هذه المادة نشرتها العام ١٩٨٩يوم لم تصل هذه الممثلة الرائعة أفق الشهرة في وقتنا هذا .حيث منحها مهرجان كان الدولي قبل أيام أرفع الأوسمة.
ميريل ستريب
فاطمة المحسن
بعد مهرجان كان الأخير ١٩٨٩دخلت ميريل ستريب، الممثلة الأميركية، مجرات النجوم الأكثر شهرة وانتشاراً في العالم. انقسم في هذا المهرجان النقّاد والجمهور على كل الجوائز، ولكنهم اتفقوا على جائزة واحدة منحت لميريل ستريب كأفضل أداء نسائي عن دورها في فيلم «صرخة الظلام». والحق أن ميريل ستريب قد سبقها إلى هذا المهرجان، تاريخ من الكفاءة يليق بممثلة من نمط جديد، ممثلة يلوح حضورها السينمائي مع قلة من زميلاتها كإمكانية لإرساء أصول جديدة في التمثيل النسائي تقف على مبعدة من تاريخ أنجزته الشهيرات اللواتي خضن غمار هذه المهنة الصعبة.
دخلت ميريل ستريب "كان" بفيلمها «صرخة في الظلام» الذي أخرجه الاسترالي فريد شيبس، ومثلّت فيه دور أمّ تتهم بقتل طفلتها. ومع أن الواقعة المثيرة في هذا النوع من الأفلام تحتل الجزء الأكبر من اهتمام الجمهور، غير انها كعهدها في كل أفلامها سواء تلك العادية أو المميزة كانت قادرة على أن تكسب من فيلم يعتمد على الحدث واللحظات، حيث المشاهد يقترب من فهم حالة شديدة الالتباس، فقد كان من غير المنطقي تبرير دوافع اجتماعية لإدانة أمّ بقتل أعز مخلوق لديها، ولكنها كممثلة جسدت الأمر كما ينبغي عبر قناع التناقض الذي أجادته، لا القناع الظاهري فقط، بل القناع السيكولوجي الذي يظهر الأم في لحظات معينة، وكأنها مهيأة لقسوة غربية واستثنائية. مع أن هذا الدور يبدو صغيراً على هذه الممثلة التي تستخدم كل ممكنات الذكاء والموهبة والعمل المثابر الجاد لتهيئة الفرصة أمامها للانتشار، وكسب الجماهير الأوسع. لعلها تتحرك خارج النظام المعتاد للنجومية، غير عابئة في أحيان كثيرة بامتيازات الشهيرات على الشاشة.
خلقت السينما العالمية نظاماً للنجوم كان من الصعب أن تفلت منه الممثلة، أية ممتلة، ،هذا النظام يعتمد فيما يعتمد مكونات الشخصية البرانية، ومن بينها، أو على الدرجة الأكبر أهمية فيها، جمالها الجسدي ونمط أدائها الواحدي الذي يدخل فيه صنّاع السينما مع وسائل الدعاية في لعبة التعميم أو خلق تلك الشخصية ـ النمط التي يرفض الجمهور أية محاولة للخروج عنها. ولعل مارلين مونرو وريتا هيوارث وبريجيت باردو وباربارا ستاتويك وصوفيا لورين، وغيرهن من شهيرات هوليود والسينما العالمية أوضح مثال على ذلك.
