافة من حزن وجوه ساعة في فضاء معتم، وجوهه هو ووجود الله مصرية أو عراقية قديمة أو حبيبات زرعن فيه يوما سعادات سريعة، كان يدير تكويناته بحساسية فنان متمرس. والمعروف عن محمد صبري كونه أحد أفضل الفنانين العراقيين في تقنية الرسم الأكاديمي، الطبيعة أو الموديل أو التكوينات الإنشائية، وهذا شكل تأثيرا واضحا حتى في لوحاته ذات المنحى الحديث”.
كما يكشف أنه “قبل أن تنتهي حياته القصيرة، كانت هناك مشكلة يعيشها محمد صبري، هي اللاجدوى، وهذا ما دفعه إلى الركون مؤخرا في زاوية ضيقة من هذا العالم؛ شقة في حي الشعب ببغداد، مع امرأة وطفلتين وكأس جعله عالما آخر، وجد نفسه فيه. إلا أنه غدر به وهذا ما توقعناه”.
الفنان النبيل
في حديثه عن الفنان الراحل، كتب الدكتور مكي عمران راجي “عيون تحدق نحو آفاق لم تعد تراها. وصمت يحاول استدراج الحديث من رحم صدى كنخلة تضلل الحمضيات في القيض لتفوز إلا قفاص بالمسرة. بث روحه في لوحة وأباح حبه لوطنه، لطلبته ولفنه الجميل. راح يحرث ذاته عبر النسيج الأبيض ويطرز ما أؤتمن عليه من قبل أستاذنا الجليل فائق حسن، بات مخلصا للدرس فتأسر”.
ويرى أن محمد صبري “بقي أمينا لإنسانيته بنبل، وبعيدا عن إغواء المحنة أدرك ذاته في أن يمضي خارج حدود المكان والزمان كنصب شيد للحياة وتحديها. نبيلا كعادته مضى في لضى الدنيا دون اكتراث والمحنة تنسل في الثنايا لتشيد موطنا لخلية غريبة في جسد توضأ بالوحدة والصمت. إنه الطائر المهاجر في جوانيته، يغادرنا بصمت كما يحلو له. ويمر بنا بوصفه نسمة بين ارتحالين مؤسسا وجوده الإنساني النبيل. إنه النبيل حقا… والفنان الحقيقي بدون ضجيج وفرص تطرزها الموائد للأضواء. لقد عتق دنان ذاته واحتسى الأسى بلا تردد واختار رحيله بلا ضجيج وأباح لفنه مشروعية الاكتشاف”.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
علي إبراهـيم الدليمي
كاتب عراقي
فنانون يرسمون لوحات متأثرين بتجربة الفنان الراحل.
الجمعة 2024/05/31
انشرWhatsAppTwitterFacebook
لوحة للفنان حسين النجار
يرحل الفنان، لكن أعماله تظل بيننا، تذكّرنا به وبمسيرته الفنية وأبرز محطاتها، وتحث بين فترة وأخرى على تنظيم معارض تستعيد موهبته، عبر أنامل فنانين متأثرين بأسلوبه، وآراء نقاد يقيّمون تجربته ويستعيدون حضوره الإنساني وذكرياتهم معه.
بغداد - في قاعة أكد للفنون ببغداد استذكر بعض زملاء وطلبة الفنان الراحل محمد صبري فقيدهم، من خلال معرض مشترك لخمسة عشر فنانا وفنانة تحت عنوان “تحية إلى محمد صبري” بأعمال انطباعية، المدرسة التي كان الراحل أحد فرسانها في العراق، ونهلها من أستاذه الفنان فائق حسن الذي كان أحد المقربين عنده.
شارك في المعرض كل من الفنانين: كاظم نوير، وعاصم عبدالأمير، وصلاح هادي، وفاخر محمد، وعلي شاكر نعمة، وشرحبيل أحمد، ورائد منصور، وحسين الجاسم، وعبدالعزيز الدهر، وحسن أحمد، ومحمد علي إجحالي، وحسين النجار، ومحسن الشمري، وحسن عبدالشهيد، وسهى الجميلي، مع عرض لبعض لوحات الراحل محمد صبري.
