تقوم على المقارنة بين المجرد والملموس: عن الرمزية في الأدب
18 - مايو - 2024م
عبد الواحد لؤلؤة
يرى الباحثون أن الرمزية واحدة من المذاهب الأدبية، إلى جانب الحركة البرناسية والحركة الرومانسية، مما شاع في الأدب الفرنسي في نهايات القرن التاسع عشر. وتقوم الرمزية على مقارنة بين المجرد والملموس في واحد من مصطلحات المقارنة، يشار إليها إشارة وحسب. ويتمثل ذلك في أعمال شعراء من أمثال رامبو وبودلير ومالارميه، وفي قصائد أو مجموعات شعرية مثل «تطابقات» و«تناغم المساء» و«جِمّة الشَعر».
ويمكن تعريف الرمزية بأنها فن التعبير عن الأفكار والمشاعر لا بوصفها مباشرة، ولا بتعريفها من خلال مقارنات واضحة مع صور ملموسة، بل بالإيحاء بماهيّة تلك الأفكار والمشاعر بإعادة تكوينها في ذهن القارئ من خلال استعمال رموز غير مُفَسَّرة. وتأمل القصيدة الرمزية إلى بلوغ ذلك عن طريق مزج الرموز بالموسيقى، لأن الشعر الرمزي «يريد أن يتلبّس الفكرة بشكل محسوس». ففي قصيدة بودلَير الشهيرة، بعنوان «تطابقات»، تكون الأحاسيس ليست محض أحاسيس، إذ بوسعها التعبير عن أفكار مثل الفساد أو الغنى أو الظفر: «الطبيعة معبدٌ حيث الدعائم الحية / تسمح أحياناً بعبور كلمات مضطربة / يمرّ الإنسان عبرها خلال غابات من الرموز». ففي مجموعة «تناغم المساء» مثلاً، قد تبدو في القراءة الأولى محض وصف منظر طبيعي، لأنها تتكوّن بمجموعها تقريباً من سلسلة من الصور: الشمس الغاربة، تضاؤل أريج الزهور، خفوت نغمة الكمان: «أقبلتِ الأيام إذ تهتزّ على سُوَيقها / كلّ زهرة تعبق مثل مجمرة بخور/ وتنداح الأصوات والعطور في نسيم المساء / رقص كئيب ودُوَار واهن». وفي قصائد بعنوان «كآبة» يكون لجميع الصور عنصر مشترك ولو أنه مختلف تماماً عمّا نجده في «تناغم المساء»: «إله المطر، غاضباً على المدينة برمّتها، من قِربته يدلق أمواجاً من البرد والظلمات / على القابعين الكالحين في المقبرة المجاورة، والموتَ على الضواحي الغارقة في الضباب».
وفي قصيدة «تطابقات» لا يقتصر بودلير على القول إن العطور يمكن أن تكون: «مفاسد، أو ثروات، أو انتصارات» بل يقول كذلك: «العطور والألوان والأصوات تتصادى./ هي عطور غضّة، مثل جلود الأطفال / عذبةٌ مثل النايات، خضراء مثل المروج». وفي قصيدة «طائر التمّ» يكون الشعور بالأسر والإحساس بعالم لا أمل، يكون التعبير بتراكم صور مرئية جميعها: «وهكذا في غابةٍ لفّاء حيث تهيمُ روحي / تتردّد ذكرى قديمة مثل نفخة بوق الصيادين./ أفكّر بالبحّارة التائهين في جزيرة، / بالأسرى المغلوبين… وبكثير آخرين».
وفي شعر بول فرلَين المولود في عام 1842 أي بعد بودلير بجيل من الزمان، نجده لا يستطيع تجنّب التأثّر بمجموعة قصائد «أزهار الشرّ» إلاّ قليلاً. وهو يفعل ذلك بطريقة بودلير نفسها باستعمال رمز خارجي «يتطابق» مع مشاعره الداخلية. وتماماً مثلما قال بودلير في «طائر التمّ»: «إن إعادة بناء اللوفر والسّقّالات حوله وكتل الحجارة تحمِل إليه مغزىً خفيّاً: «قصور جديدة، تراكمات، كتل حجارة، / ضواحٍ قديمة، جميعها تغدو لي رموزاً».
