تعرفوا كيف يساء فهم فلسفة نيتشه في الأوساط الثقافية. فيلسوف وسط البلد.-محمد إيهاب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تعرفوا كيف يساء فهم فلسفة نيتشه في الأوساط الثقافية. فيلسوف وسط البلد.-محمد إيهاب

    فيلسوف وسط البلد: كيف يساء فهم فلسفة نيتشه في الأوساط الثقافية؟


    محمد إيهاب
    30/09/2021
    0ذلك الرجل ذو الشارب الكبير، الذي ترى صورته في الصورة الشخصية لحسابات التواصل الاجتماعي بخلفية سوداء عميقة. إنه الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه، أو الذي يطلق عليه نقاده في الأوساط الثقافية المصرية «فيلسوف وسط البلد»، في حالة من التهكم على المتيمين به، على اعتبار أنه ذلك الفيلسوف الذي يدعو إلى التخلي عن الحياة الأخلاقية للإنسان تحت مسميات فلسفية كـ«الإنسان الأعلى» وغيرها من المسميات التي يراها نقاده فارغة. فمن هو فردريك نيتشه؟ وما هي أفكار فلسفة نيتشه التي تثير الجدل حتى الآن؟


    حياة فردريك نيتشه


    ولد بالقرب من ليبزغ في المملكة البروسية، في عام ١٨٤٤. تتصادف تسمية نيتشه مع فكرة الإنسان الأعلى التي روجها في فلسفته، أطلق عليه والداه اسم فردريك فليهلم، تيمنًا باسم الملك البروسي فردريك فليهلم الرابع. تخلى نيتشه عن اسم فليهلم فيما بعد. تشير التقارير التاريخية أن فردريك نيتشه تفوّق في دراسة اللاهوت المسيحي، إذ التحق بجامعة بون، وهو الأمر الذي سنرى تداعياته عندما يوجه لها أشد سهام النقد.

    توجه نيتشه إلى دراسة علوم اللغة تحت إشراف البروفيسور فردريك فلهلم ريتشل، قائلًا عنه في رسائله «سيتكمن من فعل أي شيء يريده» تعبيرًا عن إعجابه به. كان نيتشه أصغر عميد لدراسة اللسانيات في جامعة بازل في عام 1869 بعمر 24 عامًا. اهتم نيتشه بدراسة فلسفة شوبنهاور وخاصة كتابه «العالم إرادة وتمثلًا». سيعترف نيتشه لاحقًا بفضل شوبنهاور الفكري عليه قائلًا عنه أنه من الفلاسفة القلة الذين يحترمهم، لم يطل اهتمام نيتشه باللسانيات وتوجه بعد ذلك لدراسة عميقة في الفلسفة، وينتج كتابه الأول «مولد التراجيديا وروح الموسيقى».
    أبرز سمات فلسفة نيتشه


    إن فردريك نيتشه هو ذلك الفيلسوف الألماني الذي لقب نفسه بفيلسوف المطرقة. جاء نيتشه ليسطّر بكتاباته ملحمة فلسفية، إذا أدخل نفسه بلا هوادة في حرب ضروس مع كل القيم الأوروبية، لا عجب أن نقرأ له كتابًا بعنوان «غسق الأوثان» فهو الذي كلّف نفسه بتحطيم الأوثان الأخلاقية المسيحية، وكشف العوار بها. ولم يكتفِ نيتشه بالأخلاقيات المسيحية فقط، بل وجه سهام نقده إلى كل الفلسفات الأخلاقية الأوروبية.

    تعتمد أغلب انتقادات نيتشه على تقويض الأسس السيكولوجية وإيضاح الوعي الزائف الذي يصيب الناس بحالة من السُبات الفكري، ويلوث أفكارهم وتصوراتهم عن العالم. سار على هذا النهج بعد ذلك فلاسفة مثل ماركس وفرويد وميشيل فوكو، مطورين ما يُعرف بالفلسفات الشكوكية بشأن التقاليد والقيم الأوروبية.