وفي عهود ازدهار السينما الحديثة، أصبح الأداء مكملاً لأهم عنصر في العمل وهو الإخراج الذي دخلت فيه السينما حقبة مهمة في تطوير تقنيتها وأساليبها، وفي مضامين المواضيع وأبعادها. وبقي المخرج في الغالب صانع ممثليه ومحركهم مع أنه محكوم في معظم الأحيان بالشخصيات الجاهزة لمشاهير الممثلين، الأمر الذي أدى إلى التجاء عدد من مخرجي الواقعية، والواقعية الجديدة، إلى استخدام الجماهير والممثلين الخام كأبطال في أفلامهم، كما حدث في السينما الإيطالية إبّان ستينياتها. أو تعمّد بعضهم كهتشكوك مثلاً إعطاءهم أدواراً تناقض هيأتهم الخارجية أو ما اعتادوا على تمثيله. ولا نريد أن نمضي بعيداً ونقول أن السنوات الأخيرة قد خلقت سينما الممثل، ولكننا نشهد وباضطراد تشكّل ظاهرة الممثل الفاعل، الممثل الذي لا يتدخل المخرج في صياغة أبعاد أدواره، بل ويشارك هو في صياغة الحوار والأحداث، بل يعمد في أحيان إلى اختيار مخرجي أفلامه وكاتبي سيناريوهاتها. هذا النوع من الممثلين يشهدون على حقبة سينمائية تتكامل فيها عناصر العمل. من يتذكر أداء ميريل ستريب في «اختيار صوفي» سوف ينساه عندما يشاهد «العشبة الحديد» أو سوف يتذكره بوضوح أكثر عندما يراها في «خارج أفريقيا» وعندما تتالى أمامه أفلامها التي توازي بعضها البعض لا في قيمتها كأفلام وحسب، بل بما يشغله من جهد كي تجد للدور أبعاداً على درجة كبيرة من التنوع. لعل موهبتها في مراقبة الدور بعيداً عن ذاتها الشخصية قد ساعدتها كثيراً على أن تكون ممثلة من طراز متميز، ففي فيلم «عشقية الضابط الفرنسي» تتوضح هذه الموهبة على الصعيد الفني التطبيقي، إلى درجة من الشاعرية هي في صلب متطلبات التماهي مع شخصية البطلة. تلك المرأة المتوحدة التي تعيش عصرين يتمايزان بخصائض أخلاقية مختلفة، لكنها تجابهما بالأسلحة ذاتها.
بين العصر الفكتوري الذي يجري فيه جزء من القصة، والعصر الحديث حيث تعيشه ممثلتها داخل الفيلم، رابط مشترك يبدو كأن من الصعب أن تمثله فنانة أخرى.إن حزناً خفياً يلوح بعيداً في أغوار عيني ستريب حتى وهي تمثل لحظات سعادة موهومة، هذا الحزن الذي يمتزج بلامبالاة هي بالضبط من مقومات ذلك الدور المزدوج الذي تعيش فيه امرأة حصار عاطفة مستحيلة لا تجد معادلاً اجتماعياً للتعبير عنها.
عشيقة الضابط الفرنسي الذي مثلته ستريب العام 1981، وأدارها فيه كارل رايز، توّج مرحلة تألق في حياتها السينمائية، وأهلّها لنيل أوسكار 1982 كأفضل ممثلة عن دورها في فيلم «اختيار صوفي» الذي أخرجه الآن باكولا حيث مثلّت فيه نمط من الشخصية يختلف من حيث الجوهر مع نمط شخصية العشيقة الأولى.. فاستسلامها الظاهري في شخصية الفيلم الأول وهدوءها فيه الكثير من التحدي الذي تجابه فيه امرأة الأشياء بطهرانية مترّفعة مع ما تحمله من سخرية خفية وإحساساً بقيمتها كامرأة وهشاشة الرجال الدين تقابلهم. أما دورها في «اختيار صوفي» فهو محاولة للتطّهر من ماضٍ فاشيٍّ ساهمت وعائلتها في صنعه حتى ولو ارّتد عليها في النهاية وأصبحت ضحيته. لعل استسلامها الكامل ومحاولتها الذوبان في شخصية اليهودي الذي قابلته كان جزءاً من قرار الهرب أو التطهر من هذا الماضي. وهنا كان على ميريل ستريب أن تنتقل بين طقسين مختلفين في الأداء بين أحاسيس الغربة والانتماء والفجيعة والاستغراق باللذة الحسية.
