بقلم أ. د. محمود سطوحي
أبريل 4, 2024م
, 11:38 ص أبريل 4, 2024, 11:40 ص
هل تدفع العاطفة عجلة الفكر؟ ج1
أعجبني حفظ مشاركة
تحدثنا عن قبضة العاطفة، وكيف من الممكن أن تؤثر سلبًا في عمل العقل، ويتحدث هذا المقال عن الوجه الآخر للعاطفة الذي يمثل قوة دافعة لحركة عجلة الفكر.
ويجب فهم هذا الوجه الإيجابي للعاطفة الذي نحتاج إليه جميعًا لدفع العملية الفكرية لتصل إلى مرحلة الإزهار والإثمار والإنتاج.
ويجب احترام طبيعة العاطفة وتبجيلها، فهي تؤدي دورًا أساسيًا في حياتنا، قد لا يستطيع العقل أبدًا الوفاء بها.
اقرأ أيضًا تحرير العقل من قبضة العاطفة ج1
الجمع بين العاطفة والعقل
ولهذا يجب تحرير العاطفة من أي تشويه قد يطرأ عليها لو فرض العقل وصايته الجافة على عمل العاطفة.
وأشرنا من قبل إلى أن العاطفة هي مجمع من رقيق المشاعر ورهيف الإحساس، في حين العقل هو مركز قياس وحساب الأشياء ووزنها بالقسطاس.
فالعقل يعمل بلا إحساس وبلا ارتباط، وبعيدًا عن لغة الوجدان؛ لذا قد نجد كثيرًا من استنتاجات العقل التي قد تؤذي المشاعر، وقد تقود إلى الإحساس بالخواء والجفاء والتجهم.
فالعالم الذي يعمل ليل نهار في مجال العلم والأرقام قد يحس بحياته جوفاء فارغة؛ لذا كان يحرص (آينشتين) عالم الفيزياء المشهور على التمتع بالموسيقى والأدب حتى يستطيع الاستمرار في عمله العقلاني لطرد الإحساس بالجفاء والوحشة.
وكان يقول إن قراءته الأدب قد تفيده أحيانًا أكثر من قراءاته في مجال تخصصه، وأن كثيرًا من العلماء يتحولون إلى أدباء في نهاية المسار كأنهم يكملون نقصًا أحسوه في عملهم الفكري الصرف، وتوجد أمثلة كثيرة منها (برتراند رسل) علم الرياضيات المشهور الذي نال جائزة نوبل في الأدب وليس الرياضيات، ولا ننسى كتابات أحمد زويل الأدبية في نهاية حياته بعد أن حقق جائزة نوبل في الكيمياء.
ورغم أن الفلسفة هي عمل فكري وعقلاني بحت، لكن كثيرًا من الفلاسفة يتحولون إلى العمل الأدبي جنبًا إلى جنب مع العمل الفلسفي كأنه مكمل له، وفي هذا الصدد نتذكر الفيلسوف المشهور (سارتر) صاحب فلسفة الوجودية الذي كانت له أعمال أدبية كثيرة تتحدث عن العاطفة أكثر مما تتحدث عن العقل.
اقرأ أيضًا من قبطان سفينة الحياة.. العقل أم العاطفة؟
عيوب الاستخدام المفرط للعاطفة
وكذا نتذكر الكتابات الأدبية للفيلسوف المصري الكبير زكي نجيب محمود، وتصب محصلة هذه الخبرات الإنسانية نحو استنتاج حازم، وهو أن العاطفة كيان حي ضروري للإنسان، ولعمل العقل ذاته شريطة ألا تتدخل في عمله، فيقتصر عملها على تحفيز العقل نحو العمل الفكري ثم الحفاظ على استمراريته في هذا الإطار.
توجد كثير من الموضوعات التي يطرقها العقل، وقد تكون النتيجة مخيبة للآمال، فمثلًا قد يكون نتيجة الحكم على بعض المخالفين بالإدانة الدامغة لما هو ثابت في الأوراق والأحداث المسجلة، وقد تشعر العاطفة بوجود ظلم وقع على المدانين، ربما نتيجة قصور في المعلومات أو الإجراءات.
فيتعاطف البعض مع المدانين لإحساسهم بالظلم الواقع عليهم بسبب عدم توافر المعلومات الضرورية التي يعتمد عليها العقل في حكمه.
ورغم إحساس العاطفة، لكنها لا تستطيع رد المظالم، إنما يقتصر دورها على تحفيز العقل لإعادة البحث والتحليل وصولًا إلى أحكام جديدة.
وعندما توجد ظاهرة الظلم في المجتمع فإن العقل لا يستطيع الوقوف أمامها، إنما العاطفة هي من تستطيع الإحساس بالظلم، ثم تتعاطف مع المظلوم أو الضعيف حتى ينال حقوقه أو ترد مظالمه.