استلهمت جميع المشاركات زوايا متميزة من أصالة الطبيعة العراقية حصرا، وجميعها اتسمت بدقة المهارة التي تعتمد على المدارس الكلاسيكية، ولكن كل ضمن أسلوبه الفني، وضرباته اللونية وغيرها.
لمحة عن الفنان
فنان ترك أعمالا تشكيلية ثرية
الفنان الراحل محمد صبري فرج من مواليد عام 1955 في ذي قار. حاصل على بكالوريوس رسم عام 1978. وماجستير رسم عام 1981، وعمل مدرسا في كلية الفنون الجميلة منذ عام 1984. ابتدأ الرسم مبكرا منذ صغره بتأثير من والده الرسام، الذي كان زميلا للفنان عطا صبري في معهد إعداد المعلمين في الرستمية ببغداد.
شارك في جميع معارض جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين ودائرة الفنون التشكيلية. كما أقام معرضا شخصيا في قاعة حوار عام 1999. وهو أحد مؤسسي “جماعة الأربعة” الفنية التي تأسست في بداية الثمانينات من القرن الماضي، مع كل من فاخر محمد وعاصم عبدالأمير وحسن عبود. وشارك في جميع معارضها. توفي في 12 أبريل 2002 في عمان بعد مرض عضال لم يمهله أكثر من أربعة أشهر.
وفي وصفه لتجربته الفنية قال صبري “أنا أشتغل على مشروعي الخاص واختياري العزلة لا يعني انقطاعي عن العالم لأنني أرسم باستمرار وبحكم كوني مدرسا في كلية الفنون فأنا أمارس واجبي وأحاول أن أنقل لطلابي أفضل ما أعرف وأنا في ذلك أشعر بثقل مهمتي وبنبلها. البعض مع الأسف يريد منا أن نرسم لوحة واحدة ونكررها طيلة حياتنا تحت ذريعة الأسلوب وفي ذلك جهل لمعنى الأسلوبية. أنا أرسم مثلما أريد”.
وفي تعليق له على ظاهرة انتشار قاعات الرسم، كان للراحل رأي إيجابي حيث قال إن “ظاهرة افتتاح قاعات للرسم في حد ذاتها إيجابية فهي دلالة على انتشار الوعي الفني، لكن الذي حدث أن الكثير من هذه القاعات تتعامل بصيغة دكان يعرض بضاعته، وبوجود فنانين يعتبرون الرسم مجرد أكل عيش يصبح الأمر كارثة لأن البعض من هؤلاء يرسم بالجملة، فهو أقرب إلى المقاول والأسطى منه للفنان، وحاجة هذه الدكاكين إلى بضاعة جعلت البعض يساق إلى المتاجرة بسهولة”.
توفي محمد صبري بهدوء، ومع موته حدث الصدع في أركان الرسم الأكاديمي، أو هكذا أطلقنا عليه، حتى بدأ يلفظ آخر أنفاسه، بهدوء وصمت. إنها معادلة غريبة، ففي عصر التداول والاستنساخ والعودة إلى المرجعيات البصرية، صرنا نعيش الفن أفرادا لا جماعات، ولأن الأفراد يموتون فإن الذاكرة الثقافية ظلت تعيش على الأسى والأسى وحده، تعيش على أوهامه.
15
فنانا يوجهون "تحية إلى محمد صبري" بأعمال انطباعية، المدرسة التي كان الراحل أحد فرسانها
رحل محمد صبري، الإنسان والفنان، وفي فجيعته الحبلى بالألم والمرارة مناسبة لإعادة إنتاجه أو إعادة قراءته، إنه نتاج سنوات محمولة على العوز والمعاناة والجهد والعفة والألم.
