الحياة المقبلة The Life Ahead
عودة أيقونة السينما " صوفيا لورين " الى التمثيل و الظهور على الشاشة و هي في سن السادسة و الثمانين ، عُدّت ــ بحد ذاتها ــ حدثاً سينمائياً بإمتياز و هي تمثل دور البطولة في فيلم ( الحياة المقبلة ) ، إنتاج 2020 ، الذي يمكن إعتباره تحية تبجيل من إبنها مخرج الفيلم " إدواردو بونتي " لوالدته ، التي لم تعد أيقونة للسينما العالمية فحسب بل تعويذة للسينما الإيطالية أيضاً .
سيناريو الفيلم الذي كتبه " أوغو تشيتي " و " إدواردو بونتي " نفسه مقتبسٌ عن رواية ( الحياة قبلنا The Life Before Us ) للكاتب و الدبلوماسي الفرنسي " رومان غاري " ( 1914 ــ 1980 ) الذي كان يكتب باللغتين الفرنسية و الإنجليزية ، و قد تم إخراج هذه الرواية سينمائياً عام 1977 ، بعنوان ( مدام روزا ) من بطولة الممثلة الفرنسية " سيمون سنيوريه " ( 1921 ــ 1985 ) .
يمثل فيلم ( الحياة المقبلة ) سيرةً ذاتية متداخلة لشخصيتين إثنتين معاً ، هما السيدة اليهودية الناجية من معسكر أوشفيتز النازي " مدام روزا " ( صوفيا لورين ) و الصبي السنغالي المسلم " محمد " ( إبراهيم جوي ، و هو ممثل بارع و سيكون له مستقبلٌ في السينما ) ، الذي تؤويه في بيتها مقابل 750 يورو ، يدفعها لها الطبيب النفساني دكتور " كوين " ( ريناتو كاربنتيري ) ، و هذا الصبي يروي سيرته على لسانه بنفسه ، فيما يتولى الفيلم رواية سيرة " مدام روزا " .
يتسكع الصبي في شوارع المدينه ، يسرق ، و يقوم بأي عمل طائش لصبي بلا رعاية أهلية ، حتى أنه يتجه الى ترويج المخدرات لأشخاص يعرفونه و يتعاملون معه . فتضطر " مدام روزا " الى أن تطلب من السيد " هاميل " ( لعب دوره الممثل الإيراني " باباك كريمي " ) أن يشغله لديه في محله ، و هو رجل يبدو أنه عربي مسلم ، بدليل حديثه عن القرآن و وضعه آية قرانية في محله مكتوبة بخط الثلث و بوستراً للفيلم العربي ( في بيتنا رجل ) ، و هو من إنتاج عام 1961 ، بطولة " عمر الشريف " و " زبيدة ثروت " و " رشدي أباظة " ، أو أن السيد " هاميل " إيراني مسلم بدليل عمله في تجارة السجاد .
أما الصبي " مومو " فليس مهتماً بإسمه ( محمد ) ، بل يرفض أن يُنادى به ، بذريعة أنه إسمٌ طويل ، و يفضل عليه إسم ( مومو ) ، و يخبر السيد " هاميل " بأنه لا يعرف إن كان مسلماً . و هذا الصبي ذو شخصية مستقلة ، فطنٌ و حاد الذكاء ، و جريء ، و يسأل أسئلة واقعية . و على الرغم من مشاكساته إلا أنه واقعي في تفكيره و في سلوكه ، و تقوده واقعيته و يقوده سلوكه إلى أن يدرك حقيقة الواقع و يفهم معنى الحياة و أن يتلمس نسيج العلاقة الإنسانية ، ما يدفع دموع المشاهد الى النزول ازاء أكثر من مشهد .
توقفت " صوفيا لورين " عن التمثيل " قبل عشر سنوات من تمثيلها هذا الفيلم ، و كان آخر فيلم لها هو فيلم ( الصوت الإنساني ) الذي هو من إخراج إبنها " إدواردو بونتي " أيضاً ، و يصور تداعيات إمرأة عاشقة تعيش حالة الفقد و وهم عودة الحبيب بعد الحرب العالمية الثانية .
و هذه المرة تعود الى التمثيل بقوة و بتحدٍ ، على الرغم من تقدمها في السن ( 86 عاماً ) ، و كأنها تستعيد مجدها السابق ، مجد " صوفيا لورين " التي خطفت جائزة أوسكار أفضل ممثلة عام 1962 عن دورها في فيلم ( إمرأتان ) الذي تدور أحداثه أثناء الحرب العالمية الثانية و المقتبس عن رواية بذات العنوان للروائي الإيطالي " البرتو مورافيا " ، و هو من إخراج " فيتوريو دي سيتشا " ، و عن الفيلم إياه حصدت " صوفيا لورين " جوائز مهرجانات ( كان ) و ( فينيسيا ) و ( برلين ) .