اقرأ أيضًا الإدارة الذكية لمزايا العقل ومحاسن العاطفة
هل يجب أن تتحرر العاطفة من تأثير العقل وآلياته الحادة؟
البعض ينادي أحيانًا بأن تتحرر العاطفة من آليات عمل العقل التي تتصف بالبرود وغياب المشاعر وبطء الفعل وحدية القرار الذي قد يبعد عن المرونة أحيانًا، وعن جماليات العمل العاطفي أحيانًا أخرى.
وهذه الخصائص لعمل العقل قد تفسد الجمال الطبيعي لعمل العاطفة التي ترتبط بالتشويق والإثارة؛ لأنها لا تزال لغزًا مجهولًا مثيرًا بالنسبة للإنسان رغم التاريخ البشري الطويل وتعدد الأكوان.
بالقطع في الأمور العاطفية نحتاج إلى التحرر قليلًا من آليات عمل العقل، فمثلًا العقل قد يعطي جم العطاء، لكنه يحسب كل شيء بالمقاس، ويتوقع رد الفعل بالقياس نفسه، لكن عاطفة الحب تعطي بلا حدود، ولا تنتظر مردودًا.
بالقطع في بداية الحب يجب أن يطمئن كل طرف إلى أصالة وصدق علاقة الحب، فإذا ثبت وجودها، وتأصلت وترسخت وجب على الطرفين العطاء بلا حدود أو حساب، وهجر لغة الأرقام.
وبالتأكيد قد تتعرض علاقة الحب إلى نوبات من الشك والفتور تتبادل مع نوبات من السعادة والحبور، ولكيلا تغرق العلاقة في تلك العواصف والمتاهات على العاطفة أن تستشير العقل؛ لتأمين التوازن العاطفي عبر النجاحات والإخفاقات، فعندما يحس أحد طرفي العلاقة بميل الميزان قد تتهدد مصداقية العاطفة وتتغير الألوان.
إذن، تحرر العاطفة من إطار العقل الضيق قد يساعدها على الانطلاق في رحابة الحياة شاسعة الآفاق.
وينعكس هذا أيضًا على العقل إيجابًا إذا حاول أن يقرأ ويفهم ويعلم ويحترم اللغة التي تتكلم بها العاطفة، وأن يستخدم أدواته في تحليل واكتشاف أبعادها الخبيئة ودوافعها أو محركاتها غير المرئية، فالعاطفة إذن لا تزال منطقةً بكرًا تشتاق إلى الكشف العلمي الخصيب.
اقرأ أيضًا تحرير العقل من قبضة العاطفة ج2
أنواع العاطفة
أولًا: عاطفة الأنا وعاطفة الخير
لا يوجد حتى الآن وصف دقيق للعاطفة وآليات عملها، لكن يمكن القول إن العاطفة هي طاقة هائلة توجه الإنسان للعمل والسعي.
وهذه الطاقة قد تدفع الإنسان إلى العمل في اتجاه نفسه أو في اتجاه الغير؛ أي إن العمل الأناني لمصلحة الفرد أو لعمل الخير لمصلحة الجماعة.
ويمكن أن نطلق على الحالة الأولى عاطفة الأنانية مقابل عاطفة حب الخير أو الخير للجميع، أما لو توجهت العاطفة نحو الآخر، فتكون رسالتها حب الآخر ونشر الخير للجميع لكانت عاطفة محمودة.
ثانيًا: العاطفة الراقية والعاطفة المتدنية
ثم إن العاطفة عمياء إذا عملت بمعزل عن نور العقل، لكنها تصبح بصيرة إذا اهتدت وتواعدت مع عمل العقل.
وبذلك تفترق العاطفة إلى قسمين؛ القسم الأول هو العاطفة التي تعمل باسترشاد وهداية العقل، ويمكن أن نطلق عليها العاطفة الراقية أو العاطفة السامية.
وتوجد عاطفة أخرى تعمل في غياب تام للعقل، فتصبح فريسة الغريزة، وهي الصورة الأولى للعاطفة التي توجد في الحيوان، وتطورت في الإنسان إلى صورة العاطفة.
أو يمكن أن تقع العاطفة بغياب العقل في الاستسلام إلى الخرافات والأوهام، وكلها إرث بشري من مراحل تطور سابقة في حياة الإنسان، لكنها تبرز على السطح إذا كان فعل أو أثر العقل باهتًا أو خافتًا؛ لذا يمكن أن نطلق على هذا القسم العاطفة المتدنية أو غير المتحضرة.
إذن، يمكن تصنيف العاطفة إلى قسمين؛ القسم الأول عاطفة دنيا، وتعمل تلقائيًا وغالبًا بلا وعي استجابة لخبرات وذكريات مخزونة أو موروثة، وعاطفة أخرى عليا تعمل إلى جوار العقل وتدعم عمله.
اقرأ أيضًا دور العقل والعاطفة في تحقيق التوازن في حياة الإنسان
التشابك والتناغم بين العقل والعاطفة
لكن قد يطرأ سؤال: لماذا نجد بعض الأشخاص المتعلمين يتسمون بعاطفة متدنية، والإجابة هي: إن هذا الشخص رغم أنه مارس العمل العقلاني في مجال تعليمه حتى وصل إلى أعلى الدرجات، لكنه لم يستخدم عقله أبدًا وهو يتفاعل مع الأمور والقضايا التي تواجه العاطفة.
