محمد الماغوط

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • محمد الماغوط

    فاطمة المحسن || كاتبة وناقدة عراقية


    قيل الكثير عن الماغوط، وبعض ما تردد عنه يشبه الإشاعات النقدية التي تتناقلها الأقلام، ولعل أبرزها انتسابه الى قصيدة النثر الساخرة، وهو قول يقرأ جانبين من جوانب شغله، الأول يخص التصنيف والثاني التوصيف. وليس لنا نحن الذين عرفنا الماغوط مبكراً دون أن ننسبه إلى موجة أو تيار، سوى البحث عن سر إعجاب الناس بشعره، فقصيدة النثر العربي أضعف من أن تحصد إعجاباً مثل الذي حصده الماغوط، وفن السخرية يكاد يطغى على الشعر العربي منذ الخمسينات، ولكن لا سخرية الماغوط ولا نثرية قصيدته كانت وراء جماهيريته، كما نتخيل، فلابد أن نجد في تركيبة خطابه ما جعل لقصيدة النثر التي كتبها مقبولية جماهيرية، ولفن السخرية تعريفاً نوعياً يختلف عن المتداول. خصائص شعرية الماغوط لا تميزه وحده، بل تميز تيارا كتابيا برز في بلاد الشام خلال الخمسينات والستينات واستمر الى نهاية السبعينات. هذا التيار شمل النثر والشعر معا وظهر على أوضح ما يكون عند نزار قباني وغادة السمان وزكريا ثامر وسعد الله ونوس، إضافة إلى الماغوط. ولعل تعريف نوع هذا التيار يحتاج الى عدد من الدراسات، ولكن الأهم ما فيه أعرافه الأدبية التي تمسرح تمرداتها الاجتماعية والسياسية، ضمن بلاغة مترفة العاطفة، رأسمالها اللغة، اللغة الطازجة الفوارة التي تلعب على المفارقة والصفاء وإكتئاب المزاج، وهذا الأخير شديد الصلة بالموقف الرومانسي في الكتابة. البلاغة تعريفا هي الكيفية التي تستخدم فيها الألفاظ والصور الفنية، وهي عند أرسطو طريقة لتنظيم قول الحقيقة، ووفق النظرة الحديثة هي الاستعمالات الأدبية للغة، وسندخل في دغل السيميائية وفلسفة اللغة عند البحث عن نظرية التواصل والعلامات. ولكن ما يهمنا في هذا الإيجاز، التوقف عند السنن التي اتبعها الأدباء السوريون لتعزيز لغة التواصل بينهم وبين جمهورهم. لعل مشتركات هؤلاء تتحدد بتقريب العاطفة العربية من الحياة الحديثة التي دخلت بلاد الشام مبكرا، ولكن سوريا كمكان استطاعت أن تحتفظ بعراقتها أو بتمدينها الأصلي غير الدخيل، وهؤلاء الكتّاب يستخدمون العاطفة القديمة، بما فيها الانتقام والغيرة والحب والسياسة في إطار يغلب عليه الطابع الذاتي، وهو طابع فرداني مديني. والطابع الذاتي للكلام الأدبي، مشكلة من مشكلات العربية، فتقاليدها لا ترتبط بالفرادة في السلوك والمبادرة الشخصية. استطاع الجو المشحون بالعاطفة السياسية والاجتماعية الجديدة إبان ستينات القرن المنصرم تعزيز جرأة هؤلاء على الخروج من ثقافة الاقنعة النخبوية التي كانت سائدة، ومن فكرة تكريس أنا القائد الثقافي الأعلم، فكان المعجم اللغوي عندهم لا يأتي من موروث فكري، بل هو يعبّر عن سايكولوجيا الاستجابة الفورية، والصورة في هذه الحالة، تمثيل بصري مرئي مثلما هي انطباع ذهني أو تداعيات تولّدها الكلمات التي تطاول بحيويتها الوجود الواقعي للأشياء. مضى الشعر بعد الترجمات الغربية الى تطوير عاطفته وتقريبها من معجمها الجديد، وكان التغريب أو الغموض سمة من سمات كتابة الحداثة الستينية، فاصبح زمن أدونيس الشعري مؤشراً على هذه الانعطافة، ولكن لا نزار قباني ولا الماغوط التزما مبادئ الحداثة التي اضحت قواعدها ما يشبه الأعراف. كان الماغوط يعمد إلى بلاغة الوضوح، ليصبح جمهوره على مقربة منه وطوع بنانه. جمهور لا يحتاج إلى فراسة كي يدرك الشعر، فهو بسيط وتربطه بكاتبه رغبة البحث عن غرابة الجمال وميلودراميته. الماغوط ابتدع شخصية المهرج الذي يناكد حزنه بالتطاول على أسبابه، وهو يولي لعبة التسلية والخفة والتراشق بالكلام أهمية كبيرة.غير أن شعره لا يمكن احتسابه بمجموعه في هذا الباب، فقصيدته «خيانة» من ديوانه (غرفة بملايين الجدران) على سبيل المثال، تنتظم في شيفرات للتواصل تبدو على جانب من الغموض لقارئها البسيط، ولكنها تفصح عن نسق من التفكير الرمزي بعيد المدى عند الماغوط، وهو يقارب الأليات التي تشتغل فيها قصائد بودلير الوحشية، وسنجد في شغل الماغوط الكثير من القصائد التي تجري على هذا المنوال. قدرة الماغوط على احتواء موضوعه الأدبي كي تهيمن ذاته عليه، هي التي جعلت شعره شخصي الطابع، مع أنه ليس شعراً غزليا. الموضوع السياسي وهو الأثير لديه، يفترض كاتباً جماهيريا يصور الواقع خارج نرجسيته، ولكنه قدم ذاته المغرقة في ذاتيتها، لتصبح حرية تدفقها وديناميتها، وقدرتها على إحداث خلل في توقعات التلقي، هي الأساس في القول. إنه يمسرح نفسه ويضعها في قلب الصورة التي يرسمها للحالة العامة، ليصبح جزءا من الرؤية التي يدخل فيها، وهي في كل احوالها رؤية تشاؤمية. استطاع عبر هذه الستراتيجية إقناع قارئه بمفارقة الحزن المرح وفوبيا الخوف والقلق، لأنها دوافعه لخلق عنصر المباغتة في اللغة وفي الصورة والمعنى. لنصغي اليه وهو يقول في قصيدته «بعد تفكير طويل»: «قولوا لوطني الصغير والجارح كالنمر / إنني أرفع سبابتي كتلميذ/ طالبا الموت أو الرحيل/ ولكن لي بذمته بضعة أناشيد عتيقة/

