100 عام على السريالية.. كثير من الجنون والابتكار

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • 100 عام على السريالية.. كثير من الجنون والابتكار

    100 عام على السريالية.. كثير من الجنون والابتكار


    من التكعيبية إلى السريالية تحطيم الاعتيادي في لغة التصور التشكيلي.
    الأحد 2024/06/02
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    استقلال الخيال هو المبدأ الأول

    المتأمل في حركة الفنون والآداب الحديثة سيقف حتما عند واحدة من أكثر الحركات غرابة وإثارة للجدل، الحركة السريالية، سواء في الأدب أو الفنون التشكيلية، حركة منحت الكتاب والفنانين مساحات شاسعة من الانطلاق دون قيود، وواجهت بشجاعة فكرية ونفسية وجمالية الواقع والتاريخ البشري والمعتاد وحتى حدود الإنسان ذاته، لخلق واحدة من أهم الثورات في تاريخ الفن.

    يحتفل العالم بمرور 100 عام على السريالية منذ أن بدأ تداول المصطلح سنة 1924 كتيار أدبي فني في باريس مع أندريه بريتون. وهو ما شكل هذا العام حدثا استعاديا برمجت فيه المؤسسات الثقافية والفنية في العالم وفي فرنسا بالخصوص برامج متنوعة بين التاريخي والحداثي والمعاصر حتى تحتفي بالسريالية التيار والانتماء مثل مركز بومبيدو الذي خصها بمعارض استثنائية من سبتمبر 2024 إلى يناير العام القادم.

    ويركز المعرض على مدى تأثير السريالية على تطوير الفنون لأبرز الفنانين والمتأثرين والشعراء على غرار بودلير ورامبو لتركيز بداياتها، ودرجات تأثرها بدورها في شمولية اللغة الثقافية التي تحولت بها أبعد في العمق الإنساني النفسي الخيالي الحسي والذهني واختلطت مع أوعية التعبير وتفاصيل التماس الإبداعي والابتكار الخيالي المجنح أبعد بها في أروقة وثنايا الإبداع الإنساني.
    البدايات خيال حر



    السريالية تطورت بتطور علوم الإنسان وفلسفة الوجود وعلم النفس وهو ما يفسر انسياق رواد التكعيبية في تجريب السريالية


    استقلال الخيال هو المبدأ الأول الذي انطلقت منه السريالية منذ أن أعلن شارل بودلير أن ذلك الاستقلال هو الفكرة الصادقة في العمل الفني كأن يتبع الفنان خياله بكل شغف وأن يضفي على الشغف الألم وهو ليس ألما واقعيا معيشا بل هو ألم القلق والحيرة ألم العمق الإنساني الداخلي الدخيل المؤثر المخفي بين ثنايا الملموس المقصود.

    وكتب الباحث حسنين محمد علي “وما من كاتب سريالي بلغ ببطولته الحد الذي بلغته بطولة بودلير الخارقة التي هي أبرز مميزات شخصيته، إلا أن السرياليين استخدموا نهج بطولته وطقوسها وقلدوها فقد كان اكتشاف بودلير لذاته في عذابها، وكشفه عنها في كتاباته مثالا نموذجيا”.

    وأضاف “الفنانون الذين اتبعوه، والسرياليون خاصة، كرروا نهجه كأنما هو سر ديني، معتقدين أنهم سيتمكنون من بلوغ السر إذا ما مارسوا بدقة جميع مظاهره الطقوسية. وكل أدب هو إلى حد ما، تحليل للنفس، وقد بلغ تعمق بودلير في كشفه القائم على التحليل درجة تجاوز معها حدود التذكر الشخصي إلى الكوني. فتلك اللحظة التي يبلغ فيها الشاعر محور ذاته، وبالتالي محور المصير البشري، أن يشارك في وعي العالم ويوجد نقطة تماس بين ذاته والعالم، تلك اللحظة هي اللحظة السريالية العظمى”.

    فكيف تأثرت السريالية بالفنون الأخرى؟ وكيف أثرت عليها؟ وما هي منطلقات التماس الأساسية بينها وبين التكعيبية؟

    كثيرا ما اقترن التأريخ للحركة السريالية انطلاقا من التكعيبية مرورا بالدادائية باعتبار أن الانحدار منها هو الذي كثف الغرابة التعبيرية في سلسلة المفاهيم وتداخل الرمزيات والعلامات الغرائبية التي تمكنت عبر السريالية من الانفلات أبعد في الصورة، وهو ما أتاح للفنانين في مرحلة الحداثة وما بعد الحداثة الانعتاق بالمفاهيم واستيعاب النضج العلمي والتقني للتعبير عن الواقع المتطرف والمبالغ في أحداثه مع المكان والإنسان والانتماء إلى الفكرة التي تكون العلاقة بينهما.

