المستعرب خوسيه بويرتا فليشيت أستاذ تاريخ الفن بجامعة غرناطة (بلدية بوينس آيرس الأرجنتينية)
عبد الرحمن مظهر الهلوش
1/12/2022
مؤرخ الحلم الأندلسي.. حوار مع المستعرب والأكاديمي الإسباني بويرتا فليشيت
خوسيه ميغيل بويرتا فليشيت، ولد في قرية دوركل جنوب غرناطة عام 1959، درس تاريخ الفن وتخرج عام 1981م ثم حصل على الدكتوراه في اللغة العربية سنة 1995 من جامعة غرناطة، برسالة عنوانها "مفاهيم الجمال والفن والإدراك البصري في الفكر الأندلسي".
ويعد بويرتا أحد أشهر المستعربين الجدد، وهو اليوم أستاذ تاريخ الفن في الجامعة نفسها، وعضو الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة بغرناطة، ويشار إليه كأحد أبرز الأسماء المتخصصة في تأريخ الفن الإسلامي والأندلسي وعلم الجمال عند العرب.
تعلق بالثقافة العربية وما تحويه من فنون وآداب، سحره قصر الحمراء مبكرا ومن أجله قرر إصدار كتاب موسوعي بعنوان "قصر الحمراء" بمشاركة مجموعة من الباحثين العرب والإسبان.
أدار بويرتا مكتبة دوركل العامة واشتغل مترجما في القسم العربي بوكالة الأنباء الإسبانية (إيفي) في غرناطة. وعام 2017، كرمته بلدية العاصمة الأرجنتينية بـ وسام "ضيف شرف" لمدينة بوينس آيرس لإسهامه في تقريب قراء الإسبانية من الثقافة الإسلامية العربية.
وأثرى ضيفنا المكتبة العلمية بعدد من المؤلفات حيث أصدر حتى الآن مجموعة من الكتب، منها: "البنية الطوباوية لقصور الحمراء"" (عام 1990)، "تأريخ الفن الجمالي عند العرب-الأندلس والجمالية الكلاسيكية العربية" (عام 1997)، ترجمته إلى الإنجليزية دار نشر بريل، "مغامرة القلم- تاريخ الخط العربي وفنانيه وأساليبه" (عام 2007)، رواية "فقير في بلاط الحمراء".
ومن كتبه أيضا "شعرية الماء في الإسلام" (خيخون، عام 2011)، "معنى فنون وعمائر قرطبة الأموية" (عام 2013).
اغلفة كتب للمستعرب الإسباني بويرتا (الجزيرة)
كما شارك بويرتا بالتأليف والإشراف، بالاشتراك مع خورخي ليرولا، في إنجاز موسوعة "مكتبة الأندلس" التي ساهم فيها حوالي 150 باحثا مستعربا من إسبانيا وخارجها، وهي تعالج السير الذاتية والإنتاج المكتوب لكل المؤلفين الأندلسيين ومؤلفاتهم (عام 2013)، "معنى قرطبة الفني" (عام 2015)، "مسجد قرطبة الأموي، قبة الإسلام في الأندلس" وهو أول كتاب (دليل توضيحي) تم تأليفه ونشره بالعربية، وصدر بدعم مؤسسة البيت العربي في مدريد وسفارة قطر بإسبانيا (عام 2018).
كما ترجم هذا المستعرب الأكاديمي عددا من الأعمال الإبداعية من العربية إلى الإسبانية، ومن الإسبانية إلى العربية. فنجد توقيعه مترجما إلى الإسبانية على روايتين لغادة السمان (بيروت 75، والقمر المربع)، على "الصوفية والسريالية" لأدونيس، "على الريح-واجهات إسبانية" لصلاح نيازي، "تلخيص كتاب الشعر" (ترجمة جزئية) لابن رشد، كما عرب نصوصا مختلفة من الإسبانية ونشرت بمجلات عربية لأسماء أدبية مثل: غارثيا لوركا، خوان غويتيسولو، أنطونيو مونيوث مولينا، لويس غرثيا مونتيرو.
وقد استضافت الجزيرة نت بويرتا في هذا الحوار الخاص، للوقوف على معرفة واقع العمارة الإسلامية وتأثيراتها اليوم على الإسبان والأوروبيين، وعلاقته بالعربية والفن الإسلامي الأندلسي.
