ميغالوبوليس

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ميغالوبوليس

    ◆كان- 6
    «ميغالوبوليس» حدث «كان» الأكبر هو حدث العام السينمائي بأسره
    ★★★★ Megalopolos
    في الدقيقة 80 من بداية فيلم «ميغالوبوليس» يتقدّم رجل على المنصّة أمام الشاشة ثم يقف في نقطة معيّنة. على الشاشة ما زال الفيلم الجديد لفرنسيس فورد كوبولا معروضاً، لكن في اللحظة التي يقف فيها ذلك الرجل أمام الفيلم، هناك لقطة للممثل الرئيسي وهو محصور بإطار يبدو مثل نافذة ويتطلع صوب الرجل الواقف على المسرح. الرجل يسأل والممثل موجهاً نظره إليه (حيث من المفترض أنه يراه) يجيب.
    يستمر هذا المشهد لنحو 30 ثانية فقط، لكنه من إبداعات المخرج ودعماً لرسالته التي يتضمنها الفيلم وتفعيلاً لفكرة لم تقوم بها السينما من قبل. نعم، على المسرح لكن ليس في السينما.
    لن يخسر الفيلم شيئاً لو لم يعمد إلى هذه الحركة، رغم ذلك لها وقع كبير لمؤازرة مضامينه. «ميغالوبوليس» فانتازيا يصفها المخرج بالأخلاقية تتكهن بأن الولايات المتحدة ستشهد نهاية كتلك التي شهدتها الإمبراطورية الرومانية قبل الميلاد وتعمد إلى استيحاء الأحداث المستقاة من ذلك التاريخ لكي ترسمها على وضع يراها مشابهة اليوم.

    الوقت المناسب
    الفيلم في بال كوبولا منذ 1974. لكنه كان يحتاج لتمكين نفسه كإسم فني كبير ولامع. ما بين 1972 و1974 أنجز ذلك لكن الوقت لم يكن مناسباً. ربما لم تتكوّن معطيات الفيلم بوضوح آنذاك، أو ربما أدرك أن رؤيته ستصطدم بمعيقات مادية. في العام 2001، إثر الهجوم الإرهابي على نيويورك، عاد إلى الفكرة لكنها كانت تحتاج لمزيد من الكتابة والقليل من الإنفعال.
    انتظر كوبولا الوقت المناسب الذي هو الحالي. وقت تمر فيه الولايات المتحدة والعالم بسلسلة من المآزق التي تضع إسفينا ما بين عالم متخبط ومغمور بالثورة المادية وبين أخلاقيات الحياة والمبادئ التي باتت غير قادرة على الدفاع عن الإنسان وحضاراته.
    أدرك كوبولا، وقد بلغ الخامسة والثمانين من عمره، بأنه قد لا يحقق فيلماً آخر بعد اليوم وإن عليه- إذا ما أراد تحقيق هذا الفيلم فعلاً- أن يموّله من جيبه. المشروع كبير ومعقد وكثيف الجوانب البصرية وفيه كم كبير من الممثلين وأجواء وتصاميم فنية وديكوراتية كبيرة. لم يبخل كوبولا على حلمه بل وضع ثروة بلغت 130 مليون دولار مدركاً إنه سينجز فيلماً من الصعب جذب الجمهور الكبير إليه. جمهور «العرّاب» (بجزئيه الأول والثاني) وجمهور «المحادثة» أو حتى «القيامة الآن» (الشركة الموزّعة هي ألمانية إسمها Constantine ولا يوجد للآن موزّع أميركي).
    لا يبدو أن ذلك يحرم كوبولا من النوم. على العكس أنجز الرجل حلم حياته وهو فعل أكثر بكثير من أحلام عديدة تنتابنا لا نستطيع تحقيقها. جمع للفيلم أسماء رنانة. أدام درايڤر في دور سيزار ولورنس فيشبورن ودستين هوفمن وجونن ڤويت وشايا لابوف لجانب أخرى غير معروفة على نطاق واسع: نتالي إيمانويل وأوبري بلازا وجيان كارلو إسبوزيتو وعشرات آخرين.