    رغم أن بعض النقاد في تعبيرهم يرون في التكعيبية والسريالية وجه الحداثة المشوه وأثرا نفسيا للتمرد الفلسفي وحكمة الفوضى وإفرازات الحروب، خاصة وأنها تؤسس لجماليات غير مألوفة وصور ما ورائية تثير صورة القبح فيها من الانفعالات والتوترات باعتبارها جزئياتها النفسية، إلا أن القراءة الجمالية وهندسة الشكل وتفكيك الصور والملامح والأمكنة ومعالجة الفراغ والحجم والأبعاد وتفتيت الدوافع النفسية والوجودية استدعت المقارنة والبحث في خصوصية كل أسلوب ونقاط التشابه والاختلاف الجمالي فيه ومنه وإليه وبالخصوص ذاكرة الانتماء وتوظيفاتها الرمزية من خلال الذات والإنسانية.
    التكعيبية تمهيدا للسريالية



    حركة تؤسس لجماليات غير مألوفة وصور ما ورائية تثير صورة القبح فيها من الانفعالات والتوترات باعتبارها جزئياتها النفسية


    ظهرت المدرسة التكعيبية في بداية القرن الماضي وقد أطلق الناقد الفني الفرنسي لويس فوكسيل هذا المصطلح عليها باعتبار كل الأشكال الطبيعية والتي تأخذ مكان الملامح العادية والمألوفة تتشكل مثل المكعبات، وترتكز على الأشكال الهندسية لإنجاز العمل الفني، فالهندسة هي أصل الأجسام، ولعل التوافق الترتيبي والمرحلي في تكوين التصورات الجمالية للتكعيبية أكسبها الموقف الجمالي والمفاهيمي من الفن والإنسان ومن الواقع خصوصا، من خلال التنقل من التكعيبية إلى التحليلية والتركيبية وهنا كانت الصياغات مختلفة بعض الشيء في الخطوط والخامات في التوظيف المباشر والإثارة وقد خلدت التكعيبية أعمالا إنسانية مميزة أبرزها أعمال بيكاسو.

    فمن خلال الرموز والأشكال والخطوط وانكسارتها كان التعبير عن الحالات ومزاج العنف والهدوء والوجود والبقاء والعبث في تصنيفات الواقع واحتمالاته وهو ما خلدها كمدرسة فنية تمكنت من أن تفتح منفذا تعبيريا للفنانين للابتكار خصوصا والاشتغال على الكتل بعبقرية الهندسة والتشكيل كمنافذ ازدواجية وتكاملية، فهي كأسلوب تعبير قد يبدو محاصرا في قوالبه إلا أن فيها مرونة وتشكلا وتفردا استطاع أن يعبر عن الإنسانية، عن التصور الأبعد في الخيال بين المادة والفكرة في المكان والكون كجزء وانتماء شكل العواطف في تصورات مشحونة بالتلاشي والحضور.

    وقد استمرت التكعيبية في نماذجها المعاصرة معبرة عن المواقف الإنسانية بين التشيؤ والمادة والمبالغة في أنسنة الشكل وأدلجة الحواس وتوظيف الذاكرة مع اللون ومحاورتها بشكل عقلاني صارم والتجادل والاندفاع والجدية.

    أما المدرسة السريالية فقد ظهرت وازدهرت في منتصف وأواخر القرن العشرين كتصور حديث للفن يعبر عن التمازج الفلسفي والحسي الشعوري بشكل تلقائي، يتعمد التوظيف النفسي والعامل اللاواعي حيث يطلق العنان للخيال والحلم لمحاكاة المواقف الفنية والتعبير من خلالها بجنون وفوضى وتصورات تتفوق حتى على الخيال لتلامس بجنونها اللامعقول في الصور واللون والحركة والرمز، وهو التماس التوظيفي بينها وبين التكعيبية بوصف درجاتها المعقولة واللامعقولة.

    فهي تعبر بشكل متداخل عن الحالات والمزاج والكوابيس الواقعية، كما تعبر كحركة عن فلسفة بصرية وجودية وعما يختلج الإنسانية. تعبيرها سخرية من واقع مشحون بالفروقات والأحداث بالصخب والدمار والحروب والتفكك الاجتماعي، بالفلسفة وعلاقة الفرد بالمجموعة بالقلق والحيرة والخوف والتداعيات الباحثة عن منافذها في الكون.

    المدرسة السريالية ظهرت وازدهرت في منتصف وأواخر القرن العشرين كتصور حديث للفن يعبر عن التمازج الفلسفي والحسي الشعوري

    ورغم أن كلا الأسلوبين له منطقه التوظيفي للمفاهيم والخامات والمواقف إلا أن المراحل التي اختلفت في الظهور وتدرجت في الفهم والقراءة سواء للتكعبية أوالسريالية جعلت الأولى تمهيدا للثانية، بحيث جمعتها كأسلوب في المراحل المعاصرة ما خلق علاقة من التشابه الذهني بين الصورة وتلقيها أخرجتها بمستوى فني من تلك الصورة المعتادة كلاسيكيا على قيمها وأشكالها وكتلها ومثالية تصوراتها وموازينها إلى المفهوم الخارق للعادة التشكيلية والجمالية ومن منطلق الإفهام إلى القراءة الماورائية.