لعل أهم متطلبات الممثل السينمائي قدرته على خلق مدارات للجذب، لغة نفسية خاصة به، تتحول بما يملكه من أدوات تحليلية إلى منظومة من الإشارات والحركات والتأثيرات الصوتية. و ما يحتاجه الممثل حسب انطونيوني «التعبيرية التي لا تعوضها تقنيات سينمائية من أي نوع». وميريل ستريب تمتلك هذه التعبيرية في الوجه والشخصية برمتها، ولكنها لا تكتفي بها، بل هي توظّفها لتكوين مجالها الجاذب ولغتها النفسية التي تتفاهم بها مباشرة مع المشاهد دون أن يتكفل هذا المشاهد بمهمة اجتياز حاجز الوهم الذي اعتاده مع الكثير من الممثلين، لعلها لا تهتم بالحركة الجسدية وتأثيرات القناع الخارجي عبر الإشارة الخفية، والأداء الطبيعي فقط بل تتحكم بنبرة صوتها وبأسلوب نطقها للجملة. لقد كانت في «اختيار صوفي» تنطق الإنكليزية على الطريقة البولونية بعد أن اقنعت المخرج آلان باكولا بلياقتها للدور الذي أراد في البداية أن تلعبه ممثلة من دول أوروبا الشرقية. صوتها كراوية في فيلم «خارج أفريقيا» رسّخ في أذهان الجمهور جملاً كثيرة منه. كذلك دورها في «العشبة الحديد» الذي اكتسب صوتها فيه بحة المرأة المسنة المتداعية. وهكذا تلعب ميريل ستريب على الصوت والنبرة إضافة إلى الوجه والجسد لخلق تكامل في المؤثرات، وهو تقليد ربما اكتسبته من دراستها للمسرح مع فارق الاستخدام هنا.
بالطبع لا يهم أمر ميريل ستريب كل المشاهدين مع أنها تسعى للانتشار وتعزيز شعيبتها قدر طاقتها، لأن هذا النوع من الأداء يحتاج إلى مجابهة مشاهد يسعى إلى ما هو أبعد من مراحل الاندماج النفسي الأول، فهي تعمد إلى خلق نظام من الحركة مختلف من فيلم إلى آخر وتبحث عن متناقضات الشخصية الجوانية لتظهر صراعها وازدواج السمات المختلفة فيها. لعل شخصية هيلين في «العشبة الحديد» الذي تمثل فيه دور متشردة خلال الأزمة الاقتصادية في أميركا الثلاثينيات كانت تبدو ظاهرياً على النقيض من كل أدوارها، فهي امرأة تقترب من الموت بسنين التشرد والعوز التي تثقل كأهلها، ولكنها كانت بحق فرصة ميريل ستريب الذهبية لكي تقتنص دوراً يحتاج إلى تعبٍ جديد ليس إلا. تقول عن الفيلم : «أوحى إلي أحد المفاتيح الموسيقية العميقة الذي كانت تستمع إليه هيلين في القصة بشخصيتها، إذ عبّر عن شكل جسدها المحتشد بالحزن». ولكن بلين تختلف عن دور كارين في «سيلكوود» الذي مثلته عام 1983 وأخرجه مايك نيكولز والذي يحكي قصة احدى المناهضات للتسلح النووي والعاملة في مركز الإشعاع. تقول بأنها لم تكن تنظر إليها كقديسة رغم أن ستريب نفسها منشغلة بقضية السلاح النووي وقد حصلت على جائزة الحركة النسائية المناهضة للسلاح النووي، تقول عن كارين التي ماتت بظروف غامضة ومثلت دورها :« كانت إنسانة حقيقية ومتناقضة، ولم تكن قديسة وهذا ما جعلني أحب الدور لأنني إنسانية متناقضة، فأنا أغير أرائي بين ليلة وضحاها».