    مفاجآت بصرية
    مطلوب من هذه الشخصيات الماثلة الترميز للشخصيات التي عاشت في زمن قياصرة روما (كاليغولا، سيزار، سيسيرو، كراسوس الخ…) وهي تفعل ذلك، لكن ليس بلباس تاريخي، ولا تقع أحداث الفيلم أساساً في حقب تاريخية. إنه عن عالم معاصر يدمج اليوم بالمستقبل لكنه يتحدّث عن الآفة التي لا تعرف تميّز العصور: السُلطة والجاه حين لا تستند إلى نفع عام. في نظر كوبولا، ما حدث للإمبراطورية الرومانية هو التنافس على المصالح الشخصية واستفحال التنافس عليها. ما يوازيه، في منظور المخرج، هو وجود هذا التنافس وذلك الإستفحال في الزمن الحاضر في أميركا.
    آدم درايڤر هو مصم معماري ذو رؤية مستقبلية لتحويل المدينة التي يعيش فيها إلى صرح شامخ بمادة اكتشفها (لا يتوقف الفيلم عند تفاصيلها) ستنقل الحاضر إلى المستقبل. يقاومه في هذا المشروع محاف المدينة (إسبوزيتو) وهناك من يعارض المدينة الجديدة انطلاقاً من إنه يريد إنشاء كازينو كبير (هذا تماثل بين فنان وتاجر كحال المخرج وهوليوود).
    سيزار يحب جوليا (إيمانويل) إبنة المحافظ الذي يتودد حيناً ويعارض معظم الأحيان خصوصاً في مسألة زواج إبنته بسيزار. هناك مشكلة أخرى في حياة سيزار وهي أن عشيقته واو (أوبري بلازا) تريده لنفسها وهي تملك زمام أمره من حيث أن والدها (جون ڤويت) الذي هو أثرى أثرياء المدينة، يستطيع وقف مويله وتجميدحساباته المصرفية.
    في ساعتين و14 دقيقة يستعرض «ميغالوبوليس» مشاهده في سلسلة متواصلة من المفاجآت البصرية. هذا عالم شيّده كوبولا كما كان أورسن وَلز وفدريكو فيلليني وكوبولا نفسه شيدوه من قبل. لا شيء سهل في النظرة الأولى وكل شيء ممكن تنفيذه مغلّفاً بجاذبية الفكرة وما تفصح عنه من مضمون وبالأسلوب الذي ينتمي إلى مخيلة لا تفتقر القدرة على الإدهاش. بما أن هذه القدرة تعتمد على جديّة المضمون وأبعاده فإنها ليست خاوية مطلقاً. ربما كثافة المعروض تؤسس لمشكلة تلقّي. الفيلم بالتأكيد نخبوي وليس جماهيري، لكن إلى ذلك، وحتى على المستوى الأول، هناك الكثير جداً من المعروض المتوّج والمغلّف بالكثير جداً من المشاهد التي تستخدم كل تفصيلة صغيرة منها لتؤلّف كياناً كبيراً غريباً وجديداً حتى الجنوح.

    صرخة
    يحشد كوبولا كل ما في وسعه لتنفيذ رؤية تتبلور على أكثر من صعيد. من الكتابة إلى آخر لقطة من الفيلم، هذا عمل مجبول بخيال تزوّجت واندمجت من مهارة حرفية نافذة. نصف الساعة الأخيرة تعاني من ثقل ما سبقها لكن الفيلم لا يقع وما ينقذه هو المستوى المتواصل من دون هوان والمليء بالمفاجآت البصرية وكلها غير مجانية ولا تهدف لكي تتبوأ عناوين لافتة. الفيلم بأسره هو صزخة زيّنها المخرج بخيال رحب وواسع. المفارقة هي أننه إذ يعرض واقعاً متشائماً لا يعمد إلى تظليله ومنحه صورة داكنة للتأكيد عليه، بل ينجز فيلما لافتاً في مساحاته وفضاءاته البيضاء.
    تصوير متمكن من ميهاي ملامار جونيور (صوّر لبول توماس أندرسن The Master مثلاً لكنه لم يقدم على فيلم آخر بذات الدرجة من التعقيد. إثنان كتباً الموسيقا الرائعة التي تنساب دون إزعاح هما أوسڤالدو غوليوف (اشتغل سابقاً مع كوبولا في «شباب بلا شباب) والمؤلّفة غريس ڤاندرڤال (اشتغلت على أفلام مستقلة صغيرة من قبل).
    هذا فيلم، والحديث عنه يطول جداً، يقسم المشاهدين إلى معجبين متيّمين (وهذا الناقد أحدهم) وإلى نابذين ومنتقدين وكل من الفريقين له وجهة نظر تؤيده ما يجعل كلاهما صحيحاً على صعيد مبدأي.
    قد ينتقد البعض المضمون الأخلاقي والبعض الآخر الكثافة البصرية والطرح المناوئ للحريات الفردية التي لا ضابط لها (مادية وجنسية)، لكن هذه المسائل ذاتها التي تجعل الفيلم نادراً. كوبولا يفصح في كل زاوية منه عن نقد أكبر شأناً حول حياتنا العصرية. السعي للديمومة والإنصراف للملذات المتاحة للبعض دون عوائق أخلاقية. بطل الفيلم في تصميمه على خلق حياة جديدة تخلف الواقع المعاش ليس بدوره بريئاً أو خالياً من العيوب. إنه واحد من النخبة التي حدث إنها تفكر على نحو مختلف.
    في الوقت ذاته، فيلم كوبولا الجديد عاكس لا لفنه والخامة الكبيرة التي يستخدما في أفلامه، بل لشخصه أيضاً. هو موجود محل أدام درايڤر كأحد الذين يريدون تغيير الواقع. هو، كثري، لا يفكّر بالطريقة ذاتها بل يستخدم فيلمه لنقد الحاضر من فوق. يوعز بأنه صرف على الفيلم من جيبه عوض أن يكتم شهادته التاريخية.
يعمل...
X