طوفان المعنى وتحولاته في رواية "تحولات الإنسان الذهبي" ل نبيل سليمان..دعد ديب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • طوفان المعنى وتحولاته في رواية "تحولات الإنسان الذهبي" ل نبيل سليمان..دعد ديب


    ‏‎Daad Deeb‎‏ مع ‏‎Daad Deeb‎‏.

    ‏٤ مايو‏ 2022م
    مادتي في مجلة الفيصل
    طوفان المعنى وتحولاته
    في رواية "تحولات الإنسان الذهبي" ل نبيل سليمان
    دعد ديب
    كدأب الشعراء في العهود الماضية على معارضة قصيدة بقصيدة في محاكاة النصوص الخالدة، يأتي نبيل سليمان في روايته الأخيرة "تحولات الإنسان الذهبي" الصادرة عن دار خطوط وظلال لعام 2022 ليعارض الرواية الأولى في التاريخ الإنساني "تحولات الحمار الذهبي" للوكيوس أبوليوس
    الحمار هو الأصل في نص سليمان وقد تحول إلى كائن بشري في حياة أخرى في تورية مضمرة لتحول الإنسان من الحالة الوحشية إلى الأنسنة في فانتازيا سردية تظهر فيها الذاكرة الحمارية على شكل التماعات وتناصات وذكريات غامضة من حياة سابقة جعلته يشعر بالألفة والحبور عند لقاءه بأي شيء يتعلق بذلك الكائن، الأمر الذي جعل السارد يرصد إمكانياته الثقافية كمشروع للعمر كله في جمع وملاحقة ومتابعة كل أمر أو نشاط أو تظاهرة احتفالية أو ثقافية تتعلق بالحمير.
    ومع صدمة القارئ واندهاشه بمقاصد صاحب مدارات الشرق يمضي متنقلًا عبر جغرافيا الأمكنة راصدًا ما قيل وما سيقال عن توأمه الذي تجسد بلبوس حمار في حياة سابقة مما يشعره بتواشج روحي غريب معه، في بانوراما التجوال في المناسبات الأدبية التي تدور حول ذات الموضوع، حيث يحط به الرحال في تركيا مرورًا بالأراضي السورية المحتلة-أنطاكية –لواء اسكندرونة موثقًا لانتمائها السوري ومعيدًا إياها إلى الذاكرة مناقضًا العقليات والقوى المصرة على طمس هويتها وإنكار تاريخها، وبعدها يمضي إلى الكويت والمغرب العربي للاحتفاء بالمزيد من التفاصيل عن أنواع الحمير وأوصافها ومهرجاناتها وطبائعها ومعانيها.
    وفي هذا التنقل بين السيرة الحميرية والسيرة البشرية تنتقل حمولات العمل المعرفية والفكرية والتاريخية ضمن أسلوب التداعي الحر في التنقل عبر الزمن وعبر الحيوات المتعاقبة، بالإضافة لتجاوز البرزخ الفاصل بين الحياة والموت عبر ظهور الشخصيات التي عرفها في طفولته في حاضره كفلاشات تومض بالذاكرة تختزل ذكرى أو موقفًا أو حدثًا أو موقفًا فكريًا أو سياسيًا أو تاريخيًا شكلت معلمًا بارزًا في الوجدان الجمعي استطاع تمريرها عبر تهويمات و هلوسات الذاكرة
    سيرة مزدوجة
    في داخله شخصيتان واحدة طبيعية والأخرى شخصية الحمار وارث كل ما كتب عنه في جموع الأدب، وقد استحضرها عبر تداعيات حضور صنوه الحماري في هيئة ما، مما يذكره بحدث مفصلي سبق مروره معه؛ أو حبيبة بذكرى ما مفرحة أو محزنة؛ أو حالة غدر تنصل منها، أو نكوص عن فعل أقعده الجبن عنه، في رؤية ما بعد حداثية للتقطيع السردي للمواقف والأحداث في مشهدية تتقدم في الزمن وتتأخر وفق حالة التداعي الذهني للبطل ونده المنتمي إلى حياة أخرى في تناوب التنقل بين وعيين وزمنين بما هو منسجم ومتجاوب مع أسلوبية سردية متجددة عبر تشظيها في التنقل بين الواقع والمتخيل الحلمي أو التهويمي، كما أن التداخل بين الأزمان في الماضي والحاضر الأمر الذي سمحت به الطريقة الغرائبية لفانتازبا تداخل العوالم بين البشري والحميري وبين المعقول واللامعقول وبين التاريخي والافتراضي مما يلقي بحمل تشكيل اللوحة النهائية للعمل على عاتق القارئ اللبيب مشركًا إياه في لعبته السردية ليعيد رسم تفاصيل المشهد في ذهنه وفق تفاعله وسويات مداركه، وثمة إضافة سردية مهمة فقد استطاع سليمان أن يحمّل الهامش انزياحًا سرديًا آخر إذ يسرف في إكمال وتتمة حكاية ما في الحواشي مادًا أذرع السرد لتحتل أماكن غير معتادة وليذهب القارئ في تفاصيل التفاصيل في لعبة سردية جديدة ومبتكرة.