وهكذا يعترف فرلين في «صبابات دون كلمات» أنه حين يتجوّل في ريف الضباب، فإن ذلك يعكس أحزانه الخاصة: «على قدر ما يشحُب هذا الريف، أيها المتجوّل، / يبدو لي أنك أنت نفسك تشحُب».
مثلما نجد في «تناغم المساء» وفي «كآبة» فإن كثيراً من قصائد فرلين تبدو وصفية، باستثناء إشارات قليلة، هدفها الحقيقي مختلف، نجد المنظر الطبيعي في مجموعة «الأغنية الجميلة» لا يوجد سوى البيت المنفصل الأخير في كل مقطع، ما يشير إلى وجود شخصين، وأن هذه هي في الواقع قصيدة حب رقيقة: «القمر الشاحب / يُنير من خَلَلِ الغاب / ومن كل غصن / تهمس أغنية / من تحت الأوراق…».
وعن طريق تصوير عاصفة فعلية، يعبّر فرلين عن شعور بالعاصفة الروحية التي تثور في داخله وهو يكافح ضد الغواية: «كانت الأيام الجميلة الزائفة تلتمع طوال النهار، يا روحي المسكينة، / وها هي ترتعش في الغروب نحاسيّ اللون… فقد كانت تتلامع طوال النهار بدفقات من البَرَد البرّاق / متلفةً كل حصيد التلال، مدمرةً / موسم الوادي، وكاسحةً / السماء الزرقاء التي تستدعيك بالغناء». في هذه القصيدة، وفي «الشموس الغاربة» أغنية خريف يعالج فرلين النوع نفسه من الرمزية، لكنه يختلف عن بودلير حتى في تلك اللحظات التي ينظر فيها بتفاؤل إلى الأمام. ففي «الأغنية الجميلة» يقول: «بلى، أريد أن أسير واثق الخطى، هادئاً، خلال حياتي / نحو الهدف الذي يقود خطاي إليه نصيبي: / بلا عنف، بلا ندم، بلا حقد: / سيكون هذا واجبي السعيد في الصراع الممراح».
بدأت مسيرة رامبو الشهابية شاعراً في عام 1870 وانتهت عام 1875 قبل أن يبلغ الحادية والعشرين من العمر. ومع ذلك، وفي خلال تلك السنوات القليلة، استطاع أن يقفز من شاعر يكاد يكون في تقليديته شاعراً يشبه فرلين ليصبح عضواً بارزاً في «الطليعة» بحيث ظلت قصائده حتى اليوم، بعد مرور أكثر من قرن من الزمان، تحمل نغماً حديثاً حقاً في طبيعتها. وبعد أقل من ستة أشهر من نشره قصيدته الأولى، كتب رامبو إلى أحد أصدقائه رسالته الشهيرة بعنوان «رسالة الرائي» التي يحمل فيها بشدة على الشعر الفرنسي جميعاً بوصفه «نثراً مقفّى» ورفض لامارتين لأنه «مختنقٌ بما تجاوزه الزمن من شكل في شعره». وقد حمل حتى على بطله، رامبو، لأنه كان «فنّياً بوعيٍ مُبالَغ فيه» والذي كان يريده هو أشكال جديدة من الشعر التي تطلق العنان لعبقرية الشاعر. «أنا هو آخَر» هي العبارة التي كثُر اقتطافها، والتي أسيء فهمها أحياناً، ولو أن رامبو كان يسعى لتوضيحها بقوله إن واجبه هو الوقوف جانباً، يراقب ويصغي إلى تفتّح فكرته: «على مقربة من فكرتي، أراقبها وأُصغي». وهكذا تكون وظيفة الشاعر، لا أن يخلق القصيدة عن وعي وتصميم، بل أن يسمح لها أن تتطوّر بحدّ ذاتها. ويعدّ رامبو في الواقع المنبع الرئيس لهذه الحركة التي تطوّرت القرن العشرين، ولكنه في «رسالة الرّائي» لا يعبّر عن نظرية واضحة المعالم قدر ما يعبّر عن شعور غامض من البَرَم من نظام من كل نوع، من ما يميّز مَن كان في مثل عمره.