    اقرأ أيضًا: السبيل إلى نيتشه: أفضل 5 كتب تساعدك على قراءة فيلسوف المطرقة
    الإله قد مات ونحن من قتلناه


    لا تنتج القراءة السطحية العجولة لنيتشه فهمًا صحيحًا لما يقول. ربما رأيت هذا الشعار– الذي كتبه نيتشه في كتبه بالفعل- في إحدى المنشورات على فيسبوك، أو في صورة ساخرة يقول أحدهم فيها أن نيتشه من مات. إن تلك القراءات الساخرة تفقدنا بُعدًا مهمًا في فلسفة نيتشه ينير بقعة في عقولنا لم يصل لها أحد من قبل، ويوسع الأفق بصورة عامة عندما ننظر إلى الحياة والأخلاق، فربما لن يكون المرء إنسانًا أفضل إلا عبر تلك التأملات.

    لا تهدف فلسفة نيتشه إلى تقويض الإيمان المسيحي فحسب، بل تهدف إلى التشكيك في الضمير الأخلاقي الأوروبي بصورة عامة. يعتبر نيتشه الوعي الأخلاقي الأوروبي مخادعًا. بادئ ذي بدء، يعتمد الضمير الأخلاقي المسيحي [أو الديني بصورة عامة] على مجموعة من الركائز؛ أبرزها الإيثار والشعور بالذنب عند اقتراف الخطأ، والمسؤولية الأخلاقية، وقيمة التعاطف مع الآخرين، والمساواة بين الأشخاص إلخ..

    يطرح نيتشه الفكرة الأكثر إثارة للجدل، أن كل تلك المشاعر التي ولّدتها الأخلاقيات المسيحية ما هي إلا أفكار مخترعة حاولت بها طبقات العبيد إذلال الطبقات العليا وجعلهم يشعرون بالذنب عن حياتهم المترفة، ويبجلون من مساعدة الآخرين، الذين هم في النهاية هؤلاء العبيد بالفعل، فمن يحتاج إلى المساعدة غيرهم؟ كتب نيتشه تلك الأفكار في كتابه «جينولوجيا الأخلاق».

    حولت المسيحية مفهوم «الجيد والقبيح» الذي كان منتشرًا في العصور السابقة عليها إلى مفهوم «الخير والشر». لقد كان الجيد قبل المسيحية متمثلًا في الطبقة الاجتماعية والانتماء إليها، ثم حولت المسيحية تلك الفضيلة المسماة بالجيد إلى «الخير» لتكون صفة يتمتع بها الفرد لا الطبقة الاجتماعية، وتتمثل في الصفات المخالفة للشر، والشر يُفهم في السياق الديني بأنه انتهاك سلامة الآخرين، وبالتالي فإن الخير يكون في إيثار الآخر على النفس.

    لاحظ نيتشه تناقضًا واضحًا في الأخلاقيات المسيحية، فكيف تدعو إلى المساواة واحترام الإنسان والتعاطف مع الآخرين وتحتقر فئة من الناس في آن معًا؟ وكيف تدعو إلى فضائل عالمية وتخص طبقات معينة بالاستحسان دون أخرى؟ رأى نيتشه أن «الإله قد مات» ليس تعبيرًا عن رغبته بقتل الأديان والحياة المتحررة من الأخلاق، فذلك مستحيل في وجهة نظره، بل تعبيرًا عن تهاوي مكانة الدين في عصره، وهو ما نراه بصورة أوضح حاليًا، وذلك لتهافت البنية الداخلية للمنظومة الدينية التقليدية وعدم صمودها أمام طوفان التقدم الاجتماعي والحضاري.

    اقرأ أيضًا: أغرب أفكار فريدريك نيتشه الفلسفية: صاحب عبارة “الله مات ونحن قتلناه”
    أفكار ثورية ومغالطات

    إرادة القوة


    يضع القارئ المتسرع لأفكار نيتشه مفهوم إرادة القوة جنبًا إلى جنب مع انتقاد نيتشه للأفكار الأخلاقية المسيحية، قائلًا أن نيتشه يدعم منطق الغابة وقتل الأقوى للضعيف واستعباده، متحديًا بذلك فكرة الإيثار الدينية. ولكن تلك القراءة تجحد نيتشه حقه في الفكرة السيكولوجية العميقة التي تنير دروبًا في أنفسنا، وتدعونا إلى التأمل الذاتي وإيقاظ القوى الداخلية المدفونة تحت الرغبات العمياء غير الواعية.

