#كاتب وموقف
د.حسان الجودي
من مقدمة ديوان "شظايا ورماد" 1949 لنازك الملائكة بقلمها.
تعد الشاعرة العراقية الراحلة (1923-2007) مع زميلها الشاعر بدر شاكر السياب من مؤسسي النمط الشعري "الشعر الحر" والذي يعرف الآن بقصيدة التفعيلة. بل يعتبر البعض قصيدتها "الكوليرا " من أوائل الشعر الحر في الأدب العربي.
????
في الشعر، كما في الحياة، يصح تطبيق عبارة برنارد شو:
"اللاقاعدة هي القاعدة الذهبية"، لسبب هام، هو أن الشعر وليد أحداث الحياة، وليس للحياة قاعدة معينة تتبعها في ترتيب أحداثها، ولا نماذج معينة للألوان التي تتلون بها أشياؤها وأحاسيسها. ولا تناقض بين هذا الرأي وما يقسم إليه النقاد الشعر من مدارس ومذاهب حين يقولون "كلاسيكي، رومانتيكي، واقعي، رمزي، سريالي ..." فهذه كلها ليست قواعد، وإنما هي أحكام.
وقد يرى كثيرون معي أن الشعر العربي، لم يقف بعد على قدميه، بعد الرقدة الطويلة التي جثمت على صدره القرون المنصرمة الماضية. فنحن عموما ما زلنا أسرى، تسيّرنا القواعد التي وضعها أسلافنا في الجاهلية وصدر الإسلام، وما زلنا نلهث في قصائدنا ونجرّ عواطفنا المقيدة بسلاسل الأوزان القديمة، وقرقعة الألفاظ الميتة، وسدىّ يحاول أفرادٌ منا أن يخالفوا فإذ ذاك يتصدى لهم ألف غيور على اللغة، وألف حريص على التقاليد الشعرية التي أبتكرها واحد قديم أدرك ما يناسب زمانه، فجمدنا نحن ما ابتكر واتخذناه سنة، وكأن سلامة اللغة لا تتم إلا إن هي جمدت على ما كانت عليه منذ ألف عام، وكأن الشعر لا يستطيع أن يكون شعرا إن خرجت تفعيلاته على طريقة الخليل.
ويقولون: ما لطريقة الخليل؟ وما للغة التي استعملها آباؤنا منذ عشرات القرون؟ والجواب أوسع من أن يمكن بسطه في مقدمة قصيرة لديوان. ما لطريقة الخليل؟.. ألم تصدأ لطول ما لامستها الأقلام والشفاه منذ سنين وسنين؟ ألم تألفها أسماعنا، وترددها شفاهنا، وتعلكها أقلامنا، حتى مجتها. منذ قرون ونحن نصف انفعالاتنا بهذا الأسلوب حتى لم يعد له طعم ولا لون. لقد سارت الحياة، وتقلبت عليها الصور والألوان والأحاسيس ومع ذلك ما زال شعرنا صورة لـ "قفا نبك" و "بانت سعاد". الأوزان هي هي، والقوافي هي هي .. وتكاد المعاني تكون هي هي!
ويقولون: ما للغة؟ وأية ضرورة إلى منحها آفاقا جديدة؟ فينسون أن اللغة إن لم تركض مع الحياة ماتت. والواقع أن اللغة العربية لم تكتسب بعد قوة الإيحاء، التي تستطيع بها مواجهة أعاصير القلق والتحرق التي تملأ أنفسنا اليوم. إنها قد كانت يوما لغة موحية، تتحرك وتضحك وتبكي وتعصف، ثم ابتليت بأجيال من الذين يجيدون التحنيط وصنع التماثيل، فصنعوا من ألفاظها "نسخا" جاهزة، ووزعوها على كتابهم وشعرائهم، دون أن يدركوا أن شاعراً واحداً قد يصنع للغة ما لا يصنعه ألف نحوي ولغوي مجتمعين. ذلك أن الشاعر، بإحساسه المرهف وسمعه اللغوي الدقيق، يمد للألفاظ معاني جديدة لم تكن لها، وقد يخرق قاعدة مدفوعا بحسه الفني، فلا يسيء إلى اللغة، وإنما يشدها إلى الأمام. الشاعر أو الأديب إذن هو الذي تتطور على يديه اللغة، أما النحوي واللغوي فلا شأن لهما بها. النحوي واللغوي عليهما واجب واحد هام: واجب الملاحظة واستخلاص قواعد عامة من كلام "المرهفين" من الكتاب والشعراء.