    وفي استعراض السارد للخط السيري لغرامياته يوجه الأضواء على الأنساق الثقافية المجتمعية السائدة ففي قريته نيبالين ومع باكورة عشقه الأول "زلفى" يوضح بساطة المجتمع الريفي وتلقائيته، ومع ذلك دائمًا المرأة فيه هي الخاسر الأكبر في العلاقات الاجتماعية فهي التي تحصد نتائجها السلبية ففي نموذج "لوزية" هي التي تدفع الضريبة من جنينها الذي تضطر لإجهاضه وسمعتها التي تلوكها الألسن واضطهاد أخيها المسلح برعونة التشبيح وفجور اللصوص والمرتزقة، ليعرج أيضًا على مجتمع العشائر في الرقة حيث ضحية العشق دماء"أريام" على بلاط شرف القبيلة وتيتم طفلتها الحاملة لوصمة العار التي ورثتها عن أمها، وعلى التوازي تظهر نماذج الأنثى الأخرى المستقلة ماديًا واجتماعيًا من تنتمي إلى بيئة أخرى، تولاي، ايسون؛ ظبية؛ منصورة، أسيل في امتلاك حرية العقل والجسد والسفر الذي تمنحه وتتيحه القوة المادية والمعنوية والمستوى التعليمي المتقدم للمرأة بالإضافة لحاضنة اجتماعية راقية ومتفهمة، وهذا كله لم يمنع من إبراز نرجسية الذكورية الشرقية في مجموع النساء المحيطة والراغبة بالبطل رغم الاحباطات التي تعرض لها في كل من الكويت وتركيا.
    الحمير في السرد
    يحق لنا أن نتساءل لماذا الحمار دون الكائنات اختاره الكاتب بطلًا ظليًا لنصه، أهو لكونه يشابه المواطن العربي الذي يتحمل ويتحمل ويتحمل إلى مالا نهاية، ألانه الصبور الجلود على المشقة والجهد الجسيم، أم للسخرية السوداء من الحمار الضحية حمال الهموم الذي انعموا عليه بلقب الشهيد، احتمالات لا حصر لها تتوافق وتتوائم مع أكثر من فهم ورمز لهذا الخيار.
    وفي هذا الاتكاء على الحمار كحامل للتدفق السردي ما هو إلا تأكيد نبيل سليمان أن العمل السردي اجتهاد معرفي له كل الصلاحية بمد أذرعه إلى سائر القضايا معنيًا بتفاصيلها وأسلوب توظيفها في سياقات الإبداع والصنعة الروائية وهو في أثناء ذلك يقوم بالتركيز على أبرز الشخصيات السياسية الفاعلة والمؤثرة وأهم المفاصل التاريخية التي كثفت أهم الأحداث السياسية التي مرت على المنطقة وليس آخرها الربيع العربي وأحداث الزلزال السوري الذي تعرض بيته أثناءه للاعتداء والتخريب بسرد يزاوج بين السيرة الذاتية والمذكرات والرسائل والتخيل الروائي جامعًا مزيجًا من الحكايا والقصص والأساطير وفيه من الأغاني والأهازيج الشيء الكثير.
