ملامح عرفانية في الأعمال القصصية لسمير الفيل

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ملامح عرفانية في الأعمال القصصية لسمير الفيل

    ملامح عرفانية في الأعمال القصصية لسمير الفيل


    "دمى حزينة".. قصص معاصرة مليئة بالرموز والدلالات الصوفية.
    الأحد 2024/06/02
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    لكل حكاية رمز عرفاني (لوحة للفنانة رحاب بيطار)

    الأدب العرفاني هو الأدب القائم على المعرفة الباطنية، أو الصوفية، والزهد، والبعد عن الملذات الجسدية، أو الترفع عن عالم الجسد. و”الكتابة العرفانية تستحضر العلاقة بالماضي، لأن قراءة الماضي يجب أن تصدر عن حضور كامل حيث هو فتح لإمكانية المستقبل الكامن في كل ماض”. وهذا ما نجده في قصص الكاتب المصري سمير الفيل.

    إن فلسفة العرفان ترى أن الأمور الجزئية تدل على الكلية، فقطرة الماء تدل على المحيط. وحفنة القمح تدل على ما هو موجود في الصومعة.

    يتوسل الأدب العرفاني بالآيات القرآنية، وما جاء في الكتب السماوية الأخرى، والأحاديث النبوية الشريفة، والأساطير والحكايات والتعاليم والحكم، والكتب المنفتحة على المعرفة الباطنية مثل “الفتوحات المكية” لمحيي الدين بن عربي، أو “المثنوي” لجلال الدين الرومي، وأعمال الحلاج والسهروردي والطوسي ورابعة العدوية وعمر ابن الفارض وذي النون المصري، والشبلي والبسطامي وسنائي وابن عطاء الله السكندري وغيرهم رغم الاختلافات بينهم.

    ويعد الشاعر الفارسي فريد الدين العطار النيسابوري (1145 – 1221م) رائد الأدب العرفاني الفارسي فجميع نتاجاته الأدبية والشعرية تتضمن تفسيرا لبعض المفاهيم العرفانية. ولعلنا نجد في ترنيمات أو أناشيد اخناتون ومزامير داود توجهات عرفانية أيضا.

    ويعتبر الإنسان – بمعناه الأشمل الأعم – القاسم المشترك الأعظم في كل أعمال المتصوفة، وهو الميدان الرحب الذي تدور حوله التجربة الصوفية، واعتبارها تجربة شديدة الخصوصية بمصطلحاتها ومادتها.

    غير أن العبرة – بالنسبة للأعمال الأدبية في النهاية – تكون بكيفية توظيف واستثمار هذه المصادر والمراجع والالتماعات والواردات الإلهية، يستعملها الأديب عن طريق موهبته الأصيلة، أو الاستلهامات ومراقبة الأحوال، وذلك من خلال نصوص أدبية عصرية وشيقة وجذابة ومتماسكة فنيا.

    وبالنظر إلى أعمال الكاتب المصري سمير الفيل القصصية، وخاصة مجموعته “دمى حزينة”، نجد أن الدمية للطفلة شيء غال عزيز المنال، لكنها بمجرد أن تكبر – تلك الطفلة – وتصير ولودا للأطفال “يبرد” حب الدمية القديم في قلبها، حسب تعبير أبوالمجد سنائي الغزنوي (أفغانستان 1080 – 1131م) في كتابه “حديقة الحقيقة” التي تعد أول منظومة صوفية.
    رموز صوفية




    في قصة “تلك الحواجز” نجد من يقول: “لو وصلت سالما فسوف يسمح لك بالعيش في واحة خضراء مع تسع من حور العين” (ص 9). وتتكرر عند الصوفية كلمات: الوصل والوصول والواصلون. يقول العامة “فلان ده واصل”. والوصول – عند الصوفية – يبدأ عادة بخرق العادة، ثم الجذبة، ثم المناظر الجذبية التي يسمونها: الكشف، وقد يصل بعضهم إلى الجذبة بدون المرور بخرق العادة.