ولدت ميريل ستريب، واسمها الحقيقي ماري لويز ستريب في مدينة نيوجرسي الأميركية عام 1949 لعائلة متوسطة، كان والدها مدير شركة أدوية ووالدتها مصممة إعلانات. عاشت طفولتها ومراهقتها في عزلة عن محيطها فقد ترعرعت وحيدة بين أخوين تكبرهما سناً، كما كانت فتاة سمينة تضع نظارتين على عينيها، وجسراً على أسنانها، وتملك أنفاً طويلاً يميل إلى الاعوجاج، ولكنها تخلصت من كل عيوبها وأصبحت إحدى جميلات السينما.
اكتشفت مواهب ميريل ستريب في كلية الفنون المسرحية بجامعة بيل في كونيتيكت ومنذ العام 1975 ظهرت خلال ثمانية عشر شهراً في ثماني مسرحيات كان من بينها لتشيخوف وبريشت وشكسبير، وأثارت انتباه النقاد. ومنها ذهبت إلى برودواي.
وفي عام 1977 قدمها أول مرة إلى السينما المخرج فريد زينمان مع جين فوندا وفاتيسيا ردغريف في فيلم «جوليا» الذي لا تظهر فيه سوى بمشاهد قليلة. وفي العام ذاته مثلت دوراً بارزاً في مسلسل تلفزيوني اسمه «المحرقة» عن المجازر النازية أيام الحرب العالمية الثانية. ثم اسند إليها مايكل تشيمينو العام 1987 دوراً في فيلم «صائد الأيل» الذي وقفت فيه لأول مرة مع روبرت دي نيرو وجون هيرت، ثم تتالت أفلامها بعد أن أدت في «كرايمر ضد كرايمر» الذي أخرجه روبرت بنتون دور الزوجة التي تهجر بيتها وطفلها بحثاً عن ذاتها، فحازت لأول مرة عن هذا الفيلم أوسكار الممثلة الثانوية عام 1979، وكانت نداً لواحد من أفضل ممثلي السينما العالمية داستن هوفمن الذي نال عن دوره في الفيلم أوسكار الممثل الأول. «لقد كنا في عراك حول المشاهد إلى حد الخصام» هكذا يتذكر هوفمن دوره مع ستريب ولكنها تبتسم وتقول: «لم تكن تلك معركة، بل كانت في صلب تفهّم الدور ومعرفة أبعاده».. وبعد مرور كل هذه السنين يقول عنها هوفمن أنها تمثل صنفاً مميزاً بين الممثلات، لا تشابهها فيه أية واحدة، وشهادة هوفمن بحق ستريب ليست الوحيدة. فقد قال عنها مايك نيكولز الذي أدارها في فيلم «سكلوود»: «أنها أشبه ما تكون بغريتا غاربو لأنها ظاهرة لا تتكرر أكثر من مرة في جيل بأكلمه من الممثلين». وبعد عملها في فيلم «العشبة الحديد» أجابت عن سر قدرتها على إظهار أصغر الدوافع في حركة الجسد والوجه والصوت فقالت: «لا اتبع طريقة خاصة في التمثيل، ولا أملك سوى معارف تعلمتها من اساتذة مختلفين لكنها ليست تعليمات أضعها في محفظة عند الحاجة وانتقى منها ما أريد».
رشحت ميريل ستريب خمس مرات إلى الأوسكار ربحتها مرتين.
وميرسل ستريب رغم هالة الإعجاب تعيش بعيداً عن هوليود وحياتها الصاخبة، فهي قذ تزوجت من نحات وعاشت معه في بيت منعزل في ريف كونيتيكت ولديها ثلاثة أطفال تكرس جزءاً كبيراً من وقتها لأجلهم.
نستطيع القول ان لهكذا نمط من الممثلات ذكاء يرتبط بمهنتهن، ذكاء تستكمله المعارف والاهتمامات التي تتعدى المطامح الشخصية بل الكفاح من أجل إدراك قيمته الأكبر، لعله المكان الذي يضع فيه المرء حسب قولها كل أحلامه وجنونه وعواطفه.
