أشرف فواخري يختزل التضاريس الطبيعية والإنسانية والثقافية الفلسطينية في أعماله
فنان فلسطيني يستعمل الحمار رمزا لأعماله وأفكاره.
الأحد 2024/05/26
انشرWhatsAppTwitterFacebook
أفكار لا تخلو من الأمل رغم القسوة
تبقى للأعمال المفاهيمية قدرة كبيرة على نقل الفكرة وتداولها، ولعل هذا ما يفسر انتشارها بشكل كبير اليوم في ظل عالم يشهد اضطرابات ومآسي لا تتوقف، ومنها الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وما خلفه من تراجيديا ماتزال تلهم الفنانين الذين نسجوا منها رسائلهم الإنسانية، ولو بأنماط ورمزيات مختلفة.
إن كل خطاب تشكيلي تحاكيه التجارب البصرية يحمل في دواخله عوالم علقت في ذهنية الفنان واستقلت من تفاصيله وبحثت بمنأى عنه عن ذاتها التعبيرية، لتعود مُحملة بأكثر من رؤية وهي التفاصيل المفككة التي يحاول المتلقي بدوره أن يتعايش معها ليفهمها ويضيفها إلى واقعه الحسي وينتشلها من لا معقوليتها إلى معقوليتها الناضجة، وتلك الصورة التي أرادها التشكيلي الفلسطيني أشرف فواخري في التمشي الحسي لتجربته المفاهيمية التي اتخذت من رمزية “الحمار” عنصرا أساسيا ليكون البطل والبطولة في قصة المعايشات اليومية الفلسطينية.
رمزية أدبية
التداخل المفاهيمي يطبقه فواخري على خاماته في ابتكارات متنوعة ليهندس أفكارا يتداخل فيها السرد الفني وجمالية الماورائي
لعل رمزية الحمار ليست بالغريبة في العلامة والدلالة في الفنون وخاصة في الأدب، حيث كان حضوره قريبا من التفعيل الذهني المتناقض بين الحضور والخضوع وبين الامتثال والتمرد وبين المعايشة والصبر وبين التماهي والتهميش، وهي رؤى اعتمدها الأدباء القدامى نذكر منهم أبوليوس لوكيوس صانع أول رواية في التاريخ بـ”حماره الذهبي” الذي خاض تجربة البحث في عمق الذات الإنسانية ومكائد البشر والشر الذي يختزنه الناس لتدمير بعضهم البعض.
وفي رواية “المتشائل” لإيميل حبيبي نجد صدفة النجاة بفضل حمار “كانت البداية حين ولدت مرة أخرى بفضل حمار، ففي الحوادث كمنوا لنا وأطلقوا الرصاص علينا فصرعوا والدي، رحمة الله عليه أما أنا فوقع بيني وبينهم حمار سائب، فجندلوه فنفق عوضًا عني إن حياتي، التي عشتها في إسرائيل بعد ذلك، هي فضلة هذه الدابة المسكينة”.
أو كما في “حمار الحكيم” لتوفيق الحكيم حمل الحمار تلك الجدلية الفكرية البسيطة العميقة والحوارية التي قارنت بين هذا الكائن والفلاسفة ورؤاهم “لقد سميته – أي الحمار – الفيلسوف وقد علمني أشياء كثيرة بصمته”.
والأدب العربي لا يخلو من تفاصيل حسية وسردية ورمزية للحمار جمعت بين الحكمة والطرافة وهي الرؤية العميقة في تناقضاتها وكذلك الأدب العالمي، حيث نذكر حمار سانشو كما وظفه الأديب الإسباني ميغيل دي سيرفانتس في رواية “دون كيشوت” ليكون أهم من الحصان في مرافقة البطل في مغامراته.
وكما في رواية “المسيح يصلب” من جديد للأديب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس تم توظيف الحمار كرفيق وفي وصاحب سر ومكانته كبيرة.
عن لحظة الوميض الإبداعي التي انسابت في تفصيل الوعي المدرك لتلك الحكمة في توظيف الرمز الواقعي نحو المنسوب المخيالي اختارها أشرف فواخري ليقدم أسلوبه المفاهيمي.
الواقع في خيالي
التشكيلي الفلسطيني أشرف فواخري يحمل رؤية مفهومية تكمن في أنه يعطي تجربته التشكيلية دورا متغيرا دائما
أشرف فواخري فلسطيني من مواليد الناصرة سنة 1974 تصنفه الجغرافيا السياسية من “عرب 48” يقيم بمدينة حيفا وفيها درس الفنون والتصميم والتصوير.
دفعه انتماؤه بكل التعقيدات إلى ابتكار أعماله الفنية وفق فكرة تعبر عن التمزق والجغرافيا نفسيا ومعنويا، فقدمها كمشاركة له في معرض “صنع في فلسطين” (متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية) الذي أقيم بالولايات المتحدة لمساندة القضية الفلسطينية، وكانت مجموعة أعماله تلك هي التي أوحت باسم المعرض، فقد ضمت 48 عملا سماها “حمار صنع في فلسطين”، بطلها “الحمار” الرمز الذي اعتبره فواخري أقرب علامة يمكنها أن تعبر عن معاناة الفلسطيني وأعبائه واختلافاته في كل ما يعايش في الجغرافيا منذ نكبة 1948.
ومعرض “صنع في فلسطين” عرف بأعمال فواخري وما حمله الفن التشكيلي الفلسطيني الكلاسيكي والمعاصر من تطور تعبيري، قدم العديد من الفنانين الفلسطينيين من تشكيلين ومصممين ومصورين فوتوغرافيين، فكان معرضا بانوراميا سرد فلسطين بكل تفاصيل الواقع والحلم.