كان عالم الخيال عند رامبو أكثر واقعية من الواقع نفسه. وكان بودلير يشعر أن قوة الرائي هذه إنما هي هبة للشاعر، وكان رامبو يعتقد بالمقابل «أن الشاعر يجعل من نفسه رائياً» وأنه يفعل ذلك عن طريق التقصُّد في إرباك الحواس. فبإخضاع نفسه لكل أنواع التجربة الحسية «جميع أشكال الحب والعذاب والجنون» يكتسب نوعاً من الحساسية الأسمى تعينه أن يرى الأشياء التي لا يدركها الآخرون، وأن يفهم «لغة الزهور والأشياء الصمّاء» بعبارة بودلير. لذا فالشاعر عند رامبو هو كيان قادر على خلق عالمه الخاص. ونجد رامبو، كما يقتطف فرلين في قصيدة «تهمة الحب». والحقيقة أن رامبو في مقاطع عديدة من «إضاءات» يتناول الواقع كمادة أولية يخلق منها عالماً جديداً. ففي قصيدة «بحرية» تتحول الأرض إلى بحر، والبحر إلى أرض: «محاريث الفضة والنحاس ـ حيازيم الفولاذ والفضة ـ تندفع خلال الأمواج / تقتلع جذور الأدغال. / وتيارات اليابسة، / والأخاديد الطويلة من مياه المدّ، / تستدير في اندفاعها نحو الشرق، — باتجاه أساطين الغابة، / نحو جذوع الرصيف، / تكتسح جوانبَه دوّاماتُ الضياء».
تقتصر الرمزية على عدد صغير من الشعراء الفرنسيين البارزين من حدود 1850 إلى حوالي 1920 ويشتركون جميعاً في عدد من الأهداف المتماثلة. وقد انتشرت آثار الرمزية إلى عدد من البلاد الأوروبية خارج فرنسا. فمن بين الكتّاب الذين كتبوا بالإنكليزية، كان الجانب المثالي للرمزية يستهوي و.ب. ييتْس بشكل خاص، وهو الشاعر الذي كان منذ بدايات عشريناته مهتماً بالغوامض وبعالم الأساطير الإيرلندية. وعلى الجانب الآخر، نجد جماعة الصُوريّين الإنكليز والأمريكان بقيادة ت.ي. هْيُوم وإزرا باونْد الذي ابتدع مصطلح الصُوريّة في عام 1912 ولحق به ت.س. إليوت عام 1915 ولكنه سرعان ما بدأ باستعمال صور مثل «الضباب الأصفر الذي يحكّ ظهره على ألواح زجاج النوافذ» و«النهارات المحترقة لنهارات مُدخَّنة». والأدب الألماني، مثل الأدب الإنكَليزي، قد تأثّر بالرمزية الفرنسية كما نجد عند شاعرَين بارزين عند بواكير القرن العشرين، هما رايْنَر ماريا ريلْكَه وشتَيفان كَيورْكَه. وقد اعترف ريلكه بما يدين به للشاعر فاليري، إذ ترجم قصيدته «المقبرة البحرية» والذي ترك أثره بشكل خاص في آخر وأفضل أعماله المنشورة عام 1923 وهي «مراثي دُوَيْنَو» و«غنائيات إلى أَورْفَيَوس».
وقد امتدّ أثر الرمزية إلى أبعد من ألمانيا، إلى روسيا، حيث تبنّى بحماسة عددٌ من الكتّاب، في تسعينات القرن التاسع عشر، وفي بواكير القرن العشرين، أفكار الرمزيين الفرنسيين.
ويبقى أن ينظر المتأدّب العربيّ إلى هذه الصورة من التطوّر في الشعر الأوروبي بدءاً من فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر ويعود إلى النظر في تراثنا الشعري من إمرئ القيس إلى نزار قبّاني، وما بينهما من قامات شعرية في العربية.