رثاه الدكتور عاصم عبدالأمير فكتب فيه “في شقة بمدينة الشعب لا تكفي لحقول غربتك ورصيدك فيها كأس، حفنة ملح وأوراق الخس ونافذة مورقة بالهم وأشجار من شمع ذابل. في عمان كنت أراك ضامرا كعود ثقاب أو كطائر جنائزي كنت تمضي وحيدا بعيدا إلى مقبرة من سحاب. محمد صبري طيف مر علينا سريعا، دون أن يودع فينا سوى رحيق الفراق”.
أما الدكتور عاصم فرمان فكتب “بسرعة مجنونة وذهول غادرنا العديد من الفنانين أساتذة وأصدقاء. وحين نتأمل رحيل الفنان المبدع محمد صبري، جميعنا يتذكر ثلاثة عقود من السنين – خاتمة القرن العشرين طالبا مجدا، صديقا مهذبا، وفنانا مبدعا، عشقه الآخرون بهدوء، ثلاثة عقود من السنين، تزاحمت بها: الإصرار على العمل، والحرمان، الهموم، الحنين، الأحلام، الألم، العبث والجنون، والضنك، والجوع أحيانا. مهما كانت الأسباب والمعاناة. جميعنا كان ينتظر الكأس الأخيرة! لكنه قاوم بعشق ثمل، وابتهاج حزين، وبألوان الحب واللا حب، وعطر القداح والياسمين”.
وتابع “كانت زيارتي الأخيرة له في الغربة القاتلة أواخر شهر مارس من عام 2002 وهو على سرير يتيم محاطا بحنان الأصدقاء جسام خضر، وناجي مطر، وماهر محمد، وعمر حمدان. تحاصره العيون الخائرة لأطفاله، أما الآخرون وهم قلة فقد تغافلوا زيارته إلى حد الجفاء! إنها الغربة القاتلة! لم يصدق.. ولن يرغب أن يصدق إطلاقا ارتباك الغد، وأصر على ذلك، متناسيا أو مرغما، أصر على أنها حمامة بيضاء تجثم فوق صدره، وليست بغراب. كان تحوله شاحبا على الرغم من نشاط وتيقظ الحواس، جميعنا تمنى أن يكون مرافقا لنا إلى بغداد، ولكن! لم أستطع زيارته مرة ثانية أو ثالثة، إنها لحظات ذعر وانفجار، لحظات اختناق من شحنة هواء أصابها العطب”.
وأردف “في بيت الفن، جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين، وفي شهر تموز (يوليو) من عام 2002، اجتمع أصدقاؤه ومحبوه وزملاؤه، نستذكر الصديق الراحل محمد صبري مبدعا وابتسامته الأثيرية الساخرة تتجول ما بيننا وشاهدة على نبلكم في ذكراه، من خلال حضوركم وفاء له”.
محمد صبري والثلاثة الآخرون
جميع المشاركات استلهمت زوايا متميزة من أصالة الطبيعة العراقية حصرا، وجميعها اتسمت بدقة المهارة التي تعتمد على المدارس الكلاسيكية
يروي فاخر محمد تفاصيل عن علاقته مع الراحل فيقول “عندما ارتديت الخاكي وحذاء العسكرية في 12 أغسطس 1980، لم أكن أتوقع أن الأحداث ستأتي تباعا وبهذه السرعة. وعندما بدأت الحرب، لم تنقطع الآمال بأن فجرا ملونا بالحب والرسم والنقاشات الثقافية سيستمر على الرغم من كل شيء، والفاصلة الزمنية كانت سنتين اشتد فيهما أوار الحرب وفقدان الأصدقاء وكانت أيضا سنتين من التحضير والاتقان للمعرض الذي أقيم في القاعة العليا في المتحف الوطني للفن الحديث أسميناه معرض جماعة الأربعة، محمد صبري، فاخر محمد، عاصم عبدالأمير وحسن عبود. الرسم والرفقة المستمرة والعلاقة الوطيدة كانت العامل المشترك”.