و " صوفيا لورين " كانت قد تقدمت الى مسابقة ملكة جمال إيطاليا عام 1950 . في ذلك الوقت كانت في السادسة عشرة من عمرها ، و كان منتج الأفلام الإيطالي " كارلو بونتي " عضو لجنة التحكيم ، و هو الذي اُخذ بجمالها و سحر فتنها ، فطلق زوجته " جوليانا " ليتزوجها ، فتبدأ إنطلاقتها السينمائية من إيطاليا . و من ذلك الزواج الوحيد ، بالنسبة لـ " صوفيا " ، أنجبت إبنيهما " كارلو بونتي الإبن " و " إدواردو بونتي " الذي يبدو أنه مصممٌ على تخليد مسيرة والدته .. من خلال إخراجه لأفلام لها في هذه السنوات المتقدمة من عمرها .
كلا الفيلمين اللذين أخرجهما " إدواردو بونتي " تظهر فيهما بطلتهما ، والدته " صوفيا لورين " و هي تعاني من تداعيات الحرب العالمية الثانية ، على الرغم من إختلاف موضوعَي الفيلمين . في فيلم ( الصوت الإنساني ) تظهر في دور عاشقة فقدت حبيبها كضحية للحرب ، ولكنها تتوهم عودته ، فلا تكف عن استخدام الهاتف في مكالمات وهمية ، توهم بها نفسها ، على أن الحبيب على وشك العودة اليوم أو غداً ، حتى أنها ــ في أحد المشاهد ــ تطلب من عاملة منزلها طبخ الوجبة التي يحبها .
في الفيلم الجديد ( الحياة المقبلة ) يُظهِرها المخرج ( إبنها ) في دور الضحية اليائسة من عودة أي غائب ، لأنها هي نفسها دخلت في دور الغياب . لذلك فهي تلوذ بالقبو ، لتعيش حالة من الصفاء و هي تحاول التخلص من كوابيس معسكر ( أوشفيتز ) النازي الذي نجت منه .
فيما تذكّرنا قصة الصبي " مومو " بحكاية المومس في رواية ( الطاحونة الحمراء ) بطريقة معكوسة ، و هي رواية شهيرة لكاتبها الفرنسي " كزافييه دي مونتبان " ( 1823 ــ 1902 ) ، ففي تلك الرواية يطلب الزوج من زوجته التوقف عن تلبية طلبات ممارسة الجنس مع زبائنها الكثر خوفاً على صحتها ، فيما تشير حكاية " مومو " الى أن أبيه كان قد قتل والدته بسبب إمتناعها عن أستقبال زبائنها .. و كان " مومو " في السادسة من عمره حين قُتلت والدته .
و نحن نشاهد فيلم ( الحياة المقبلة ) يبرز أمامنا سؤال و يظل يتنامى في أذهاننا طوال المشاهدة : هل نحن نتابع سيرة ( مدام روزا ) التي تقترب من المحطة الأخيرة من حياتها ، كما يوصلنا إليها الفيلم ؟ أم نحن نقرأ سيرة " صوفيا لورين " نفسها و هي في السادسة و الثمانين من عمرها ( أثناء تصوير الفيلم ) و تجهد في أن تتحرك أمام الكاميرا متحدية ً الزمن لتقدم لنا شخصية تختلف عن جميع أدوارها طوال أكثر من نصف قرن ؟
لا يستطيع المشاهد المثقف أو المشاهد المتابع أن يتابع أحداث هذا الفيلم دون أن يتفرس في " صوفيا لورين " نفسها أكثر من متابعته لتصرفات و حركات " مدام روزا " ، ذلك أن " لورين " تحضر في هذا الفيلم بكل بهائها الجمالي و تاريخها السينمائي ، حتى ليبدو أن الفيلم يتحدث عن سيرتها هي و ليس سيرة " روزا " حين تطغى شخصية تلك الممثلة الجميلة الفارعة ذات الحضور السينمائي الذي إختصر الجمال الإيطالي في أنثى إسمها " صوفيا لورين " و هي الآن لا تسيطر سيطرة كاملة على حركة جسدها و لا تستطيع المشي دون الإستناد الى الحائط أو الى مسند ما و قد وهن هذا الجسد و قضمت الشيخوخة ملامح ذلك الجمال الصافي ليستقر أثره بين أخاديد تجاعيد تنبئ من لا يعرف " صوفيا لورين " أن هذه الممثلة كانت من أجمل جميلات القرن العشرين .