وبذلك ترك عاطفته إما فريسة لغرائزه وإما نهبًا لتأثير الخرافات وإما المغالطات المجتمعية السائدة أحيانًا.
إذن، العبرة ليست في نشاط العقل في حد ذاته، لكن في كيفية عمل هذا النشاط في خدمة القضايا العاطفية الوجودية التي تتحكم بحياة الإنسان.
ويوجد تشابك بين عمل العقل والعاطفة الراقية، فمثلًا الاهتمامات العلمية لشخص يعمل في مجال العلم ليست عملًا عقلانيًا صرفًا، بل هي مرتبطة بعمل العاطفة الراقية.
فعندما ينجح العقل في عمل ما فإن العاطفة هي التي تحس بالنجاح، وهي التي توصل للإنسان متعة النجاح، وليس العقل، فالعقل بعيد عن الأحاسيس وعن المتعة.
إذن، ارتباط العاطفة الراقية بعمل العقل يعطي عمل العقل قوة دافعة ويحدد اتجاهه، واستجابة العقل إلى هذه العاطفة الراقية أو عاطفة حب الخير هي توجه محمود.
فعندما توفي أبناء لويس باستير الثلاثة بحمى التيفوئيد فإن العاطفة التي تولدت في وجدانه هي عاطفة الحزن نحو أبنائه التي تحولت إلى عاطفة حب الخير نحو البشرية، فدفعته إلى أن يعمل عقله وفكره من أجل عمل يفيد البشرية.
وربما كان هذا الدافع وراء اكتشافات باستير وتوصله إلى ابتكار الأمصال التي لا تزال تعمل في حماية البشرية.
إذن، عاطفة حب الخير والعاطفة العليا التي تدعم عمل العقل وتربطه بحركيات وحياة الإنسان هو إطار يجب الحفاظ عليه، ويجب عدم القضاء على العاطفة بحجة أنها تؤثر سلبًا في عمل العقل الموضوعي.
لذا يجب التأكيد على أن العاطفة التي تؤثر سلبًا في عمل العقل هي العاطفة الأنوية أو العاطفة المتدنية.
ويمكن القول إن جميع من نجحوا في أعمالهم العقلية كانت تقف في خلفياتهم الوجدانية عواطف عليا وعواطف حب خير جياشة، تدفع وتحفز العمل العقلي، وتضمن استمراريته، وتجعله مصدر متعة وبهجة للإنسان، فيكد أكثر ويجتهد.
بقلم أ. د. محمود سطوحي
الكاتب نشأ وتربي في مدينة السويس الباسلة الواقعة علي البحر الأحمر بحمهورية مصر العربية حيث كان يستمتع يوميا بمشاهدة أمواج البحر ومن خلفها سماء صافية وآفاق شاسعة وما تتمخض عنه من سفن تأتي من الأفق البعيد المجهول...فكانت البيئة التي عاش فيها موحية وملهمة له كي يحاول المساهمة في إكتشاف هذا العالم فنهل من الثقافة الأدبية والعلمية المتوافرة في ذلك الزمن البعيد والتي كانت ذاخرة بثقافات غنية تمخضت عنها حركة التنوير المصرية والعربية في بداية ومنتصف القرن العشرين.....وعاصر الكاتب أربع حروب 1948و 1956و 1967 و1973 فكانت الأولي هو موعد ولادته والثانية طفولته والثالثة بداية الشباب والرابعة عنفوان الشباب فاحتلت قضايا الوطن مكنون وجدانه. وفي سنوات بداية الشباب تنازعته الإهتمامات العلمية وفيضان الإبداع الأدبي ولكنه قرر أن يبقي علي الإثنين علي أن تصبح مهنته العلم وعاطفته هي الأدب بحيث يبق العلم علي السطح الظاهر ويبقي الأدب والفلسفة في الباطن والوجدان...وبحكم العمل في ميدان العلم كباحث وأستاذ في علم الكيمياء الحيوية كان الوقت يستهلك تماما في النشاط العلمي ولكن الأدب والفلسفة والقضايا العامة يحتل الوجدان دائما كبركان أو نبع ماء أرضي تحت السطح الساخن..لذا عندما سنحت الفرصة للكتابة كان لديه الكثير لما يريد البوح به لأقرانه ولتلاميذه وللأجيال القادمة..فقد بدأ ينشر مقالات كثيرة علي صفحات التواصل الإجتماعي علها تنقل الأفكار الدفينة التي عاشت غالبا تحت السطح تبحث عن الفرصة المناسبة للتدفق كي تتفاعل مع العقول الجميلة في بلادنا الجميلة... الكاتب هو أستاذ الكيمياء الحيوية بجامعة الزقازيق ويدين بالفضل لجامعة عين شمس التي إحتضنته طالبا وأهلته لهذا الدور بكثير من الإعداد والتوجية..
ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو