بقلم أ. د. محمود سطوحي
أبريل 4, 2024م
كيف تدفع العاطفة عجلة الفكر؟ ج2
تحدثنا عن قبضة العاطفة، وكيف أنها يمكن أن تؤثر سلبًا في عمل العقل، ويتحدث هذا المقال عن الوجه الآخر للعاطفة الذي يمثل قوة دافعة لحركة عجلة الفكر.
ويجب فهم هذا الوجه الإيجابي للعاطفة الذي نحتاج إليه جميعًا لدفع العملية الفكرية؛ لتصل إلى مرحلة الإزهار والإثمار والإنتاج.
ويجب احترام طبيعة العاطفة وتبجيلها، فهي تؤدي دورًا أساسيًا في حياتنا قد لا يستطيع العقل أبدًا الوفاء به، ولهذا يجب تحرير العاطفة من أي تشويه قد يطرأ عليها لو فرض العقل وصايته الجافة على عمل العاطفة.
قد يهمك أيضًا هل تدفع العاطفة عجلة الفكر؟ ج1
التعاشق بين عمل العاطفة وعمل العقل
وإذا كان للعاطفة مفهوم سامٍ راقٍ، ومفهوم خير، فيجب فهم هذه الدور جيدًا وحمايته من آلية الخطوط المستقيمة التي يتبناها العقل.
فالعاطفة التي نسعى إلى حمايتها وتقويتها هي عاطفة الخير التي تبنى على حب عمل الخير للآخرين، والعاطفة الثانية هي العاطفة الراقية التي تعمل بالتناسق والتوافق مع عمل العقل، وتحاول أن تربط عمل العقل بالإحساس والمردود الطيب حتى تستمر عجلته في الدوران.
فالعاطفة إذن هي من تعطي عمل العقل الوقود، وهي من تربط عمل العقل بمتعة النجاح بعد تحقيق عمله.
العاطفة أيضًا يمكنها اكتشاف ما قد يعجز العقل أحيانًا عن الوصول إليه، فمثلًا عند حكم العقل على جريمة، فإنه قد يصل إلى حد البراءة أو السجن أو حتي الإعدام طبقًا لمقاييس أو خطوات وأدلة منطقية، وقد تكون بعض هذه الأحكام غير سليمة لقصور في أدوات العقل.
لكن العاطفة قد تكتشف براءة المدان بمجرد الإحساس، وإن كانت لا تستطيع إثباته ماديًا، وهذا الإحساس الذي ينتاب العاطفة قد يكون مجهول المصدر، لكنه قد يكون أصدق من الحكم المادي الذي صدر، وهذا الإحساس قد يدفع صاحبه إلى البحث عن لغز جريمة مجهولة المرتكب.
أيضًا إحساسنا الدائم بالتعاطف مع الضعيف هو عاطفة خيرة مطبوعة في النفس البشرية، ويجب الحفاظ عليها أمام جبروت العقل الذي لا يعرف إلا موازين القوي.
وعندما تحدثنا في المقال السابق عن تحرير العقل من قبضة العاطفة إنما كنا نعني قبضة العاطفة المذمومة.
لكن عندما نتحدث في هذا المقال عن تحرير العاطفة من جفاء وصلافة العقل، إنما نتحدث عن العاطفة الحميدة التي تسعى رسالتها إلى نشر ومشاركة الخير للغير؛ لذا فالحفاظ على العاطفة المحمودة أمر حميد ومطلوب.
لذا يحاول هذا المقال استكشاف عمل العقل إذا كان بطيئًا فاتر الإحساس، فهل سيؤثر سلبًا في عمل العاطفة التي تتحرك تحت دفء وتلقائية وسرعة لغة الإحساس.
العاطفة هي طاقة هائلة تحرك حياة الإنسان ووجوده في أي اتجاه، والعقل هو الذي يساعد العاطفة على تحديد الاتجاه السليم، ثم تأتي العاطفة لتتخذ قرار التوجه نحو أي اتجاه.
العلم والعقل هما من اكتشفا وجود طاقة هائلة داخل أنوية الذرات، والعلم هو الذي حدد إمكانية إطلاق هذه الطاقة في أسلحة الدمار الشامل أو في الاستخدام الآمن لهذه الطاقة في الأغراض السلمية، لكن العاطفة هي من حددت التوجه نحو أي المنحيين.
قد يهمك أيضًا العاطفة والزواج في حياة العلماء
دائرة العمل الفكري بين العاطفة والعقل
يتكون العمل الفكري من خليط متداخل من عمل العاطفة وعمل العقل، فيتكون محيط دائرة العمل الفكري من أربعة أرباع متتالية يتداخل فيها العمل العاطفي مع العمل الفكري على النحو الآتي: العاطفة، العقل، العاطفة - العقل.
تبدأ هذا الدائرة بنشاط العاطفة، فالعاطفة هي من يخلق الدافع إلى حركة العقل والعمل الفكري، وكلما كانت هذه العاطفة راقية كان الدافع أقوى.
حتى إذا كانت العاطفة تتوجه نحو النفس والوجود، فإن عاطفة الإنسان نحو نفسه وإثبات وجوده قد تدفعه كثيرًا إلى دخول مضمار العمل العقلي حتى يثبت وجوده.
وفي نهاية الأمر فإن التطور البشري يبدأ من عاطفة لتحقيق أمر مهم أو حلم عام، ثم يعمل العقل على تحقيقه فيظهر للوجود، ثم يتطور أكثر وأكثر إلى عمل نافع أو أداة نافعة تخدم وتطور الحياة البشرية.
إذن، يمثل هذا الفعل النصف الأول من محيط الدائرة التي تبدأ بالربع الأول من نشوء العاطفة وتحفيزها العقل على العمل.
وفي الجزء الثاني يبدأ عمل العقل تباعًا بدافع العاطفة حتى يصل إلى درجة النجاح والإنجاز، وعند هذه تتدخل العاطفة بدور جديد، ووظيفة جديدة.
فهي التي تحس بالنجاح، وتحوله إلى مشاعر من الإشباع النفسي والإحساس بالفرحة والبهجة، ويمثل هذا الربع الثالث من الدائرة، ولا تتوقف الدائرة عند هذا الحد، بل إن عاطفة الفرحة هذه قد تكون حافزًا للعقل على استمرار العمل، فيطور أكثر الموضوع الذي بدأ العمل عليه في الربع الثاني تطويرًا أوسع وأنفع، ويمثل هذا الربع الرابع من الدائرة.
وهكذا تستمر الدائرة في الدوران، إذن، النجاح في الربع الرابع سيعود مرة الأخرى إلى العاطفة في الربع الأول، لكن في غير الوظيفة التي بدأت بها دورة الدائرة.
وهكذا يستمر العمل في الدائرة نفسها أو إنشاء دائرة جديدة لعمل جديد، وهذا يفسر لنا استمرارية عمل النوابغ في أعمالهم الفكرية، وعدم توقفهم بعد تحقيق النجاح في الدائرة الأولى أو نصف الدائرة الأول.
وما قصص نجيب محفوظ المتعددة إلا عدة دوائر متوالية تنتهي بالنجاح الذي يتوج بعاطفة الإحساس بالنجاح، ثم تكون هذه العاطفة منشأ عمل فكري جديد ودائرة أخرى من دوائر العمل الفكري.
إذن، يمكن توصيف العاطفة والعقل في أرباع الدائرة كما يأتي: عاطفة الألم والاحتياج - العمل الفكري الذي يزيل الألم ويلبي الاحتياج - عاطفة الإحساس بالنجاح والمتعة - عمل عقل يطور النجاح في الموضوع نفسه؛ أي الاستمرارية أو توليد أفكار جديدة، وعندما حققت ماري كوري كثيرًا من الاكتشافات العلمية كانت تدور في مثل هذه الدوائر الفكرية.