الرؤية المفهومية التي يحملها التشكيلي الفلسطيني أشرف فواخري تكمن في أنه يعطي تجربته التشكيلية دورا متغيرا مختلفا متطلعا طامحا واصفا مختزلا بجمالية بصرية معبرة عن التأثيرات الوجدانية الكامنة في الفلسطيني الإنسان، فكأنه يحاكي من خلالها الضمير العالمي وفق مؤثرات نفسية وفكرية، فتسطع حالته مضاعفة من خلال الوعي بالوجود بطريقة منسجمة مع الطبيعة الإنسانية ورغبته في الحياة، فيؤسس مشروعا يبحث من خلاله عن علاقة الفلسطيني بتفاصيله أمام هذا التمزق المشابه لتمزق الجغرافيا وضيقها حد الاختناق بين فلسطين الضفة وغزة و48 والمنافي والشتات والملاجئ وهذا هو الحمل الثقيل والوجع المتفرع الذي عليه تحمله دون تذمر.
فهو من خلال أعماله يسعى لنشر مشاعر متنوعة بين الخوف والأمل والرغبة في بيئة عادلة سوية وفق القواعد الإنسانية مع تحدي الموت بالحياة واختزال المسافة وتحمل مشاقها بالحلم.
اختزل فواخري كل العناصر التضاريسية الطبيعية والإنسانية والثقافية الفلسطينية في أعماله، فقد نبش فيها ذاكرته الثابتة والمحلقة بخياله الفني ورؤيته الجمالية والفكرية وما تفتت منها من رموز تنبض بالتشكيل والحرفية وتعكس موهبة منفردة وألما مغايرا تحداه بسخرية فوق جمالية في التعبير عن السياسي والاجتماعي العميق في الذات والمجموعة، برمزية تعكس الانتماء رغم الشتات والتعقيد فكرة وحضورا.
العلامات التي يعتمدها فواخري تحاكي الملموس المألوف واليومي في التوظيف السردي للواقع وفق حرفية تراقص الفكرة بتناغم يضع العين والذهن أمام نص أدبي أو بيت شعري غارق في المكان، أو تعيد بصريا النظر في كل ما تتركه الأحداث المعاشة والقضية الفلسطينية ذاتها.
علامة فارقة
التوظيف السردي للواقع
يحمل فواخري أسلوبا معاصرا في التعبير عن المباشر حيث يحول الواقع إلى سواد ساخر المفاهيم فالصراع اليومي يحوله لرموز تسرد بصريا بتشكيلية تناقض المعنى بين الحياة والفناء في انسجام المفهوم المؤثر على الذات والتي بدورها تقوم بردات فعل مؤثرة، فرموزه لا تنتفي عن الواقع.
“الحمار” هو شخصية صادقة في انتمائها للأرض وتحمل كل الشقاء والاستمرار والصبر والوفاء الكامل والإخلاص لما تعمل، فهو كذات إنسانية لم يتخل عن انتمائه المركب وهويته المعقدة فهو “الحمار” كما يرى في عمله “أنا حمار” حيث يبدو تارة راكبا حماره كرمزية المسيح باحثا في الأرض والطبيعة بحكمة وتوازن ومحبة وأحيانا حماره يركبه كأمثولة جحا بسخرية تنافي المنطق، فهو يعيش على هذا التناقض الساخر بين البكاء والفرح فمن خلال الظاهر تبدو الفكرة تماهيا لصراع، لكنها انعكاسات معقدة التلاوين والتداخلات والكثافة البصرية بين التصالح والتناحر بين الصخب والهدوء بين التاريخ والجغرافيا بين البقاء والطرد بين القبول والتهميش.
كل هذا التداخل المفاهيمي يطبقه فواخري على خاماته في ابتكارات تتنوع بين القماش والورق ليهندس عليها تلك الأفكار التي تخلق التداخل في السرد الفني وجمالية الماورائي، فحين يجمع الذوات مؤنثة في علامات التطريز وذكورية في دلالات الألوان وعناصرها المكملة للفكرة فإنه يحفرها وينحتها ويرسمها ويطبعها ويشكلها بحرفية.
حرفية الفنان تسمو بمنجزه وفق مقاييس وأبعاد وقيم لونية وضوئية ورمزية متدرجة في التكون الذي يبني فكرة فوضوية تبحث عن الترتيب، فتتصارع بين العبث والوجود بين الأحاسيس والعقل بين الطفولة الحالمة والكهولة المرهقة بين الفرح والكآبة، فتنقلب وتنعزل وتتمرد بين القسوة والإثارة لتنمو ككتلة مثقلة بالمفاهيم يتقمصها “الحمار” بكل تشكيلات تفسر التعابير المقصودة والمحركة للذهن في الفهم لتعبر بنزيف الفكرة وبانسيابها الصارخ وبفوضاها المتمردة.
يعبث الفنان بحماره يؤدلجه كما يليق بالفكرة يعربه ويأمركه يصهينه ويلغيه ويميته ويحييه، يثقله بالبنادق يشوهه بالدبابيس ويدمجه في الرموز ويجرده منها، ليبني من خلاله وكما يعبر “مشروعا توثيقيا يعكس الحياة الفلسطينية اليومية”.
وتبقى أعمال فواخري علامة فارقة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر وفي الرؤى الحداثية التي طورت الرمز بالارتكاز على الأسلوب المفاهيمي، فقد قدم أعماله بأفكار لا تخلو من الأمل رغم القسوة والواقع المعقد ولم ينفصل فيها عن انتمائه وهويته رغم تمزقه ليبقى حاضر بالأسلوب والخامات من القماش إلى الطين ومن الخشب إلى الرموز ومن الطبيعة إلى الحمار.