    كما نجد في القصة عبارة “وخفافيش ظلت تطير فوق رأسي مباشرة لترتطم بشعري المهوش، وتعاود الارتفاع حتى ذابت في الظلمة” (ص 10).

    والخفاش: عند جلال الدين الرومي (1207 – 1273) رمز لعابد الدنيا وظلمتها والبعيد عن عالم المعنى والساقط في هوى النفس. إن الخفاش لا يواجه الشمس، فكيف يواجه المريد شيخه؟ ومتى تتوارى الشمس بالحجاب أسفا على الخفاش؟ وفي قصة سمير الفيل لم نجد خفاشا واحدا، وإنما خفافيش، بصيغة الجمع.

    وفي قصة “المعاطف الرمادية” – بالمجموعة التي سميت على اسم تلك القصة، واحتوت على 14 قصة قصيرة، نجد الضابط الذي “صعد السلم بخفة قرد، تحت جنح الظلام حيث لا عيون تراه سوى أعين الخفافيش التي كانت تطير في الحوش”. (ص 36).

    كما وجدنا رمز الماء في قصة “تلك الحواجز” من خلال قول المتسابق الوحيد: “أخرجت زمزميتي لأشرب جرعة ماء” (ص 10) والماء يرمز إلى وصال المحبوب الذي يفني نفسه في سبيله. أما عندما يختلط الماء بالصابون، فسنكون أمام رمزية أخرى للماء المخلوط بالذنوب التي يجب محوها ليعود الماء صافيا خاليا من أية شوائب.

    وفي قصة “جرح النافذة” نجد الأرملة التي تنشر غسيلها على سطح العمارة، وتبقى بعض مياه مختلطة بالصابون في الطبق، فتنثرها دون جلبة على السطح، وسرعان ما تتشربه البلاطات القديمة، وتبقي على بعض الرغاوي. هذه الرغاوي ترمز للعلاقات السطحية التي يحلم بها الشاب الذي يعيش مع والدته الضريرة في حجرة على سطح العمارة، فتتمثل له الأرملة في خياله المنزلق إلى الشهوات، وعلى أرض السطح تصعد الرغاوي حاملة معها النزوات والشبهات. يقول السارد عن هذا الشاب: “خرج كالمسحور، متجها نحوها (نحو الأرملة). لم يستطع التفوه بكلمة، أمسك يدها بمنتهى اللطف، وقادها نحو باب الغرفة. وجمتْ للمفاجأة، سارت معه دون أن تنبس بحرف. لقاء غامض بلا ترتيب ولا استعداد ولا مواعيد” (ص 35).

    أما الأم الضريرة، فكانت تسعل، تتقلب في فراشها. وتتساءل بصوت ضعيف كأنها تحدث نفسها: لماذا تأخرت الديوك عن الصياح؟ (ص 35) وصياح الديكة له دلالات صوفية في الحديث النبوي الشريف، فعن أبي هريْرة، أن النبي صلى الله عليْه وسلم قال: إذا سمعْتمْ صياح الديكة، فاسْألوا الله منْ فضْله، فإنها رأتْ ملكا”.

    والأم الضريرة لم تسمع صياح الديوك أو الديكة، فلقد تأخرت عن الصياح، ما يدل على أنه لن يكون هناك فضل من الله في تلك اللحظات الآثمة التي لم ترها الأم، ولكن يراها الله.

    في قصة “تلك الحواجز” وجدنا الذئب الذي برز فجأة أثناء السباق، والذئب رمز آخر من رموز الشهوة والعدوان. حيث يقول المتسابق الوحيد: “في أحد المنحنيات الأخرى برز لي ذئب” (ص 11).

    "دمى حزينة" مجموعة قصصية مشتغلة بعناية ودقة في رصد الرموز الصوفية ودمجها في نصوص معاصرة بأساليب مختلفة

    وقد اتخذ الكاتب الراحل سعد مكاوي (1916 – 1985) من الذئب معادلا موضوعيا في رواية “لا تسقني وحدي” ففي الوقت الذي يقتل فيه الذئب، يقتل وزير الحسبة في فراشه، حيث كان الذئب معادلا موضوعيا للوزير زياد، وزير الشهوات والمخدرات والفساد والنهب والسرقة.