قد يهمك أيضًا ما العلاقة بين القلب والعقل؟
توظيف العاطفة في خدمة العقل البشري
إذن، لبدء العمل والنشاط الفكري لا بد من وجود دافع عاطفي، وهذا الدافع يمكن إنشاءه من الاحتياج على المستوى الشخصي أو المستوى المجتمعي أو مستوى البشرية والكرة الأرضية.
وهذا الاحتياج مرتبط بوجود مشكلات أو نواقص على هذه المستويات الأربعة، والوعي بها يسهل من خلق الدوافع العاطفية.
ويوجد دافع مشترك على المستوى الشخصي، وهو رغبة أي إنسان في أن يثبت وجوده، ويحس به، هذا غير الخبرات الإنسانية الأخرى التي تختلف من شخص إلى آخر.
فوفاة ثلاثة من أبناء باستير بالحمى التيفودئية خلقت عنده الحافز والدافع كي يتوصل إلى اكتشاف وإنتاج الأمصال، هذا غير الدافع الشخصي الذي يشترك فيه كل الناس، وهو دافع إثبات الوجود وعاطفة الإحساس به.
قد يهمك أيضًا الحياة تحتمل الفوز والخسارة.. فهل هي لعبة شطرنج؟
دور العاطفة في العملية التعليمية والفكرية
وعلى مستوى التعلم يمكننا دائمًا استخدام العاطفة في خلق دافع التعلم، ودائمًا يكون الدافع الشخصي هو العامل المشترك الأعم بين جميع المتعلمين.
ودون أن ندري نستخدم هذه الآلية مع أطفالنا بتحفيزهم أن يثبتوا وجودهم بالتفوق على الآخرين.
ورغم قوة هذا الدافع، لكن قوته ومفعوله قد لا يؤديان في كثير من الحالات إلي النبوغ الفكري، فقد يقتصر أثرهما على تحقيق التفوق الرقمي في الدرجات أو المهارات.
أما الوسيلة الأكثر تأثيرًا في التعلم لا تتوقف فقط على خلق عاطفة أو حافز الاحتياج، لكنها قد تتطور إلى خلق عاطفة حب العلم الذي أريد تعلمه، فهذه العاطفة من الحب ستجعل العلاقة بين العاطفة والعمل العقلي هي علاقة مطلقة؛ أي تتحرك بطلاقة بين العاطفة والعقل، حينها يكون عطاء العمل العقلي أيسر وأوفر.
قد يهمك أيضًا ثلاث طرق لامتلاك مشاعرك بدلًا من أن تمتلكك
والسؤال هو: كيف نخلق علاقة حب بين المادة التعليمية والمتعلم؟
توجد وسائل وآليات لخلق هذه العلاقة:
أولها
قد يكون إضفاء عنصر الجمال علي المادة التعليمية بالوسائل الإيضاحية الجذابة وبسلاسة اللغة المستخدمة.
ثانيها
تحسين درجة التواصل بين المادة العلمية والمتعلم بربط المادة العلمية بحياة المتعلم، فالتواصل الحميم بين المتعلم والمادة العلمية يخلق نوعًا من الحب المستديم.
ثالثها
ربط التعلم بطموح المتعلم، فيشعر دائمًا أن رحلته تقف في نهاية رحلته في الحياة.
رابعها
إثارة فضول المتعلم كي يستكشف المادة العلمية بنفسه، وأن يديم البحث والتفكير.
خامسها
ربط المادة العلمية بسلسلة من الدوافع والحوافز التي تشعره بالسعادة نتيجة مجهوده التحصيلي، فيرتبط عنده التحصيل بالسعادة، ما يجعله يكرره، هذا الحب مع المادة العلمية يصب في مصلحة العملية التعليمية والمتعلم، ما يضمن عمق العملية واستمراريتها.