الحرية 30/7/1989
ميريل ستريب
فاطمة المحسن
بعد مهرجان كان الأخير ١٩٨٩دخلت ميريل ستريب، الممثلة الأميركية، مجرات النجوم الأكثر شهرة وانتشاراً في العالم. انقسم في هذا المهرجان النقّاد والجمهور على كل الجوائز، ولكنهم اتفقوا على جائزة واحدة منحت لميريل ستريب كأفضل أداء نسائي عن دورها في فيلم «صرخة الظلام». والحق أن ميريل ستريب قد سبقها إلى هذا المهرجان، تاريخ من الكفاءة يليق بممثلة من نمط جديد، ممثلة يلوح حضورها السينمائي مع قلة من زميلاتها كإمكانية لإرساء أصول جديدة في التمثيل النسائي تقف على مبعدة من تاريخ أنجزته الشهيرات اللواتي خضن غمار هذه المهنة الصعبة.
دخلت ميريل ستريب "كان" بفيلمها «صرخة في الظلام» الذي أخرجه الاسترالي فريد شيبس، ومثلّت فيه دور أمّ تتهم بقتل طفلتها. ومع أن الواقعة المثيرة في هذا النوع من الأفلام تحتل الجزء الأكبر من اهتمام الجمهور، غير انها كعهدها في كل أفلامها سواء تلك العادية أو المميزة كانت قادرة على أن تكسب من فيلم يعتمد على الحدث واللحظات، حيث المشاهد يقترب من فهم حالة شديدة الالتباس، فقد كان من غير المنطقي تبرير دوافع اجتماعية لإدانة أمّ بقتل أعز مخلوق لديها، ولكنها كممثلة جسدت الأمر كما ينبغي عبر قناع التناقض الذي أجادته، لا القناع الظاهري فقط، بل القناع السيكولوجي الذي يظهر الأم في لحظات معينة، وكأنها مهيأة لقسوة غربية واستثنائية. مع أن هذا الدور يبدو صغيراً على هذه الممثلة التي تستخدم كل ممكنات الذكاء والموهبة والعمل المثابر الجاد لتهيئة الفرصة أمامها للانتشار، وكسب الجماهير الأوسع. لعلها تتحرك خارج النظام المعتاد للنجومية، غير عابئة في أحيان كثيرة بامتيازات الشهيرات على الشاشة.
خلقت السينما العالمية نظاماً للنجوم كان من الصعب أن تفلت منه الممثلة، أية ممتلة، ،هذا النظام يعتمد فيما يعتمد مكونات الشخصية البرانية، ومن بينها، أو على الدرجة الأكبر أهمية فيها، جمالها الجسدي ونمط أدائها الواحدي الذي يدخل فيه صنّاع السينما مع وسائل الدعاية في لعبة التعميم أو خلق تلك الشخصية ـ النمط التي يرفض الجمهور أية محاولة للخروج عنها. ولعل مارلين مونرو وريتا هيوارث وبريجيت باردو وباربارا ستاتويك وصوفيا لورين، وغيرهن من شهيرات هوليود والسينما العالمية أوضح مثال على ذلك.