    ويصف لنا المتسابق الوحيد – في قصة سمير الفيل – كيف استطاع التغلب على الذئب رغم أنه لم يكن معه عصا، ويجهل لغة الذئاب. قال: “رأيت الشر يقفز من عينيه الشريرتين، فرفعت قبضتي استعدادا لنزال لم أسع إليه، ولم أضعه مرة في جدول أولوياتي” (ص 11).

    وعلى الرغم من ذلك يجد المتسابق الحواجز تعلو أكثر من ذي قبل، فيتشبث بحجاب حافظ أعطته له أمه قبل موتها، لعله تميمة ضد الشهوات والمكاره، فيخرجه ويقبله ويضعه في قبضة يده وهو يجري. يقول: “اقتربت جدا من الأشجار التي بدأت تظهر، والفجر يوشك على الطلوع، والصبح كاد يتنفس” (ص 11).

    إذن فهو كان يجري في عز الليل، والليل دائما حقل خصب للشهوات والمفاسد، لكنه ينتصر في طريقه بفضل عزيمته وحجاب والدته. ورغم هذا لا تزال عقبات السباق تتوالى. وفي عقبة جديدة يتذكر سيدنا الحسين، يقول: “تذكرت سيدي الحسين فدعوت بعلو حسي أن ييسر الله أمري. حينها بانت القبة الخضراء، وضعت كفي اليمنى على سور المقام” (ص 11).

    ثم يعترضه تمساح بفكين مفتوحين عن آخرهما. يقول “تمساح ضخم لم أر له مثيلا. بدت حراشيفه خضراء بلون الماء الآسن. كان ينتظر قفزتي لأقع بين الفكين”. لكن يد فتاة تجتذبه من الناحية اليسرى لا يعرفها، ولكنها تشبه خالته فاطمة عندما كانت في شبابها. ولاسم فاطمة دلالة صوفية أو عرفانية، فهي فاطمة الزهراء بنت النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وزوج علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأم الحسن والحسين. وهناك “الفواطم من الصحابيات والفواطم من التابعيات والفواطم من الجاهليات”، فهو اسم له رصيد كبير في الوجدان العربي والإسلامي. وهو لم يأت عبثا في قصة “تلك الحواجز” لسمير الفيل.

    لم تتفوه الفتاة بكلمة واحدة لكنها واجهت التمساح، وراحت تصنع إشارات دائرية بيديها حتى انسحب التمساح، محاطا بالرعب والخذلان.
    الطبيعة ومفرداتها




    لقد ظهرت تباشير الفجر، معلنة قرب انتهاء رحلة المعاناة، ومن قمم الأشجار طارت عصافير بنية الجناحين، ونوارس. ولفت نظر المتسابق الوحيد طائر الزرزور الذي هبط برفق على كتفه، على الرغم من أن طيور الزرزور تطير في جماعات كبيرة مع بعضها البعض قد تصل إلى 50 ألف زرزور، ولم يقع أي حادث اصطدام بين بعضها البعض على الإطلاق. وفي سورة الملك – الآية 19 نقرأ: “أولمْ يروْا إلى الطيْر فوْقهمْ صافات ويقْبضْن ما يمْسكهن إلا الرحْمن إنه بكل شيْء بصير”.

    فما دلالة أن يهبط أحد هذه الزرازير ويقف على كتف المتسابق في قوله: “ولفت نظري طائر الزرزور الذي هبط برفق على كتفي”؟ (ص 12). هل هو من الطير المسخرات للمتسابق، تعلن انتصاره – على كل عقبات الطريق ومكائده – بالوقوف على كتفه؟ هل هي ترقية في درجات الصعود، مثلما يرقى الضباط ويضعون على كتفيهم النجوم والنسور. إن المتسابق يكافأ بنزول الزرزور على كتفه.