قد يهمك أيضًا عندما تحلّ عليــك لعنـــة الاختلاف
العاطفة والتخيل
وبما أن النشاط العاطفي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعملية التخيل التي تبتعد قليلًا عن منطقة عمليات العملية العقلية التي تعتمد على الحقيقة المجردة، وهي حقيقة واحدة لا تحتمل التنوع، على عكس العملية التخيلية التي تجلب صورًا وأحداثًا افتراضية للمنظومة الفكرية نفسها، فإن العاطفة يمكن في النهاية أن تثري العملية الفكرية أو التعليمية بإدخال صورة وأحداث افتراضية إلى مسرح العمليات الفكرية.
ما يوسع نطاقه ويجعله نموذجًا موضوعيًا مناسبًا للعملية الفكرية، واتخاذ القرار المناسب بين أبدال عدة صحيحة منطقيًا مع وجود اختلافات دقيقة بينها، ما يزيد من احتمالية الصواب ومن دقة القرار.
وبما أن النشاط العاطفي مرتبط بنشاط وتغير هرموني، فإن ربط النشاط العاطفي بالنشاط الفكري يضفي على الأخير كثيرًا من الحيوية والفاعلية.
وفي النهاية، فإن إدخال مكون الخيال إلى مسرح العمليات الفكرية يؤدي إلى أوج النشاط والفاعلية، وهذا الارتباط بين الهرمونات والعاطفة هو الذي خلق للمنبهات مثل الشاي والقهوة دورًا في تنشيط العملية الفكرية بالتأثير الكيميائي على النشاط الهرموني الذي يحفز الخيال، وبذلك يحفز العملية الفكرية.
بقلم أ. د. محمود سطوحي
الكاتب نشأ وتربي في مدينة السويس الباسلة الواقعة علي البحر الأحمر بحمهورية مصر العربية حيث كان يستمتع يوميا بمشاهدة أمواج البحر ومن خلفها سماء صافية وآفاق شاسعة وما تتمخض عنه من سفن تأتي من الأفق البعيد المجهول...فكانت البيئة التي عاش فيها موحية وملهمة له كي يحاول المساهمة في إكتشاف هذا العالم فنهل من الثقافة الأدبية والعلمية المتوافرة في ذلك الزمن البعيد والتي كانت ذاخرة بثقافات غنية تمخضت عنها حركة التنوير المصرية والعربية في بداية ومنتصف القرن العشرين.....وعاصر الكاتب أربع حروب 1948و 1956و 1967 و1973 فكانت الأولي هو موعد ولادته والثانية طفولته والثالثة بداية الشباب والرابعة عنفوان الشباب فاحتلت قضايا الوطن مكنون وجدانه. وفي سنوات بداية الشباب تنازعته الإهتمامات العلمية وفيضان الإبداع الأدبي ولكنه قرر أن يبقي علي الإثنين علي أن تصبح مهنته العلم وعاطفته هي الأدب بحيث يبق العلم علي السطح الظاهر ويبقي الأدب والفلسفة في الباطن والوجدان...وبحكم العمل في ميدان العلم كباحث وأستاذ في علم الكيمياء الحيوية كان الوقت يستهلك تماما في النشاط العلمي ولكن الأدب والفلسفة والقضايا العامة يحتل الوجدان دائما كبركان أو نبع ماء أرضي تحت السطح الساخن..لذا عندما سنحت الفرصة للكتابة كان لديه الكثير لما يريد البوح به لأقرانه ولتلاميذه وللأجيال القادمة..فقد بدأ ينشر مقالات كثيرة علي صفحات التواصل الإجتماعي علها تنقل الأفكار الدفينة التي عاشت غالبا تحت السطح تبحث عن الفرصة المناسبة للتدفق كي تتفاعل مع العقول الجميلة في بلادنا الجميلة... الكاتب هو أستاذ الكيمياء الحيوية بجامعة الزقازيق ويدين بالفضل لجامعة عين شمس التي إحتضنته طالبا وأهلته لهذا الدور بكثير من الإعداد والتوجية..