على أن الأديب الذي سنتفق على تسميته "مرهفا"، لا بد أن يملك ثقافة عميقة تمتد جذورها في صميم الأدب المحلي قديمه وحديثه، مع اطلاع واسع على أدب أمة أجنبية واحدة على الأقل، بحيث يتهيأ له حس لغوي قوي، لا يستطيع معه إن هو خلق، إلا أن يكون ما خلق جمالا وسموا. فإذا خرق قاعدة، أو أضاف لونا إلى لفظة، أو صنع تعبيرا جديدا، أحسسنا أنه أحسن صنعا، وأمكن لنا أن نعد ما أبدع وخرق، قاعدة ذهبية.
ولن تقف وظيفة الأديب المرهف، عند خرق قاعدة هنا، وإضافة معنى هناك، وإنما سيكون عليه واجب أدق من هذا تفرضه عليه طبيعة التطور، في اللغات الإنسانية الحية. سيكون عليه أن يدخل تغييرا جوهريا على القاموس اللفظي المستعمَل في أدب عصره، فيترك استعمال طائفة كبيرة من الألفاظ التي كانت مستعملة في القرن المنصرم، ويُدخل مكانها ألفاظا جديدة لم تكن مستعمَلة. ذلك لأن الألفاظ تخلق كما يخلق كل شيء يمر عليه إصبع الاستعمال في هذه الحياة المتغيرة، وهي تكتسب بمرور السنين، جمودا يسبغه عليها التكرار، فتفقد معانيها الفرعية شيئا فشيئا، ويصبح لها معنى واحد محدود، يشلُّ عاطفة الأديب ويحول دون حرية التعبير.
ثم إن هنالك سبباً آخر هاما يستدعي هذا الاستبعاد للألفاظ التي كثر استعمالها، هو أن الأذن البشرية تمل الصور المألوفة والأصوات التي تتكرر، وتستطيع أن تجردها من كثير من معانيها وحياتها. وخير مثال لهذا أننا ننفر الآن بطبيعتنا من استعمال ألفاظ كهذه: "عمبر، كافور، غصن بان، قد، هلال، صدغ، عود، نرجس، لؤلؤ" وهي ألفاظ كانت في بعض العصور السالفة تبدو رقيقة شعرية، وربما كانت يوما مما لا يستعمله إلا المجددون من الشعراء.
وقد لاحظت خلال دراستي للآداب المعاصرة، هذه الملاحظة الطريفة: لاحظت أننا، في هذا العصر، قد أصبحنا ننسى المدلول الخاص لكلمة "البدر" فنهملها إهمالا يكاد يكون كليا، ونؤثر عليها لفظ "القمر"، وقلَّ في الشعراء المعاصرين مَن يرضى استعمال كلمة "بدر" إلا في الحالات النادرة، وأنا أعترف، أنني أكلف نفسي أحيانا متاعب كثيرة، لكي لا أستعملها، والتعليل السيكولوجي لهذا يسير، فأنا وسواي نتذكر بلا شك تلك العشرات من الأبيات الصماء النافرة التي تركها شعراء العصر المنطفئ الماضي، واستعملوا فيها كلمة "بدر" حتى جردوها من جمال معناها، وأطفأوها، وأبقوا منها ظلالهم هم عليها.
ربما كان هذا كله من عمل ما يسميه علماء النفس الاقتران (Association) وربما كان له عندهم تعليل آخر، سوى أن هذا كله يتعلق بالسبب لا بواقع الأمر، فالمهم أن الألفاظ تصدأ وتحول، وتحتاج إلى استبدال بين حين وحين. وقد رأينا أن هذا الاستبدال وظيفة الأديب يقوم بها وهو "نصف واع" لأن الوعي التام قلما ينتج شيئا ذا قيمة.