    ونجد أن الفتاة التي أنقذته كانت بالفعل خالته فاطمة (أم حمدي درويش) التي طلبت أن تسمع معه تلاوة الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، فجاء صوته عذبا. ولاسم ابنها (حمدي درويش) دلالة صوفية أيضا، فهو من الحمد وعالم الدراويش (والدراويش ينتمون إلى المتصوفة). وعندما تعاتبه أمه أنه لم يمش في جنازة حمدي درويش، ترد عليها خالته فاطمة بوجه صبوح، مشع بالطمأنينة والضوء: دعيه يكمل مشواره. عليه أن يكمل بقية الحواجز (ص 13).

    إذن لم يصل المتسابق إلى نهاية الطريق بعد، فلا تزال أمامه حواجز ينبغي عبورها ليصل إلى هدفه الأسمى، أو يصعد في مدارج السالكين. وعندما يصوب المتسابق نظره للسماء يدهشه أنه يرى شمسا واحدة وأربعة أقمار. وليس أحد عشر كوْكبا والشمْس والْقمر، حتى يبعد عن أذهاننا الاستشهاد أو التناص مع قصة النبي يوسف عليه السلام.

    وعندما يصل إلى نهاية السباق يطلب الماء قائلا: “وليحمل أحدكم قلة فخارية كي أرتوي، فحلقي يوشك أن يتحجر!” (ص 13). لنعود إلى رمزية الماء مرة أخرى والذي تنتهي به تلك القصة البديعة.

    في قصة “العفو” يدرك شخص القصة أنه يملك قدرة غريبة على العفو الذي يشمل الجناة والعصاة وأولاد الكلب. (ص 24).

    وفي قصة “جرح النافذة” يصوب شخص القصة وجهه نحو السماء، بكلمات مبهمة يقول لنفسه: “كل في مدار”. (ص 32) فيذكرنا بالآية القرآنية 33 في “سورة الأنبياء”: “كل في فلك يسْبحون”، وليست كل أذن مهيئة لسماع تسبيح الجمادات التي تصل من اللامكان. كما يذكرنا برقصة “المولويه” الدائرية أو التي يدور فيها الراقص حركات دائرية حول المركز الرئيسي وهو الله. بينما الراقصة مفيدة في قصة “أصابعه النحيلة” (بمجموعة المعاطف الرمادية) تشعر أثناء رقصها بالخفة والارتقاء، فتكاد تصل للسماء نشوة ورقة (ص 43).

    في قصة “دمى حزينة” (ص 65) يقول “الدنيا من يومها في خلل كبير”. وهو ما يعتقده أهل الصوفية، لذا فإنهم يحاولون علاج هذ الخلل بالاتجاه – بكليتهم – نحو خالق هذه الدنيا.

    التصورات الشعبية والمعتقدات الدينية والآيات القرآنية والمشاعر العرفانية الصوفية تتواشج في الكثير من أعمال سمير الفيل القصصية

    في قصة “شرفة مليئة بالزهور” نجد الزوج يقول لزوجته بلهجة متبرمة، وهما في الغربة “الصلاة محلها القلب، لكنك لا تعلمين تلك الأسرار العلوية” (ص 87). أما الزوجة فهي تحب نور ربنا والنسيم الرقيق، ولا تنسى فروضها بل تقرنها بالنوافل لتضمن جنة عرضها السماوات والأرض. وعندما يدعوها زوجها إلى الفراش ترد بعنف: ليس قبل أن تصلي فرض ربنا. ثم تفتح النافذة وتضع المقشة بين ساقيها – كأنها البراق – وتبتهل إلى الله أن ينقذها من الخرس الذي أصاب بيتها. في لمح البصر طارت وعلت، مبتعدة عن البيت الذي لم تحبه مطلقا.