فيلم ( الحياة المقبلة ) ليس فيلماً إنسانياً حسب ، بل هو فيلم موجعٌ ، فيلمٌ مدروس بعناية من جميع جوانبه الأدبية و السينمائية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
عودة أيقونة السينما " صوفيا لورين " الى التمثيل و الظهور على الشاشة و هي في سن السادسة و الثمانين ، عُدّت ــ بحد ذاتها ــ حدثاً سينمائياً بإمتياز و هي تمثل دور البطولة في فيلم ( الحياة المقبلة ) ، إنتاج 2020 ، الذي يمكن إعتباره تحية تبجيل من إبنها مخرج الفيلم " إدواردو بونتي " لوالدته ، التي لم تعد أيقونة للسينما العالمية فحسب بل تعويذة للسينما الإيطالية أيضاً .
سيناريو الفيلم الذي كتبه " أوغو تشيتي " و " إدواردو بونتي " نفسه مقتبسٌ عن رواية ( الحياة قبلنا The Life Before Us ) للكاتب و الدبلوماسي الفرنسي " رومان غاري " ( 1914 ــ 1980 ) الذي كان يكتب باللغتين الفرنسية و الإنجليزية ، و قد تم إخراج هذه الرواية سينمائياً عام 1977 ، بعنوان ( مدام روزا ) من بطولة الممثلة الفرنسية " سيمون سنيوريه " ( 1921 ــ 1985 ) .
يمثل فيلم ( الحياة المقبلة ) سيرةً ذاتية متداخلة لشخصيتين إثنتين معاً ، هما السيدة اليهودية الناجية من معسكر أوشفيتز النازي " مدام روزا " ( صوفيا لورين ) و الصبي السنغالي المسلم " محمد " ( إبراهيم جوي ، و هو ممثل بارع و سيكون له مستقبلٌ في السينما ) ، الذي تؤويه في بيتها مقابل 750 يورو ، يدفعها لها الطبيب النفساني دكتور " كوين " ( ريناتو كاربنتيري ) ، و هذا الصبي يروي سيرته على لسانه بنفسه ، فيما يتولى الفيلم رواية سيرة " مدام روزا " .
يتسكع الصبي في شوارع المدينه ، يسرق ، و يقوم بأي عمل طائش لصبي بلا رعاية أهلية ، حتى أنه يتجه الى ترويج المخدرات لأشخاص يعرفونه و يتعاملون معه . فتضطر " مدام روزا " الى أن تطلب من السيد " هاميل " ( لعب دوره الممثل الإيراني " باباك كريمي " ) أن يشغله لديه في محله ، و هو رجل يبدو أنه عربي مسلم ، بدليل حديثه عن القرآن و وضعه آية قرانية في محله مكتوبة بخط الثلث و بوستراً للفيلم العربي ( في بيتنا رجل ) ، و هو من إنتاج عام 1961 ، بطولة " عمر الشريف " و " زبيدة ثروت " و " رشدي أباظة " ، أو أن السيد " هاميل " إيراني مسلم بدليل عمله في تجارة السجاد .
أما الصبي " مومو " فليس مهتماً بإسمه ( محمد ) ، بل يرفض أن يُنادى به ، بذريعة أنه إسمٌ طويل ، و يفضل عليه إسم ( مومو ) ، و يخبر السيد " هاميل " بأنه لا يعرف إن كان مسلماً . و هذا الصبي ذو شخصية مستقلة ، فطنٌ و حاد الذكاء ، و جريء ، و يسأل أسئلة واقعية . و على الرغم من مشاكساته إلا أنه واقعي في تفكيره و في سلوكه ، و تقوده واقعيته و يقوده سلوكه إلى أن يدرك حقيقة الواقع و يفهم معنى الحياة و أن يتلمس نسيج العلاقة الإنسانية ، ما يدفع دموع المشاهد الى النزول ازاء أكثر من مشهد .
توقفت " صوفيا لورين " عن التمثيل " قبل عشر سنوات من تمثيلها هذا الفيلم ، و كان آخر فيلم لها هو فيلم ( الصوت الإنساني ) الذي هو من إخراج إبنها " إدواردو بونتي " أيضاً ، و يصور تداعيات إمرأة عاشقة تعيش حالة الفقد و وهم عودة الحبيب بعد الحرب العالمية الثانية .
و هذه المرة تعود الى التمثيل بقوة و بتحدٍ ، على الرغم من تقدمها في السن ( 86 عاماً ) ، و كأنها تستعيد مجدها السابق ، مجد " صوفيا لورين " التي خطفت جائزة أوسكار أفضل ممثلة عام 1962 عن دورها في فيلم ( إمرأتان ) الذي تدور أحداثه أثناء الحرب العالمية الثانية و المقتبس عن رواية بذات العنوان للروائي الإيطالي " البرتو مورافيا " ، و هو من إخراج " فيتوريو دي سيتشا " ، و عن الفيلم إياه حصدت " صوفيا لورين " جوائز مهرجانات ( كان ) و ( فينيسيا ) و ( برلين ) .