    من أيام الطفولة/ وأريدها الآن/ لن أصعد قطارا/ ولن أقول وداعا/ ما لم يُعِدْها إلي حرفا حرفا/ ونقطة نقطة./ وإذا كان لايريد أن يراني/ أو يأنف من مجادلتي أمام المارة/ فليخاطبني من وراء جدار/ ليضعها في صُرَّة عتيقة أمام عتبة/ أو وراء شجرة ما/ وأنا أهرع لألتقطها كالكلب/ مادامت كلمة الحرية في لغتي/ على هيئة كرسي صغير للإعدام./ قولوا لهذا التابوت الممدد حتى شواطئ الأطلسي/ إنني لا أملك ثمن المنديل لأرثيه/ من ساحات الرجم في مكة/ إلى قاعات الرقص في غرناطة/ جراح مكسوة بشعر الصدر/ وأوسمة لم يبق منها سوى الخطافات/ الصحارى خالية من الغربان/ البساتين خالية من الزهور/ السجون خالية من الاستغاثات/ الأزقة خالية من المارة / لا شيء غير الغبار/ يعلو ويهبط كثدي المصارع/ فأهربي أيتها الغيوم/ فأرصفة الوطن/ لم تعد جديرة حتى بالوحل». هذه القصيدة تعتمد البرهنة البسيطة كي تنتج معناها، وهي لا تستحوذ على الإعجاب بفعل اللغة، فلغتها عادية، ولكنها تؤدي وظيفتها في نقل الاستعارات والمجازات إلى محاور أليفة وشخصية. فلدينا وطن، مكان مرئي، يتحول ذاتا يساومها الشاعر ويختصر علاقته بها الى حد الشتيمة. وهو في سرديته يشدنا الى مهارته في تقمص دور البطل المخاصم داخل الحبكة التي يصنعها، فهناك ترابط بين التجربة وموضوعها، لأنه يدخل التجربة ويخرج منها ليعاينها من كل الجهات. كلامه النثري أشبه بحديث مقهى، يبدأ بالزعل وينتهي بالنميمة، لهذا هو يترك انطباعا بالتعجب والدهشة والشعور الخفي بالأنس والتطارح الطبيعي للكلام. هو لا يسمو بفكرة الوطن ولا يستحضرها من حافظة الأناشيد، بل يرى الى الوطن على أنه كائن أرضي غير مقدّس، آلامه الشخصية وحرقته تطاوله، بل تتجاوزه بالتعالي (أرصفة الوطن لم تعد جديرة بالوحل).. انه ينتزع اسلحة الشعر التقليدية، بما فيها موسيقاه وأبهة كلامه، دون أن يُشعر القارئ بفعلته، أو باستعراضية تلك الفعلة. شعر الماغوط بقي يحتفظ بالأحاسيس الصبيانية حتى بعد أن شاخ صاحبه، فالتمرد كان يعني لديه العبث بالأشياء وقلب الطاولة على توقعات الرصانة الثقافية، والتباهي دون استعراضية ومنبرية. هو ابن الحارة الذي يطيب له أن يقول إن أصله راعي وبدوي من مدينة السلمية، ولا يجيد رطانة اللغات الاخرى.ولعل تلك الأقوال جنبته التنافس الثقافي، ولكنها لم تجنبه المعارك الشخصية التي خاضها مع أبرز أدباء بلده