ويضيف “أتذكر في هذا المعرض كانت واحدة من لوحات محمد صبري غير جافة، لوحة جديدة، قال لي ‘لقد أحببتها’. وأجريت عليها تعديلات كثيرة، كان آخر من يوصل لوحاته إلى المعرض، لسبب بسيط، كان لديه تصور مختلف للزمن، ومحمد صبري يستطيع أن يمنح الدقيقة تصورا وبعدا أكثر من قياسها التقليدي للزمن، وهو يكره المحددات الزمنية، ويتضايق جدا من الارتباطات الملزمة، لأنها حسب ما أعتقد تعكر صفو روحه”.
ويشير إلى أنه “في معارض الأربعة التي أقيمت في بغداد وجميعها -ما عدا المعرض الأخير- أقيمت أثناء الحرب، كانت أعمال محمد صبري تسودها علامة شفافة من حزن وجوه ساعة في فضاء معتم، وجوهه هو ووجود الله مصرية أو عراقية قديمة أو حبيبات زرعن فيه يوما سعادات سريعة، كان يدير تكويناته بحساسية فنان متمرس. والمعروف عن محمد صبري كونه أحد أفضل الفنانين العراقيين في تقنية الرسم الأكاديمي، الطبيعة أو الموديل أو التكوينات الإنشائية، وهذا شكل تأثيرا واضحا حتى في لوحاته ذات المنحى الحديث”.
كما يكشف أنه “قبل أن تنتهي حياته القصيرة، كانت هناك مشكلة يعيشها محمد صبري، هي اللاجدوى، وهذا ما دفعه إلى الركون مؤخرا في زاوية ضيقة من هذا العالم؛ شقة في حي الشعب ببغداد، مع امرأة وطفلتين وكأس جعله عالما آخر، وجد نفسه فيه. إلا أنه غدر به وهذا ما توقعناه”.
الفنان النبيل
في حديثه عن الفنان الراحل، كتب الدكتور مكي عمران راجي “عيون تحدق نحو آفاق لم تعد تراها. وصمت يحاول استدراج الحديث من رحم صدى كنخلة تضلل الحمضيات في القيض لتفوز إلا قفاص بالمسرة. بث روحه في لوحة وأباح حبه لوطنه، لطلبته ولفنه الجميل. راح يحرث ذاته عبر النسيج الأبيض ويطرز ما أؤتمن عليه من قبل أستاذنا الجليل فائق حسن، بات مخلصا للدرس فتأسر”.
ويرى أن محمد صبري “بقي أمينا لإنسانيته بنبل، وبعيدا عن إغواء المحنة أدرك ذاته في أن يمضي خارج حدود المكان والزمان كنصب شيد للحياة وتحديها. نبيلا كعادته مضى في لضى الدنيا دون اكتراث والمحنة تنسل في الثنايا لتشيد موطنا لخلية غريبة في جسد توضأ بالوحدة والصمت. إنه الطائر المهاجر في جوانيته، يغادرنا بصمت كما يحلو له. ويمر بنا بوصفه نسمة بين ارتحالين مؤسسا وجوده الإنساني النبيل. إنه النبيل حقا… والفنان الحقيقي بدون ضجيج وفرص تطرزها الموائد للأضواء. لقد عتق دنان ذاته واحتسى الأسى بلا تردد واختار رحيله بلا ضجيج وأباح لفنه مشروعية الاكتشاف”.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
علي إبراهـيم الدليمي
كاتب عراقي
فنانون يرسمون لوحات متأثرين بتجربة الفنان الراحل.
الجمعة 2024/05/31
انشرWhatsAppTwitterFacebook
لوحة للفنان حسين النجار
يرحل الفنان، لكن أعماله تظل بيننا، تذكّرنا به وبمسيرته الفنية وأبرز محطاتها، وتحث بين فترة وأخرى على تنظيم معارض تستعيد موهبته، عبر أنامل فنانين متأثرين بأسلوبه، وآراء نقاد يقيّمون تجربته ويستعيدون حضوره الإنساني وذكرياتهم معه.