    طارت، وتخففت من ثقل الأرض، كان شعرها مهوشا، وابتسامتها غريبة، وفيما هي في علوها، رفرف بالقرب منها طائر الكناري، وسمعت نبح كلب بأذنين متهدلتين. أشارت للمقشة الخشب – التي ترمز إلى البراق – أن تعلو أكثر وأكثر حتى إنها اخترقت السحاب واتجهت إلى جهة غير معلومة في أقصى السماء. لقد اغترفت الزوجة من خزانة الأسرار، في حين أن زوجها كان يتهمها بأنها لا تعلم تلك الأسرار العلوية، ويبدو أنه هو الذي كان لا يعلم عنها شيئا.

    في قصة “الحزام الأسود” يقول السارد (ص 92) “الله مطلع على السرائر”. ويقول الطفل صاحب العاشرة لأمه بعد أن ضربها زوجها “أن ربنا مسامح كريم”. صدقته أمه فومضت الفرحة في وجهها، ومن الكراسة أطل العصفور وراح يزقزق.

    وعن النور ومصدره تجيئ حوارية “ذلك الخشوع” (ص 98) حيث يسأل الفتى فتاته عن النور فتقول: “لا توجد للنور دلالة مستقلة. لنجرب. لا توجد وسيلة لقياس صحة التجريب. أهو نوع من اليأس؟ نعم، كل الناس يجربون ما عدا الأنبياء. لماذا؟

    حتى لا يقعوا في الخطيئة”.

    ثم تقول في موضع آخر بالقصة (102): “ليس لحركاتي وسكناتي ارتباط بالدين، لكنه أمر يقترب من احترام الأسلاف”.



    وتمضي الحوارية على هذا النحو، لنصل إلى قول الفتاة: صدقني سيصل الدعاء للرب في الأعالي. لن يضل طريقه إلا..

    سألها: إلا.. ماذا؟

    إذا كنت غير معترف باستمرار النفس الحي الرباني عبر السنوات ليصل إليك أيها الحفيد.

    وتقول له ناصحة: انسجم مع الإشارات الملهمة، وذوِّبْ ذاتك في طاقة الوجود الربانية المدهشة. حرر نفسك من الخوف والقلق وعدم اليقين.

    ودائما الطبيعة ومفرداتها البديعة تلعب دورا مهما في رسم الأجواء الصوفية، وتشبه الورود والخضرة التي تنبت على ساحل جدول الغيب عند الصوفية بالأسرار الإلهية. وقد أهدى الكاتب مجموعته القصصية “دمى حزينة” “إلى زهرة التمر حنة. عطر وبهجة، ومساحة من الرقة الخالصة”.

    اما في قصة “محاولة لرسم مشهد خيالي” سنجد “حديقة واسعة تصطف على مشاياتها أشجار كثيفة الخضرة” (ص 15). ثم يقول شخص القصة “طفقت أراقب الطيور وهي تحط على الأشجار ثم ترفرف بأجنحتها وتعلو في الفضاء” (ص 15).

    ونجد السارد في قصة “مواسم” يقول (ص 113): اتخذت طريقا لا يسير فيه أحد، طريقا يفضي إلى ممر معشوشب بحشائش زاهية الخضرة.

    في قصة “قمع سكر” نجد تلاوة الشيخ عبدالباسط عبدالصمد (ص 121). بينما نجد في قصة “سبعة تصورات لوردة” عثمان – مكوجي الحارة – الذي ابتلاه الله بداء الحب، (ص 129) فيخرج كل مساء ليشتري عقدا من الفل، وبداخله وردة قرنفل بيضاء، يحملها بيده ثم يندفع في الغناء، كما نجد بطرس ملاك الذي يذهب يوم أحد إلى الكنيسة ويدس خطابه في فتحة صندوق، وفي الورقة كتب بخط منمق، دقيق: “يا سيدة مريم، يا رقيقة القلب، امنحيني شقة. 3 حجرات وصالة”، ورغم أنه طلب دنيوي، لكن طريقة الطلب نفسها، تعد طريقة عرفانية. مثل الذي يطلب من الله أن يرزقه بمبلغ مالي كبير.