    وبينهم أدونيس وسعدالله ونوس. ولكنها جعلت منه ظاهرة تتشابك فيها الثقافة الشعبية بالثقافة «العالمة» كما يطلق على ثقافة النخبة. وكان تعاونه مع دريد لحام في مسرحيات وأفلام انتقادية، خطوة لرفع الحواجز بين المحكي والفصيح. ولقد وجد بينه وبين لحام الكثير من التشابهات. دريد لحام الذي أراد أن يكون شارلي شابلن العرب، بشخصيته التي تصّور الرجل الصغير، بل بهيئته التي تقلد شابلن، كان يشبه الدور الذي ابتدعه الماغوط لنفسه: المهرج والثائر المتمرد معا. فخفة الماغوط في التعامل مع كل شيء هي نفي لفعل الجدّ في الحياة أو هي اقتراب من الشعور بالغربة عن العالم الذي يحرص على تغيره بالثورة، ولعل كلمة الثورة ما تبقىّ لديه من ثقافة الستينات والخمسينات. الطريق إلى الثورة عند الماغوط يبدو حكاية للتسلية، أو استحضار لمجهول لا يدركه الشاعر، فهناك تباعد بين مسلمات هذا القول ونظرة الماغوط المهمومة بعبثية الأشياء، غير أن الماغوط في كل ابتكارات ابتعاده عن الجماعة، يبقى نتاج ذلك الزمن الذي عاشه، ففي واحدة من قصائده التي عنونها «الأعداء» يطل على مشهد من حياته مع الأصدقاء في مكان هو شديد الواقعية: «كنا علماء وصحفيين وسكارى/ نتحدث بأصوات متقطعة/ عن القلق والحرب والغيوم الداعرة/ نترنح ظماءً لقروي غريب/ له غدائر الفرس/ يصرخ بين الأرائك/ ويرفع يده كالمذراة في وجوهنا/ كنا نحتضر/ والشعر جنازة ترافقها الطيور الحمراء الى المنفى».
يعمل...
X