بغداد - في قاعة أكد للفنون ببغداد استذكر بعض زملاء وطلبة الفنان الراحل محمد صبري فقيدهم، من خلال معرض مشترك لخمسة عشر فنانا وفنانة تحت عنوان “تحية إلى محمد صبري” بأعمال انطباعية، المدرسة التي كان الراحل أحد فرسانها في العراق، ونهلها من أستاذه الفنان فائق حسن الذي كان أحد المقربين عنده.
شارك في المعرض كل من الفنانين: كاظم نوير، وعاصم عبدالأمير، وصلاح هادي، وفاخر محمد، وعلي شاكر نعمة، وشرحبيل أحمد، ورائد منصور، وحسين الجاسم، وعبدالعزيز الدهر، وحسن أحمد، ومحمد علي إجحالي، وحسين النجار، ومحسن الشمري، وحسن عبدالشهيد، وسهى الجميلي، مع عرض لبعض لوحات الراحل محمد صبري.
استلهمت جميع المشاركات زوايا متميزة من أصالة الطبيعة العراقية حصرا، وجميعها اتسمت بدقة المهارة التي تعتمد على المدارس الكلاسيكية، ولكن كل ضمن أسلوبه الفني، وضرباته اللونية وغيرها.
لمحة عن الفنان
فنان ترك أعمالا تشكيلية ثرية
الفنان الراحل محمد صبري فرج من مواليد عام 1955 في ذي قار. حاصل على بكالوريوس رسم عام 1978. وماجستير رسم عام 1981، وعمل مدرسا في كلية الفنون الجميلة منذ عام 1984. ابتدأ الرسم مبكرا منذ صغره بتأثير من والده الرسام، الذي كان زميلا للفنان عطا صبري في معهد إعداد المعلمين في الرستمية ببغداد.
شارك في جميع معارض جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين ودائرة الفنون التشكيلية. كما أقام معرضا شخصيا في قاعة حوار عام 1999. وهو أحد مؤسسي “جماعة الأربعة” الفنية التي تأسست في بداية الثمانينات من القرن الماضي، مع كل من فاخر محمد وعاصم عبدالأمير وحسن عبود. وشارك في جميع معارضها. توفي في 12 أبريل 2002 في عمان بعد مرض عضال لم يمهله أكثر من أربعة أشهر.
وفي وصفه لتجربته الفنية قال صبري “أنا أشتغل على مشروعي الخاص واختياري العزلة لا يعني انقطاعي عن العالم لأنني أرسم باستمرار وبحكم كوني مدرسا في كلية الفنون فأنا أمارس واجبي وأحاول أن أنقل لطلابي أفضل ما أعرف وأنا في ذلك أشعر بثقل مهمتي وبنبلها. البعض مع الأسف يريد منا أن نرسم لوحة واحدة ونكررها طيلة حياتنا تحت ذريعة الأسلوب وفي ذلك جهل لمعنى الأسلوبية. أنا أرسم مثلما أريد”.
وفي تعليق له على ظاهرة انتشار قاعات الرسم، كان للراحل رأي إيجابي حيث قال إن “ظاهرة افتتاح قاعات للرسم في حد ذاتها إيجابية فهي دلالة على انتشار الوعي الفني، لكن الذي حدث أن الكثير من هذه القاعات تتعامل بصيغة دكان يعرض بضاعته، وبوجود فنانين يعتبرون الرسم مجرد أكل عيش يصبح الأمر كارثة لأن البعض من هؤلاء يرسم بالجملة، فهو أقرب إلى المقاول والأسطى منه للفنان، وحاجة هذه الدكاكين إلى بضاعة جعلت البعض يساق إلى المتاجرة بسهولة”.
توفي محمد صبري بهدوء، ومع موته حدث الصدع في أركان الرسم الأكاديمي، أو هكذا أطلقنا عليه، حتى بدأ يلفظ آخر أنفاسه، بهدوء وصمت. إنها معادلة غريبة، ففي عصر التداول والاستنساخ والعودة إلى المرجعيات البصرية، صرنا نعيش الفن أفرادا لا جماعات، ولأن الأفراد يموتون فإن الذاكرة الثقافية ظلت تعيش على الأسى والأسى وحده، تعيش على أوهامه.