وفي عهود ازدهار السينما الحديثة، أصبح الأداء مكملاً لأهم عنصر في العمل وهو الإخراج الذي دخلت فيه السينما حقبة مهمة في تطوير تقنيتها وأساليبها، وفي مضامين المواضيع وأبعادها. وبقي المخرج في الغالب صانع ممثليه ومحركهم مع أنه محكوم في معظم الأحيان بالشخصيات الجاهزة لمشاهير الممثلين، الأمر الذي أدى إلى التجاء عدد من مخرجي الواقعية، والواقعية الجديدة، إلى استخدام الجماهير والممثلين الخام كأبطال في أفلامهم، كما حدث في السينما الإيطالية إبّان ستينياتها. أو تعمّد بعضهم كهتشكوك مثلاً إعطاءهم أدواراً تناقض هيأتهم الخارجية أو ما اعتادوا على تمثيله. ولا نريد أن نمضي بعيداً ونقول أن السنوات الأخيرة قد خلقت سينما الممثل، ولكننا نشهد وباضطراد تشكّل ظاهرة الممثل الفاعل، الممثل الذي لا يتدخل المخرج في صياغة أبعاد أدواره، بل ويشارك هو في صياغة الحوار والأحداث، بل يعمد في أحيان إلى اختيار مخرجي أفلامه وكاتبي سيناريوهاتها. هذا النوع من الممثلين يشهدون على حقبة سينمائية تتكامل فيها عناصر العمل. من يتذكر أداء ميريل ستريب في «اختيار صوفي» سوف ينساه عندما يشاهد «العشبة الحديد» أو سوف يتذكره بوضوح أكثر عندما يراها في «خارج أفريقيا» وعندما تتالى أمامه أفلامها التي توازي بعضها البعض لا في قيمتها كأفلام وحسب، بل بما يشغله من جهد كي تجد للدور أبعاداً على درجة كبيرة من التنوع. لعل موهبتها في مراقبة الدور بعيداً عن ذاتها الشخصية قد ساعدتها كثيراً على أن تكون ممثلة من طراز متميز، ففي فيلم «عشقية الضابط الفرنسي» تتوضح هذه الموهبة على الصعيد الفني التطبيقي، إلى درجة من الشاعرية هي في صلب متطلبات التماهي مع شخصية البطلة. تلك المرأة المتوحدة التي تعيش عصرين يتمايزان بخصائض أخلاقية مختلفة، لكنها تجابهما بالأسلحة ذاتها.
بين العصر الفكتوري الذي يجري فيه جزء من القصة، والعصر الحديث حيث تعيشه ممثلتها داخل الفيلم، رابط مشترك يبدو كأن من الصعب أن تمثله فنانة أخرى.إن حزناً خفياً يلوح بعيداً في أغوار عيني ستريب حتى وهي تمثل لحظات سعادة موهومة، هذا الحزن الذي يمتزج بلامبالاة هي بالضبط من مقومات ذلك الدور المزدوج الذي تعيش فيه امرأة حصار عاطفة مستحيلة لا تجد معادلاً اجتماعياً للتعبير عنها.
عشيقة الضابط الفرنسي الذي مثلته ستريب العام 1981، وأدارها فيه كارل رايز، توّج مرحلة تألق في حياتها السينمائية، وأهلّها لنيل أوسكار 1982 كأفضل ممثلة عن دورها في فيلم «اختيار صوفي» الذي أخرجه الآن باكولا حيث مثلّت فيه نمط من الشخصية يختلف من حيث الجوهر مع نمط شخصية العشيقة الأولى.. فاستسلامها الظاهري في شخصية الفيلم الأول وهدوءها فيه الكثير من التحدي الذي تجابه فيه امرأة الأشياء بطهرانية مترّفعة مع ما تحمله من سخرية خفية وإحساساً بقيمتها كامرأة وهشاشة الرجال الدين تقابلهم. أما دورها في «اختيار صوفي» فهو محاولة للتطّهر من ماضٍ فاشيٍّ ساهمت وعائلتها في صنعه حتى ولو ارّتد عليها في النهاية وأصبحت ضحيته. لعل استسلامها الكامل ومحاولتها الذوبان في شخصية اليهودي الذي قابلته كان جزءاً من قرار الهرب أو التطهر من هذا الماضي. وهنا كان على ميريل ستريب أن تنتقل بين طقسين مختلفين في الأداء بين أحاسيس الغربة والانتماء والفجيعة والاستغراق باللذة الحسية.