د.حسان الجودي
من مقدمة ديوان "شظايا ورماد" 1949 لنازك الملائكة بقلمها.
تعد الشاعرة العراقية الراحلة (1923-2007) مع زميلها الشاعر بدر شاكر السياب من مؤسسي النمط الشعري "الشعر الحر" والذي يعرف الآن بقصيدة التفعيلة. بل يعتبر البعض قصيدتها "الكوليرا " من أوائل الشعر الحر في الأدب العربي.
????
في الشعر، كما في الحياة، يصح تطبيق عبارة برنارد شو:
"اللاقاعدة هي القاعدة الذهبية"، لسبب هام، هو أن الشعر وليد أحداث الحياة، وليس للحياة قاعدة معينة تتبعها في ترتيب أحداثها، ولا نماذج معينة للألوان التي تتلون بها أشياؤها وأحاسيسها. ولا تناقض بين هذا الرأي وما يقسم إليه النقاد الشعر من مدارس ومذاهب حين يقولون "كلاسيكي، رومانتيكي، واقعي، رمزي، سريالي ..." فهذه كلها ليست قواعد، وإنما هي أحكام.
وقد يرى كثيرون معي أن الشعر العربي، لم يقف بعد على قدميه، بعد الرقدة الطويلة التي جثمت على صدره القرون المنصرمة الماضية. فنحن عموما ما زلنا أسرى، تسيّرنا القواعد التي وضعها أسلافنا في الجاهلية وصدر الإسلام، وما زلنا نلهث في قصائدنا ونجرّ عواطفنا المقيدة بسلاسل الأوزان القديمة، وقرقعة الألفاظ الميتة، وسدىّ يحاول أفرادٌ منا أن يخالفوا فإذ ذاك يتصدى لهم ألف غيور على اللغة، وألف حريص على التقاليد الشعرية التي أبتكرها واحد قديم أدرك ما يناسب زمانه، فجمدنا نحن ما ابتكر واتخذناه سنة، وكأن سلامة اللغة لا تتم إلا إن هي جمدت على ما كانت عليه منذ ألف عام، وكأن الشعر لا يستطيع أن يكون شعرا إن خرجت تفعيلاته على طريقة الخليل.
ويقولون: ما لطريقة الخليل؟ وما للغة التي استعملها آباؤنا منذ عشرات القرون؟ والجواب أوسع من أن يمكن بسطه في مقدمة قصيرة لديوان. ما لطريقة الخليل؟.. ألم تصدأ لطول ما لامستها الأقلام والشفاه منذ سنين وسنين؟ ألم تألفها أسماعنا، وترددها شفاهنا، وتعلكها أقلامنا، حتى مجتها. منذ قرون ونحن نصف انفعالاتنا بهذا الأسلوب حتى لم يعد له طعم ولا لون. لقد سارت الحياة، وتقلبت عليها الصور والألوان والأحاسيس ومع ذلك ما زال شعرنا صورة لـ "قفا نبك" و "بانت سعاد". الأوزان هي هي، والقوافي هي هي .. وتكاد المعاني تكون هي هي!
ويقولون: ما للغة؟ وأية ضرورة إلى منحها آفاقا جديدة؟ فينسون أن اللغة إن لم تركض مع الحياة ماتت. والواقع أن اللغة العربية لم تكتسب بعد قوة الإيحاء، التي تستطيع بها مواجهة أعاصير القلق والتحرق التي تملأ أنفسنا اليوم. إنها قد كانت يوما لغة موحية، تتحرك وتضحك وتبكي وتعصف، ثم ابتليت بأجيال من الذين يجيدون التحنيط وصنع التماثيل، فصنعوا من ألفاظها "نسخا" جاهزة، ووزعوها على كتابهم وشعرائهم، دون أن يدركوا أن شاعراً واحداً قد يصنع للغة ما لا يصنعه ألف نحوي ولغوي مجتمعين. ذلك أن الشاعر، بإحساسه المرهف وسمعه اللغوي الدقيق، يمد للألفاظ معاني جديدة لم تكن لها، وقد يخرق قاعدة مدفوعا بحسه الفني، فلا يسيء إلى اللغة، وإنما يشدها إلى الأمام. الشاعر أو الأديب إذن هو الذي تتطور على يديه اللغة، أما النحوي واللغوي فلا شأن لهما بها. النحوي واللغوي عليهما واجب واحد هام: واجب الملاحظة واستخلاص قواعد عامة من كلام "المرهفين" من الكتاب والشعراء.