    حشد هائل من الأعمال الأدبية التي تتناول موضوعة الحمار فيها، يستحضره صاحب تاريخ العيون المطفاة في هذا العمل بجهد موسوعي ولا أعتقد أن ثمة عمل ذو صلة أغفل عن ذكره في هذا الموضوع من عزيز نيسين في تركيا إلى مؤنس الرزاز من الأردن واحمد رجب من مصر إلى حمار سعيد الفلسطيني في حرب 1948 لإميل حبيبي، وفي رواية العصفورية لغازي القصيبي، حمار قصائد سليم بركات وإلى حمار من الشرق لمحمود السعدني كما يستذكر حوارياته حول الموضوع مع الطيب صالح في المغرب قبيل رحيله وكان قبلًا قد التقى بعبد السلام العجيلي في الرقة، كما يحضر ثرفانتس مع دونكيشوته وحمار صاحبه سانشو في حوارية يستلها من مجلده الكبير الذي يحتفظ به كتحفة أثرية وسواه كثير من الأحداث والمواقف والأفكار التي ينضح به العمل عبر إشارات أحيانًا واستفاضات أحيانًا أخرى.
    نبيل سليمان مولع بالتصنيف والعناوين يتنقل من عنوان إلى عنوان وكأنه مكتبة متنقلة في رواية عبر رؤية موسوعية لا يترك شاردة أو واردة تخدم فكرته أينما وردت كبانوراما تسجيلية للمبدعين الذين مروا على موضوعه من قريب أو بعيد ولمن تعرضوا لهذا النوع من الأدب الذي ساقه على الغالب بلسان المتكلم السارد مرة والراوي العليم المستقل مرة؛ ومرة بلسان تولاي (القمر والشمس) العاشقة والمعشوقة في رسائلها لكارم؛ ومرة على لسان منصورة زوجة صديقه غالي؛ وأخرى بلسان الحمار ما أسماه الحمار الروائي، وهذا التنوع في الأصوات السردية أضاف غنى وثراء في الإضاءة على دواخل الشخصيات وتوضيح أفكارها وانشغالاتها وتاريخها وقد عمد لأسلوب الرسائل المتبادلة كذلك في جمع المزيد من الأخبار والسير وإعطاء اتساع أكبر لنصه بما يتناسب وفق رؤية كل بيئة أو مكان قيض له أن يزوره أو أن يسمع عنه، كما اتبع أسلوب قد تكرر كثيرًا في الأدب وهو العثور على كتابات مجهولة لأبيه مخبأة في مجلد عتيق ولكنه عمد إلى إدغامها بالعوالم الماورائية لتأتي منسجمة مع ذلك التجاور بين الخيال والواقع، كما لا يغيب قاموس الفن التشكيلي عن فهرس مجموعته الحمارية إذ يحضر محمود سعيد مع لوحاته ومارك شاغال وآدم سينيكا ليطعم معماره الروائي بفنون التشكيل ومعانيه ومسترجعًا أركيلوجيا الحفريات الآثارية والرسوم الصخرية للحمار في اليمن التي وثقها باكتشاف ظهورها منذ أكثر من ثلاثين ألف سنة.
    نبيل سليمان الذي حاز مؤخرًا جائزة العويس الثقافية في دورتها السابعة عشر (2020-2021) في حقل القصة والرواية والمسرحية مكللًا تاريخًا لا يستهان بزخمه وحضوره الفاعل في الساحة الأدبية العربية وبعد أكثر من اثني وعشرين رواية وعدد أكبر من الدراسات النقدية والسجالية وعمر حافل بالمنجزات الثقافية والفكرية مازال في جعبته الكثير الكثير ليدهشنا ويمتعنا.


    نزار ديب، Asef Jamol
    محمد القاضي
    • أحييك مقال مدهش يلبي صبر القارئ وجلده
      لكنه مفعم بسرد ابداعي وانزياحات مشوقة في فضائنا المتعب
يعمل...
X