لعل أهم متطلبات الممثل السينمائي قدرته على خلق مدارات للجذب، لغة نفسية خاصة به، تتحول بما يملكه من أدوات تحليلية إلى منظومة من الإشارات والحركات والتأثيرات الصوتية. و ما يحتاجه الممثل حسب انطونيوني «التعبيرية التي لا تعوضها تقنيات سينمائية من أي نوع». وميريل ستريب تمتلك هذه التعبيرية في الوجه والشخصية برمتها، ولكنها لا تكتفي بها، بل هي توظّفها لتكوين مجالها الجاذب ولغتها النفسية التي تتفاهم بها مباشرة مع المشاهد دون أن يتكفل هذا المشاهد بمهمة اجتياز حاجز الوهم الذي اعتاده مع الكثير من الممثلين، لعلها لا تهتم بالحركة الجسدية وتأثيرات القناع الخارجي عبر الإشارة الخفية، والأداء الطبيعي فقط بل تتحكم بنبرة صوتها وبأسلوب نطقها للجملة. لقد كانت في «اختيار صوفي» تنطق الإنكليزية على الطريقة البولونية بعد أن اقنعت المخرج آلان باكولا بلياقتها للدور الذي أراد في البداية أن تلعبه ممثلة من دول أوروبا الشرقية. صوتها كراوية في فيلم «خارج أفريقيا» رسّخ في أذهان الجمهور جملاً كثيرة منه. كذلك دورها في «العشبة الحديد» الذي اكتسب صوتها فيه بحة المرأة المسنة المتداعية. وهكذا تلعب ميريل ستريب على الصوت والنبرة إضافة إلى الوجه والجسد لخلق تكامل في المؤثرات، وهو تقليد ربما اكتسبته من دراستها للمسرح مع فارق الاستخدام هنا.
بالطبع لا يهم أمر ميريل ستريب كل المشاهدين مع أنها تسعى للانتشار وتعزيز شعيبتها قدر طاقتها، لأن هذا النوع من الأداء يحتاج إلى مجابهة مشاهد يسعى إلى ما هو أبعد من مراحل الاندماج النفسي الأول، فهي تعمد إلى خلق نظام من الحركة مختلف من فيلم إلى آخر وتبحث عن متناقضات الشخصية الجوانية لتظهر صراعها وازدواج السمات المختلفة فيها. لعل شخصية هيلين في «العشبة الحديد» الذي تمثل فيه دور متشردة خلال الأزمة الاقتصادية في أميركا الثلاثينيات كانت تبدو ظاهرياً على النقيض من كل أدوارها، فهي امرأة تقترب من الموت بسنين التشرد والعوز التي تثقل كأهلها، ولكنها كانت بحق فرصة ميريل ستريب الذهبية لكي تقتنص دوراً يحتاج إلى تعبٍ جديد ليس إلا. تقول عن الفيلم : «أوحى إلي أحد المفاتيح الموسيقية العميقة الذي كانت تستمع إليه هيلين في القصة بشخصيتها، إذ عبّر عن شكل جسدها المحتشد بالحزن». ولكن بلين تختلف عن دور كارين في «سيلكوود» الذي مثلته عام 1983 وأخرجه مايك نيكولز والذي يحكي قصة احدى المناهضات للتسلح النووي والعاملة في مركز الإشعاع. تقول بأنها لم تكن تنظر إليها كقديسة رغم أن ستريب نفسها منشغلة بقضية السلاح النووي وقد حصلت على جائزة الحركة النسائية المناهضة للسلاح النووي، تقول عن كارين التي ماتت بظروف غامضة ومثلت دورها :« كانت إنسانة حقيقية ومتناقضة، ولم تكن قديسة وهذا ما جعلني أحب الدور لأنني إنسانية متناقضة، فأنا أغير أرائي بين ليلة وضحاها».