و " صوفيا لورين " كانت قد تقدمت الى مسابقة ملكة جمال إيطاليا عام 1950 . في ذلك الوقت كانت في السادسة عشرة من عمرها ، و كان منتج الأفلام الإيطالي " كارلو بونتي " عضو لجنة التحكيم ، و هو الذي اُخذ بجمالها و سحر فتنها ، فطلق زوجته " جوليانا " ليتزوجها ، فتبدأ إنطلاقتها السينمائية من إيطاليا . و من ذلك الزواج الوحيد ، بالنسبة لـ " صوفيا " ، أنجبت إبنيهما " كارلو بونتي الإبن " و " إدواردو بونتي " الذي يبدو أنه مصممٌ على تخليد مسيرة والدته .. من خلال إخراجه لأفلام لها في هذه السنوات المتقدمة من عمرها .
كلا الفيلمين اللذين أخرجهما " إدواردو بونتي " تظهر فيهما بطلتهما ، والدته " صوفيا لورين " و هي تعاني من تداعيات الحرب العالمية الثانية ، على الرغم من إختلاف موضوعَي الفيلمين . في فيلم ( الصوت الإنساني ) تظهر في دور عاشقة فقدت حبيبها كضحية للحرب ، ولكنها تتوهم عودته ، فلا تكف عن استخدام الهاتف في مكالمات وهمية ، توهم بها نفسها ، على أن الحبيب على وشك العودة اليوم أو غداً ، حتى أنها ــ في أحد المشاهد ــ تطلب من عاملة منزلها طبخ الوجبة التي يحبها .
في الفيلم الجديد ( الحياة المقبلة ) يُظهِرها المخرج ( إبنها ) في دور الضحية اليائسة من عودة أي غائب ، لأنها هي نفسها دخلت في دور الغياب . لذلك فهي تلوذ بالقبو ، لتعيش حالة من الصفاء و هي تحاول التخلص من كوابيس معسكر ( أوشفيتز ) النازي الذي نجت منه .
فيما تذكّرنا قصة الصبي " مومو " بحكاية المومس في رواية ( الطاحونة الحمراء ) بطريقة معكوسة ، و هي رواية شهيرة لكاتبها الفرنسي " كزافييه دي مونتبان " ( 1823 ــ 1902 ) ، ففي تلك الرواية يطلب الزوج من زوجته التوقف عن تلبية طلبات ممارسة الجنس مع زبائنها الكثر خوفاً على صحتها ، فيما تشير حكاية " مومو " الى أن أبيه كان قد قتل والدته بسبب إمتناعها عن أستقبال زبائنها .. و كان " مومو " في السادسة من عمره حين قُتلت والدته .
و نحن نشاهد فيلم ( الحياة المقبلة ) يبرز أمامنا سؤال و يظل يتنامى في أذهاننا طوال المشاهدة : هل نحن نتابع سيرة ( مدام روزا ) التي تقترب من المحطة الأخيرة من حياتها ، كما يوصلنا إليها الفيلم ؟ أم نحن نقرأ سيرة " صوفيا لورين " نفسها و هي في السادسة و الثمانين من عمرها ( أثناء تصوير الفيلم ) و تجهد في أن تتحرك أمام الكاميرا متحدية ً الزمن لتقدم لنا شخصية تختلف عن جميع أدوارها طوال أكثر من نصف قرن ؟
لا يستطيع المشاهد المثقف أو المشاهد المتابع أن يتابع أحداث هذا الفيلم دون أن يتفرس في " صوفيا لورين " نفسها أكثر من متابعته لتصرفات و حركات " مدام روزا " ، ذلك أن " لورين " تحضر في هذا الفيلم بكل بهائها الجمالي و تاريخها السينمائي ، حتى ليبدو أن الفيلم يتحدث عن سيرتها هي و ليس سيرة " روزا " حين تطغى شخصية تلك الممثلة الجميلة الفارعة ذات الحضور السينمائي الذي إختصر الجمال الإيطالي في أنثى إسمها " صوفيا لورين " و هي الآن لا تسيطر سيطرة كاملة على حركة جسدها و لا تستطيع المشي دون الإستناد الى الحائط أو الى مسند ما و قد وهن هذا الجسد و قضمت الشيخوخة ملامح ذلك الجمال الصافي ليستقر أثره بين أخاديد تجاعيد تنبئ من لا يعرف " صوفيا لورين " أن هذه الممثلة كانت من أجمل جميلات القرن العشرين .
فيلم ( الحياة المقبلة ) ليس فيلماً إنسانياً حسب ، بل هو فيلم موجعٌ ، فيلمٌ مدروس بعناية من جميع جوانبه الأدبية و السينمائية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