    وفي القصة نفسها المقسمة إلى مجموعة أقاصيص قصيرة جدا نجد عبارة عرفانية تقول: “الله يرزق الدود في الحجر”.

    كما نجد فرغلي الجامد يشعر بنفسه خفيفا، يصعد للسماء السابعة، يجوس بين جنائن مزهوة بالخضرة، وابنه سعد الذي مات العام قبل الماضي يمسكه بيده ويجلسه على أرائك من حرير، ويروح للحوض الرخامي ويقطف من حوله وردة نرجس، كي يقربها من أنفه. وهو ينكر أن هذا حلم قائلا: لا، ليس حلما، ولكنه شيء يحدث فعلا.

    وعندما يرى مخيمر الحلاق كيف تحولت الوردة من اللون الأبيض إلى اللون الأحمر يقسم لصديقه أحمد الكسار أنه رأى الوردة وهي تتحول إلى هذا اللون، فعرف أن ربنا قد أنقذه من مصيبة أكبر: الزواج.

    العبرة – بالنسبة للأعمال الأدبية في النهاية – تكون بكيفية توظيف واستثمار المصادر والمراجع والالتماعات والواردات الإلهية

    في قصة “السير في ممر معتم ضيق” نسمع صوت الشيخ محمد رفعت، وهو يرتل القرآن بصوته الرخيم ترتيلا (ص 147). ونجد وجها يسطع بالنور، تتسلل منه طيبة غير مألوفة، وحنان دافق، وراحة تشبه سنة من النوم.

    ويتساءل شخص القصة: من أين تأتي الترنيمات الغامضة، وهناك هالات من السواد حول الأجفان المسهدة؟ كيف تخرج الروح من الضيق إلى السعة. (ص 149) ونجد إحدى الفتيات تنطق الشهادتين وتنكب على قراءة ما تيسر من آي الذكر الحكيم (ص 149). ويتساءل شخص القصة: ما سر تلك الفضة الهاربة من سماء ممعنة في قسوتها وارتفاعها وغموضها المذعن لنداء الفناء؟ (ص 150).

    وقال الحفار لا تنظر من الفجوة (القبر). هناك أسرار لا يجب أن تعرفها. (160).

    وفي قصة “ذهبت إلى البحر” قال العربي سحتوت: “يا رب افرجها من عندك” (ص 173). وقالت شريفة الدياسطي: “البيت الذي لا تدخله شمس المحبة يتحول إلى سجن بأسوار غير مرئية” (ص 175). وهي تشعر بالملل الذي يتحرك كعنكبوت هابط من السقف، يظلل روحها بالتعاسة. (ص 176) والعنكبوت في اللغة العرفانية والتفسير الصوفي مثل أهل الدنيا، بينما العنقاء مثل أهل الحق، بل هي رمز للذات الإلهية وللمرشد الكامل.

    إن روح شريفة الدياسطي في قصة “ذهبت إلى البحر” تريد رؤية الزرقة المهيبة فقط، والتمدد على كرسي البحر ورؤية الأمواج وهي تمنح الجالسين وشيشا مضمخا بالرقة والصفاء. (ص 177). وكأن البحر هنا مجلى الروح ومن خلال البحر تتحدى شريفة الدياسطي زوجها الذي منعها من الذهاب إلى البحر، فتذهب وتحلق روحها من خلال مياهه وازرقاقه، وعندما تعود من البحر قبل عودة زوجها العربي سحتوت في يوم أخذت فيه إجازة من عملها، يقول السارد: حين سمعتْ صوت قدميه تدقان السلم كاد يغشى عليها. تماسكتْ وحين دفع الباب بقدمه، آمرا إياها بتجهيز طعام الغداء، لم تدر بنفسها إلا وصوتها يعلو مجلجلا، بلا انكسار أو وجل: “أنا ذهبت إلى البحر”.