ولدت ميريل ستريب، واسمها الحقيقي ماري لويز ستريب في مدينة نيوجرسي الأميركية عام 1949 لعائلة متوسطة، كان والدها مدير شركة أدوية ووالدتها مصممة إعلانات. عاشت طفولتها ومراهقتها في عزلة عن محيطها فقد ترعرعت وحيدة بين أخوين تكبرهما سناً، كما كانت فتاة سمينة تضع نظارتين على عينيها، وجسراً على أسنانها، وتملك أنفاً طويلاً يميل إلى الاعوجاج، ولكنها تخلصت من كل عيوبها وأصبحت إحدى جميلات السينما.
اكتشفت مواهب ميريل ستريب في كلية الفنون المسرحية بجامعة بيل في كونيتيكت ومنذ العام 1975 ظهرت خلال ثمانية عشر شهراً في ثماني مسرحيات كان من بينها لتشيخوف وبريشت وشكسبير، وأثارت انتباه النقاد. ومنها ذهبت إلى برودواي.
وفي عام 1977 قدمها أول مرة إلى السينما المخرج فريد زينمان مع جين فوندا وفاتيسيا ردغريف في فيلم «جوليا» الذي لا تظهر فيه سوى بمشاهد قليلة. وفي العام ذاته مثلت دوراً بارزاً في مسلسل تلفزيوني اسمه «المحرقة» عن المجازر النازية أيام الحرب العالمية الثانية. ثم اسند إليها مايكل تشيمينو العام 1987 دوراً في فيلم «صائد الأيل» الذي وقفت فيه لأول مرة مع روبرت دي نيرو وجون هيرت، ثم تتالت أفلامها بعد أن أدت في «كرايمر ضد كرايمر» الذي أخرجه روبرت بنتون دور الزوجة التي تهجر بيتها وطفلها بحثاً عن ذاتها، فحازت لأول مرة عن هذا الفيلم أوسكار الممثلة الثانوية عام 1979، وكانت نداً لواحد من أفضل ممثلي السينما العالمية داستن هوفمن الذي نال عن دوره في الفيلم أوسكار الممثل الأول. «لقد كنا في عراك حول المشاهد إلى حد الخصام» هكذا يتذكر هوفمن دوره مع ستريب ولكنها تبتسم وتقول: «لم تكن تلك معركة، بل كانت في صلب تفهّم الدور ومعرفة أبعاده».. وبعد مرور كل هذه السنين يقول عنها هوفمن أنها تمثل صنفاً مميزاً بين الممثلات، لا تشابهها فيه أية واحدة، وشهادة هوفمن بحق ستريب ليست الوحيدة. فقد قال عنها مايك نيكولز الذي أدارها في فيلم «سكلوود»: «أنها أشبه ما تكون بغريتا غاربو لأنها ظاهرة لا تتكرر أكثر من مرة في جيل بأكلمه من الممثلين». وبعد عملها في فيلم «العشبة الحديد» أجابت عن سر قدرتها على إظهار أصغر الدوافع في حركة الجسد والوجه والصوت فقالت: «لا اتبع طريقة خاصة في التمثيل، ولا أملك سوى معارف تعلمتها من اساتذة مختلفين لكنها ليست تعليمات أضعها في محفظة عند الحاجة وانتقى منها ما أريد».
رشحت ميريل ستريب خمس مرات إلى الأوسكار ربحتها مرتين.
وميرسل ستريب رغم هالة الإعجاب تعيش بعيداً عن هوليود وحياتها الصاخبة، فهي قذ تزوجت من نحات وعاشت معه في بيت منعزل في ريف كونيتيكت ولديها ثلاثة أطفال تكرس جزءاً كبيراً من وقتها لأجلهم.
نستطيع القول ان لهكذا نمط من الممثلات ذكاء يرتبط بمهنتهن، ذكاء تستكمله المعارف والاهتمامات التي تتعدى المطامح الشخصية بل الكفاح من أجل إدراك قيمته الأكبر، لعله المكان الذي يضع فيه المرء حسب قولها كل أحلامه وجنونه وعواطفه.
الحرية 30/7/1989