رحلة مع العربية
- كيف اكتشفت شغفك باللغة العربية؟
قصتي مع العربية بدأت بعد أن اكتشفت يوما، خلال زيارة لطلاب صفي إلى قصر الحمراء السنة الأخيرة للتخرج في تاريخ الفن، أن جدران تلك القصور العجيبة كانت مليئة بالكتابات بلغة لم أسمع الكثير عنها رغم أنني كنت على وشك التخرج بعد 5 سنوات من دراسة تاريخ الفن في كلية الآداب بغرناطة، المدينة التي كانت لغتها الرسمية والمتداولة فيها طيلة 8 قرون، وخاصة منذ تأسيس مملكة بني زيري عام 1013 عقب انهيار خلافة قرطبة الأموية.
الهوية والجذور
- هل ما زال الإسبان يعتبرون العربية لغة الثقافة الأندلسية، وبالتالي أساسية للهوية الإسبانية؟
يشعر الإسبان بأن الحضارة الإسلامية والعربية جزء من تاريخهم، بيد أنهم لا يعدون العربية لغة لهم.
ورغم ذلك فإن الكثير من الإسبان، خاصة المناطق التي ازدهرت فيها الأندلس، كل الجنوب والشرق حتى كاتالونيا بالإضافة إلى العاصمة مدريد وطليطلة وسرقسطة وغيرها، يشتاقون إلى العربية ويحسدون من يجيدها بسبب وجود عمائر ماثلة في مدنهم وأريافهم والعديد من التحف الفنية المحفوظة في المتاحف.
الكل يعلم أيضا أن نسبة لا بأس بها من مفردات لغة الشاعر والروائي الإسباني ميغيل دي ثربانتس (1547-1616م) ذات أصول عربية، وما زلنا نستعمل أمثالا عربية مأسبنة ومائدتنا حافلة بالوصفات العربية الأندلسية.
الكل يعلم أيضا أن نسبة لا بأس بها من مفردات لغة الشاعر والروائي الإسباني ميغيل دي ثربانتس (1547-1616م) ذات أصول عربية، وما زلنا نستعمل أمثالا عربية مأسبنة ومائدتنا حافلة بالوصفات العربية الأندلسية. لكل ذلك، فإن الإسبان يعبرون عن اعتزازهم بماضي أرضهم العربي ويستخدمون تعابير وأمثالا إيجابية للإشارة لتعجبهم بالفنون العربية ورقي حضارتهم.
غرناطة.. المملكة التاريخية الأخيرة
- ما أهمية دور غرناطة وأثرها في حنين الإسبان لفترة الحكم العربي الإسلامي والعربية؟
بالنسبة لغرناطة، فدورها مهم في هذا الموضوع لأنها المدينة الإسبانية التي تحظى بأكثر عدد من العمائر الأندلسية من أسوار وبوابات وبيوت وحدائق بما فيها الخان الوحيد الأندلسي المتبقي في إسبانيا، وآثار المدرسة اليوسفية وبيمارستان الغني بالله، وهما بناءان فريدان من نوعهما، علاوة على قصور الحمراء وقصر جنة العريف وسواها من القصور الملكية بالمدينة وضواحيها.
في عصرنا، أنشئت بغرناطة "مدرسة الدراسات العربية" في ثلاثينيات القرن الفائت في قصر كان لابن الخطيب (الشاعر والمؤرخ الأندلسي من القرن الـ 14) على الأرجح، ومؤسسة التراث الأندلسي في الثمانينيات، وبعد ذلك المؤسسة الأوروبية العربية، كما فتحت في مدينتنا أحد أقدم أقسام الدراسات الإسلامية والعربية في القرن الـ 19.
الشاعر والمسرحي العظيم فيديريكو غارثيا لوركا (1898-1936م) تعاون مباشرة مع أساتذة وباحثين مستعربين وكتب عن علاقة غرناطة وإسبانيا بالثقافة العربية حتى أنه خطط لتأسيس "زاوية" مع مكتبة لتكريم "ابن طفيل وعلماء مسلمين آخرين" وتنظيم ندوات ومحاضرات مع مفكرين وأدباء عرب.
في هذا الجو نشأ مثلا الشاعر والمسرحي العظيم فيديريكو غارثيا لوركا (1898-1936م) الذي تعاون مباشرة مع أساتذة وباحثين مستعربين، وكتب عن علاقة غرناطة وإسبانيا بالثقافة العربية وحتى أنه خطط لتأسيس "زاوية" مع مكتبة لتكريم "ابن طفيل وعلماء مسلمين آخرين" وتنظيم ندوات ومحاضرات مع مفكرين وأدباء عرب. وكون الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939م) خربت هذه الطموحات، قامت المؤسسات المشار إليها سابقا بتطبيق هذا الحلم لاستعادة الثقافة العربية، قدر الإمكان، في هذه المدينة المكتظة بالتراث العربي.