15
فنانا يوجهون "تحية إلى محمد صبري" بأعمال انطباعية، المدرسة التي كان الراحل أحد فرسانها
رحل محمد صبري، الإنسان والفنان، وفي فجيعته الحبلى بالألم والمرارة مناسبة لإعادة إنتاجه أو إعادة قراءته، إنه نتاج سنوات محمولة على العوز والمعاناة والجهد والعفة والألم.
رثاه الدكتور عاصم عبدالأمير فكتب فيه “في شقة بمدينة الشعب لا تكفي لحقول غربتك ورصيدك فيها كأس، حفنة ملح وأوراق الخس ونافذة مورقة بالهم وأشجار من شمع ذابل. في عمان كنت أراك ضامرا كعود ثقاب أو كطائر جنائزي كنت تمضي وحيدا بعيدا إلى مقبرة من سحاب. محمد صبري طيف مر علينا سريعا، دون أن يودع فينا سوى رحيق الفراق”.
أما الدكتور عاصم فرمان فكتب “بسرعة مجنونة وذهول غادرنا العديد من الفنانين أساتذة وأصدقاء. وحين نتأمل رحيل الفنان المبدع محمد صبري، جميعنا يتذكر ثلاثة عقود من السنين – خاتمة القرن العشرين طالبا مجدا، صديقا مهذبا، وفنانا مبدعا، عشقه الآخرون بهدوء، ثلاثة عقود من السنين، تزاحمت بها: الإصرار على العمل، والحرمان، الهموم، الحنين، الأحلام، الألم، العبث والجنون، والضنك، والجوع أحيانا. مهما كانت الأسباب والمعاناة. جميعنا كان ينتظر الكأس الأخيرة! لكنه قاوم بعشق ثمل، وابتهاج حزين، وبألوان الحب واللا حب، وعطر القداح والياسمين”.
وتابع “كانت زيارتي الأخيرة له في الغربة القاتلة أواخر شهر مارس من عام 2002 وهو على سرير يتيم محاطا بحنان الأصدقاء جسام خضر، وناجي مطر، وماهر محمد، وعمر حمدان. تحاصره العيون الخائرة لأطفاله، أما الآخرون وهم قلة فقد تغافلوا زيارته إلى حد الجفاء! إنها الغربة القاتلة! لم يصدق.. ولن يرغب أن يصدق إطلاقا ارتباك الغد، وأصر على ذلك، متناسيا أو مرغما، أصر على أنها حمامة بيضاء تجثم فوق صدره، وليست بغراب. كان تحوله شاحبا على الرغم من نشاط وتيقظ الحواس، جميعنا تمنى أن يكون مرافقا لنا إلى بغداد، ولكن! لم أستطع زيارته مرة ثانية أو ثالثة، إنها لحظات ذعر وانفجار، لحظات اختناق من شحنة هواء أصابها العطب”.
وأردف “في بيت الفن، جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين، وفي شهر تموز (يوليو) من عام 2002، اجتمع أصدقاؤه ومحبوه وزملاؤه، نستذكر الصديق الراحل محمد صبري مبدعا وابتسامته الأثيرية الساخرة تتجول ما بيننا وشاهدة على نبلكم في ذكراه، من خلال حضوركم وفاء له”.
محمد صبري والثلاثة الآخرون
جميع المشاركات استلهمت زوايا متميزة من أصالة الطبيعة العراقية حصرا، وجميعها اتسمت بدقة المهارة التي تعتمد على المدارس الكلاسيكية
يروي فاخر محمد تفاصيل عن علاقته مع الراحل فيقول “عندما ارتديت الخاكي وحذاء العسكرية في 12 أغسطس 1980، لم أكن أتوقع أن الأحداث ستأتي تباعا وبهذه السرعة. وعندما بدأت الحرب، لم تنقطع الآمال بأن فجرا ملونا بالحب والرسم والنقاشات الثقافية سيستمر على الرغم من كل شيء، والفاصلة الزمنية كانت سنتين اشتد فيهما أوار الحرب وفقدان الأصدقاء وكانت أيضا سنتين من التحضير والاتقان للمعرض الذي أقيم في القاعة العليا في المتحف الوطني للفن الحديث أسميناه معرض جماعة الأربعة، محمد صبري، فاخر محمد، عاصم عبدالأمير وحسن عبود. الرسم والرفقة المستمرة والعلاقة الوطيدة كانت العامل المشترك”.