على أن الأديب الذي سنتفق على تسميته "مرهفا"، لا بد أن يملك ثقافة عميقة تمتد جذورها في صميم الأدب المحلي قديمه وحديثه، مع اطلاع واسع على أدب أمة أجنبية واحدة على الأقل، بحيث يتهيأ له حس لغوي قوي، لا يستطيع معه إن هو خلق، إلا أن يكون ما خلق جمالا وسموا. فإذا خرق قاعدة، أو أضاف لونا إلى لفظة، أو صنع تعبيرا جديدا، أحسسنا أنه أحسن صنعا، وأمكن لنا أن نعد ما أبدع وخرق، قاعدة ذهبية.
ولن تقف وظيفة الأديب المرهف، عند خرق قاعدة هنا، وإضافة معنى هناك، وإنما سيكون عليه واجب أدق من هذا تفرضه عليه طبيعة التطور، في اللغات الإنسانية الحية. سيكون عليه أن يدخل تغييرا جوهريا على القاموس اللفظي المستعمَل في أدب عصره، فيترك استعمال طائفة كبيرة من الألفاظ التي كانت مستعملة في القرن المنصرم، ويُدخل مكانها ألفاظا جديدة لم تكن مستعمَلة. ذلك لأن الألفاظ تخلق كما يخلق كل شيء يمر عليه إصبع الاستعمال في هذه الحياة المتغيرة، وهي تكتسب بمرور السنين، جمودا يسبغه عليها التكرار، فتفقد معانيها الفرعية شيئا فشيئا، ويصبح لها معنى واحد محدود، يشلُّ عاطفة الأديب ويحول دون حرية التعبير.
ثم إن هنالك سبباً آخر هاما يستدعي هذا الاستبعاد للألفاظ التي كثر استعمالها، هو أن الأذن البشرية تمل الصور المألوفة والأصوات التي تتكرر، وتستطيع أن تجردها من كثير من معانيها وحياتها. وخير مثال لهذا أننا ننفر الآن بطبيعتنا من استعمال ألفاظ كهذه: "عمبر، كافور، غصن بان، قد، هلال، صدغ، عود، نرجس، لؤلؤ" وهي ألفاظ كانت في بعض العصور السالفة تبدو رقيقة شعرية، وربما كانت يوما مما لا يستعمله إلا المجددون من الشعراء.
وقد لاحظت خلال دراستي للآداب المعاصرة، هذه الملاحظة الطريفة: لاحظت أننا، في هذا العصر، قد أصبحنا ننسى المدلول الخاص لكلمة "البدر" فنهملها إهمالا يكاد يكون كليا، ونؤثر عليها لفظ "القمر"، وقلَّ في الشعراء المعاصرين مَن يرضى استعمال كلمة "بدر" إلا في الحالات النادرة، وأنا أعترف، أنني أكلف نفسي أحيانا متاعب كثيرة، لكي لا أستعملها، والتعليل السيكولوجي لهذا يسير، فأنا وسواي نتذكر بلا شك تلك العشرات من الأبيات الصماء النافرة التي تركها شعراء العصر المنطفئ الماضي، واستعملوا فيها كلمة "بدر" حتى جردوها من جمال معناها، وأطفأوها، وأبقوا منها ظلالهم هم عليها.
ربما كان هذا كله من عمل ما يسميه علماء النفس الاقتران (Association) وربما كان له عندهم تعليل آخر، سوى أن هذا كله يتعلق بالسبب لا بواقع الأمر، فالمهم أن الألفاظ تصدأ وتحول، وتحتاج إلى استبدال بين حين وحين. وقد رأينا أن هذا الاستبدال وظيفة الأديب يقوم بها وهو "نصف واع" لأن الوعي التام قلما ينتج شيئا ذا قيمة.