    استُقبلت فلسفة نيتشه وإرادة القوة كما ذكرت بالاستهجان في البداية، ولكن وبعد الحرب العالمية الثانية، تولى والتر كوفمان مهمة إحياء الأفكار النيتشويه وإعادة تفسيرها بصورة أقرب لروح فلسفة نيتشه. فالقوة التي يدعو لها نيتشه وفقًا لكوفمان هي القوة الداخلية، التي يستخدمها المرء في التغلب على ذاته، وتحقيق التفوق على المستوى الشخصي والثقافي، وليس تلك الحالة العمياء من السلطة وفرضها على الآخرين.

    بهذه القراءة لإرادة القوة، تكون هي الحالة المستمرة من النمو والتطور والصمود، تلك الأشكال التي تعبر بصورة أساسية عن الحياة وأبعادها لدى الإنسان. ولهذا فإن إرادة القوة مفهوم يدعو إلى الاحتفاء بالحياة بدلًا من إنكارها بالكامل لصالح أفكار الحياة الآخرة أو الشعور بالذنب من الحياة بصورة عامة.
    حب القدر


    يبدأ نيتشه كتابه «العلم المرح» بفقرة تتناول فكرة محورية في فلسفة نيتشه، وهي تأكيد قيمة الحياة وحب القدر، إذ يقول:
    «أتمنى أن أتعلم المزيد والمزيد، لأرى القدر الضروري من الجمال في الأشياء، ثم أتمنى أن أكون من هؤلاء الذين يجعلون الأشياء جميلة. حب القدر؛ فليكن هو شعاري. لا أتمنى أن أشن حربًا على القبح، لا أريد إتهام أحد، ولا أريد إتهام من يتهمون أحد. سأغض الطرف، وسيكون هذا سلوكي. أتمنى أن أكون، يومًا من الأيام، من المُبشرين الذين يقولون نعم.»
    النزاهة والشرف


    يتعجب المرء من اتهامات بعض القراء لنيتشه بكونه الفيلسوف المنحل أخلاقيًا، ثم تقرأ لنيتشه في كتابه ما وراء الخير والشر نصًا كالتالي:
    «كم من الحقيقة تتحملها الروح، كم منها يجرؤ المرء على معرفته؟ يتراءى لي يومًا بعد يوم أن الحقيقة هي المعيار الصادق للقيمة».

    فكيف يخصص نيتشه فلسفته للدفاع عن الحقيقة ثم تأتي الانتقادات له بالزيف والانحلال؟ لا بد أن هذا الناقد يرى تعارضًا بين الحقيقة والأخلاق، وهو ما ينتقده نيتشه بالفعل.

    كما نرى طيفًا آخر من الانتقادات الموجهة لنيتشه بتقويض المعنى والدعوة إلى الحياة العدمية. تعني العدمية في الفلسفة تلك الحالة من رفض المعنى، وإنكار غاية الأشياء. وتبدأ بإنكار الغايات البدائية للأشياء، مثل إنكار هطول المطر ليروي الزرع، فهذه الظاهرة لا تحمل تلك المعنى، ويتوسع هذا النقد حتى يشمل الحياة بأكملها، فنحن في أنظار العدمية لا معنى محدد لوجودنا، ولسنا موجودين لغاية ما.

    يتهم بعض النقاد نيتشه بهذا الاتهام، ولكنه يرد عليهم، ربما بكل ما ذكرناه في المقال، فكيف يؤيد الحياة ويحرص عليها ويدعو للعديمة في آن؟ ليس الحياة والنزاهة وحب القدر فحسب، بل يدعو أيضًا إلى المعرفة والعلم والحقيقة، ويقول في كتابه العلم المرح:
    «لم تخذلني الحياة بعد… لقد جاء إلى خاطري المحرر الأكبر؛ إنها تلك الفكرة أن الحياة قد تكون تجربة كبيرة للساعي إلى المعرفة».

    لا يعني الاستخدام المبتذل للفيلسوف فردريك نيتشه على مواقع التواصل الاجتماعي إنكار أصالة فلسفته وتعاطيها بجدية، فإذا جاء نيتشه محررًا للفلسفة بالمطرقة، فعلينا أن نسلم رؤسنا لتلك المطرقة وندعها تحطم الأوثان التي نشأنا عليها، فعلى أكثر حكمة وتعاطفًا مع الآخرين، ويكون المرء إنسانًا أفضل بصورة عامة؟ دعنا نعلم رأيك في فلسفته ولتكن أول القارئين له بعد قراءة هذا المقال.
يعمل...
X