    تميز الأسلوبان بالحرية والحركة بمراوغة الفراغات والكتل والمساحات وأوزانها وتداعيات انفعالاتها أخرجت المتلقي من حركة المشاهد المألوفة إلى الصور الجديدة التي وسعت الخيال وحررت الموقف الذهني والعاطفي من الوجود والإنسان والواقع والقضايا والفن بالانطلاق الحر بالحركة والتدفق المنساب بالتعبير.

    استطاع الأسلوبان أن يحطما الاعتيادي في لغة التصور التشكيلي وتجريد مستويات القراءة والترتيب والتجرد من قيمها نحو بناء قيم جديدة وهو ما فعلته التكعيبية، أما السريالية فقد حطمت الواقع وبالغت في مستوى رؤاه البصرية النفسية والانفعالية وحذفت من المعتاد ألفته وشكلت فيه هواجس وكوابيس أصبحت لها دلالة ومعنى ورمزية وقراءة.

    إن تصور الأعمال التي جردت الصور من وظيفتها وأنسنتها في الكون تجلى نتيجة التطورات التقنية والعلمية وحركتها الابتكارية التي استلهمتها من التقنيات مثل المكبر والأحجام الميكروسكوبية والتطور الزخرفي والهندسي والانفتاح على الثقافات الآسيوية والأفريقية وفنونها، والسريالية بدورها تطورت بتطور علوم الإنسان وفلسفة الوجود وعلم النفس وهو ما يفسر انسياق رواد التكعيبية في تجريب السريالية باعتبار الترابط الفكري بين التيارين ومرونة التجريب.

    فالتكعيبية ترتبط بالأرض كمركز أما السريالية فهي تحليق لا مكاني في فضاء ممتد من الذاكرة إلى الحلم فالفكرة ثم المنجز.

    وقد استطاعت السريالية أن تشكل شهرتها البصرية مداها المختلف وملاذها الحسي كما تفاعل فيها سلفادور دالي، شريكو، ماكس إرنست ورينيه ماغريت، ليصبح كل منهم له مرجعياته وتفاصيله الغارقة في تفسير جنون العالم والإنسان.
    السريالية بين عالمين



    أنسنة الشكل وأدلجة الحواس


    في المراحل المعاصرة نجد بعض الأعمال الملفتة في مراحلها المختلفة والتي خلقت لها مسارا جماليا وموقفا من الواقع والقضايا والإنسانية والتي استطاعت أن توافق بين العنصرين التقريبيين في تصور التكعيبية والسريالية من حيث مبدأ التواصل التشكيلي بين المادي والنفسي في تفتيت الوجود، مثل تجربة الإسباني خوان جري أو تجربة الفلسطيني صالح أبوشندي في تصورات التكعيبية وانتقالات التكعيبية والتجريب التعبيري السريالي والتجريدي وتصورات الواقع والوجودية والهوية والانتماء بين واقعين وزمنين مختلفين.

    أما في السريالية فنجد التجربة المبالغة في السريالية المركزة على التصور الإنساني في أعمال الألماني بول فاندرليشت والفلسطيني عدنان يحي في ملامحها الواقعية وفي نفس الوقت المثيرة للغرابة والسخرية والمعاناة والصبر بين احتمالات البقاء والموت بكآباتها التي تحاكي رغم إفراطها التشكل الكابوسي مع الواقع.

    إن الأسلوبين يشكلان عالما من الغرابة حدوثه الجمالي اللامعقول يبدو موزونا في تداخلاته وتأثيراته، ولكنه استطاع التحرر والتنقل واستفزاز التساؤلات وترويض القراءات وتمازج المعاني، فمن اختار التجريب في التكعيبية أو السريالية تمكن من أن يبسط فكرته بتطرف حضورها دون أن يبترها ولا أن يستنقص من حواسه، ولا أن يخون قاعدة التشكل البصري والإثارة الذهنية، فرغم اختلاف الواقع الغربي مثلا والشرقي بقضاياه وأحداثه كان التجريب فيها متوافقا ومعبرا، ورغم الفارق تمكن بعض الفنانين العرب من اكتساب البصمة والخصوصية والانتماء والتجلي، فلم يقع المنجز في المبالغة والتقليد بل كان متجليا بذاكرة أمكنته وروح انتمائه.

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    بشرى بن فاطمة
    كاتبة باحثة تونسية اختصاص فنون بصرية
يعمل...
X