ويضيف “أتذكر في هذا المعرض كانت واحدة من لوحات محمد صبري غير جافة، لوحة جديدة، قال لي ‘لقد أحببتها’. وأجريت عليها تعديلات كثيرة، كان آخر من يوصل لوحاته إلى المعرض، لسبب بسيط، كان لديه تصور مختلف للزمن، ومحمد صبري يستطيع أن يمنح الدقيقة تصورا وبعدا أكثر من قياسها التقليدي للزمن، وهو يكره المحددات الزمنية، ويتضايق جدا من الارتباطات الملزمة، لأنها حسب ما أعتقد تعكر صفو روحه”.
ويشير إلى أنه “في معارض الأربعة التي أقيمت في بغداد وجميعها -ما عدا المعرض الأخير- أقيمت أثناء الحرب، كانت أعمال محمد صبري تسودها علامة شفافة من حزن وجوه ساعة في فضاء معتم، وجوهه هو ووجود الله مصرية أو عراقية قديمة أو حبيبات زرعن فيه يوما سعادات سريعة، كان يدير تكويناته بحساسية فنان متمرس. والمعروف عن محمد صبري كونه أحد أفضل الفنانين العراقيين في تقنية الرسم الأكاديمي، الطبيعة أو الموديل أو التكوينات الإنشائية، وهذا شكل تأثيرا واضحا حتى في لوحاته ذات المنحى الحديث”.
كما يكشف أنه “قبل أن تنتهي حياته القصيرة، كانت هناك مشكلة يعيشها محمد صبري، هي اللاجدوى، وهذا ما دفعه إلى الركون مؤخرا في زاوية ضيقة من هذا العالم؛ شقة في حي الشعب ببغداد، مع امرأة وطفلتين وكأس جعله عالما آخر، وجد نفسه فيه. إلا أنه غدر به وهذا ما توقعناه”.
الفنان النبيل
في حديثه عن الفنان الراحل، كتب الدكتور مكي عمران راجي “عيون تحدق نحو آفاق لم تعد تراها. وصمت يحاول استدراج الحديث من رحم صدى كنخلة تضلل الحمضيات في القيض لتفوز إلا قفاص بالمسرة. بث روحه في لوحة وأباح حبه لوطنه، لطلبته ولفنه الجميل. راح يحرث ذاته عبر النسيج الأبيض ويطرز ما أؤتمن عليه من قبل أستاذنا الجليل فائق حسن، بات مخلصا للدرس فتأسر”.
ويرى أن محمد صبري “بقي أمينا لإنسانيته بنبل، وبعيدا عن إغواء المحنة أدرك ذاته في أن يمضي خارج حدود المكان والزمان كنصب شيد للحياة وتحديها. نبيلا كعادته مضى في لضى الدنيا دون اكتراث والمحنة تنسل في الثنايا لتشيد موطنا لخلية غريبة في جسد توضأ بالوحدة والصمت. إنه الطائر المهاجر في جوانيته، يغادرنا بصمت كما يحلو له. ويمر بنا بوصفه نسمة بين ارتحالين مؤسسا وجوده الإنساني النبيل. إنه النبيل حقا… والفنان الحقيقي بدون ضجيج وفرص تطرزها الموائد للأضواء. لقد عتق دنان ذاته واحتسى الأسى بلا تردد واختار رحيله بلا ضجيج وأباح لفنه مشروعية الاكتشاف”.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
علي إبراهـيم الدليمي
كاتب عراقي