الحمراء.. قصائد على الجدران
- تذكر أن "الحمراء" قصر من الكلمات وهو تعبير بليغ عن الشعر الذي يزين جدرانه، أمضيت عمرا من الملاحظة والبحث في "قصر الحمراء وجنة العريف" هل تعتقد أن آثار غرناطة هذه أعطتك كل أسرارها، أم أنها ما زالت تفاجئك بتفاصيل جديدة من عزها القديم؟
كما هو معلوم في إطار النقد الفني والأدبي -وأقول هذا لأن الحمراء مزيج من الفن والأدب- أن التأويل لا ينتهي أبدا، أو بكلمات الفيلسوف الإيطالي أمبيرتو إيكو (1932-2016م): "الفن هو عمل مفتوح دائما". حتى من الناحية الأركيولوجية تظل في تل السبيكة، حيث بنيت الحمراء، مناطق لم يتم التنقيب فيها بعد، كمنطقة "المدينة" التي نشأت إلى جانب بلاط الحمراء، ناهيك عن آثار قصور مجاورة للقصور المشهورة والتي بنيت خارج أسوار الحمراء. ولا يستبعد على الإطلاق أن يتم اكتشاف مخطوطات عربية جديدة متعلقة بقصور الحمراء والتي ستلقي المزيد من الضوء على شؤونها المعمارية والتاريخية.. إلخ.
تعربت بعد أن كنت مستعربا
- إلى أي مدى يمكن القول إن الآثار العربية بغرناطة أسهمت في صياغة مصيرك الشخصي؟
لا ريب أنني كنت قد صغت كشخص عبر علاقتي بآثار قصر الحمراء، على وجه خاص، وقراري بخوض مغامرة تعلم العربية، مما أتاح لي الاطلاع على الكتب العربية الكلاسيكية والحديثة ومتابعة تطورات الأدب والفكر العربي المعاصر والقضايا العربية.
بمرور الزمن، سافرت عدة مرات إلى بعض البلدان العربية للمشاركة في ملتقيات وفعاليات ثقافية أخرى، ومنتهزا الفرص المتاحة لزيارة مهرجانات الكتب هنا وهناك ومكتبات بيع الكتب. كذلك تمتعت بصداقة أصحاب عرب تعرفت عليهم بإسبانيا وفي المغرب والجزائر ومصر وسوريا والعراق وغيرها من الأقطار، حتى أنني بت أحس نفسي كأنني شبه عربي لم يغادر أبدا غرناطة.
رغبت دوما العيش في بلد عربي وحلمت مرارا بذلك، لكن الظروف قيدتني في غرناطة، المدينة التي انتقلت إليها من مسقط رأسي في قرية صغيرة قريبة منها، السنة التاسعة من العمر. هنا أنجزت، وما زلت، بحوثي ومقالاتي وكتبي، وأدرس الفن الإسلامي والعربي، وأشرح قصور الحمراء والعمائر الأندلسية الأخرى للطلاب والناس. إذن، لا توجد ثمة مدينة أخرى شكلت نفسي كغرناطة، ولكن أكن محبة خاصة للرباط والقاهرة وخاصة دمشق، لأنها كانت نافذتي المباشرة على الثقافة العربية.
في عدد كبير من أديرة المدن الإسبانية توجد بقايا وآثار لقصر عربي أندلسي.
قصور الأندلس.. روعة إسلامية وانبهار أوروبي- تعرضت العمارة الإسلامية بأوروبا عموما والأندلس خاصة إلى تغيرات عميقة بعد أن حولت السلطات الكاثوليكية الكثير من المساجد والأبنية الإسلامية الأندلسية لكنائس، هل مازالت العمارة الإسلامية بأوروبا تحافظ على خصوصيتها الفنية؟
يمكن القول إن جزءا لافتا ومهما من العمارة الإسلامية يبقى قائما في إسبانيا وجزيرة صقلية الإيطالية رغم حملات محوها من المدن الإسبانية فترات معينة من التاريخ. كما هو معروف، لم تحترم بنود معاهدة استسلام الملك بين أبي عبد الله الصغير والملكين إيزابيلا وفرناندو، ومنعت السلطات السياسية والكنائسية مسلمي مملكة غرناطة من ممارسة دينهم وعاداتهم وقراءة كتبهم، وأمرت بتحويل كل المساجد إلى كنائس.
تعليق