    لقد ضحت شريفة بالوجود المادي المتمثل في وجودها مع زوجها وطاعته وإعداد الطعام له عند عودته من العمل، في سبيل الوجود الروحي أو المعنوي المتمثل في جلوسها عند البحر.
    دلالات روحية




    ومن مقامات الصوفية مقام الصبر، وهم يميلون إلى تفضيل الصبر على الشكر، فالصبر حال البلاء، والشكر حال النعمة، والبلاء أفضل لأنه على النفس أشق. وعند جلال الدين الرومي أن البلاء هو إنضاج للإنسان وتسام به وتربية لوجوده.

    ويقول الشبلي (من الخفيف): صابر الصبر فاستغاث به الصبْ/ ر فصاح المحب بالصبر صبرا.

    وفي قصة “جرح النافذة” نجد عبارة “ربنا يطرح البركة في الشيء الحلال”، وتقول الأم: “دع الملك للمالك” (ص 35).

    يهدي سمير الفيل مجموعته القصصية “المعاطف الرمادية” – الصادرة عام 2021 عن دار غراب للنشر والتوزيع بالقاهرة – “إلى الموجوعين في الأرض.. الباحثين عن كوة ضوء تأتي من مكان بعيد.. الذين يتطلعون لرقعة السماء الزرقاء.. ربما تمنحهم تلك النصوص بعضا من الصفاء.. قليل من الزرقة: البحر، الحبر، زهرة الغسيل”.

    ولعل هذا الإهداء يقصد المتصوفة والعرفانيين أو حتى الناس العاديين الباحثين عن كوة ضوء تأتي مكان بعيد، إنهم يبحثون عن وجه الله ونوره ويبحثون عن الصفاء والضياء في ظلمة الحياة.

    وفي قصة “السأم” نجد في البيت القديم “خيوط العنكبوت تتدلى من السقف” (ص 7).

    والعنكبوت – كما ذكرنا من قبل – يشير إلى أهل الدنيا عند المتصوفة، وكانت الكوابيس تلاحق صاحب البيت الذي باع بيته وكانت الثعابين تزحف كل ليلة، وتضع السم في جسده. والثعابين بسبب سمها وشرها فإنها ترمز إلى جانب الطبيعة الشرير. وفي بعض التصورات أن الحية هي التي أوحت لحواء بالأكل من شجرة الحياة ليتم طردها – مع آدم – من الجنة.

    وفي قصة “رائحة العطر” يظهر رمز الغزالة في قول شخص القصة: “في نصف ثانية نطت غزالة برية، ومرقت من الستارة الملونة، جرت ناحية غرفة النوم”. (ص 15) وللغزالة رصيد كبير في عالم المتصوفة، وخاصة غزالة السهروردي رمز الروح الملائكية الشفيفة. وهناك الغزالة التي تحدثت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

    وتذكر كوكب في قصة “جيران كوكب” (بمجموعة المعاطف الرمادية) “أن الحرام، لا تفعله، لوجود رب كريم يطلع على أفعال العباد، ويحصي دقات قلوبهم”. (ص58).
    خاتمة


    وكما رأينا فهناك تصورات شعبية، ومعتقدات دينية، وآيات قرآنية، ومشاعر عرفانية صوفية، تتواشج في الكثير من الأعمال القصصية لسمير الفيل، ولعلها كانت أكثر حضورا في مجموعته الأخيرة “دمى حزينة” عن مجموعته قبل الأخيرة “المعاطف الرمادية” ما يؤكد أن الكاتب كلما تقدم في السن، كثرتْ عنده تلك الملامح العرفانية، وكان أقرب إلى الله، وإلى الفكر الصوفي أو العرفاني من مراحل سابقة في مراحل إبداعه. ولعل الأمر يحتاج إلى وقفات كثيرة مع أعمال سردية وشعرية لعدد كبير من المبدعين نرصد من خلالها تطور تلك العرفانية، ونكشف أسرار وجودها في تلك الأعمال.

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    أحمد فضل شبلول
    كاتب مصري
يعمل...
X