بعد قرون من وفاته.. لسان الدين بن الخطيب ينبعث في إبداعات المخرجين والأدباء
سناء القويطي
3/12/2023م
"رقمت أنامل صانعي ديباجي من بعد ما نظمت جواهر تاجي
وحكيت كرسي العروس وزدته أني ضمنت سعادة الأزواج".
الرباط – كانت هذه أبيات الشاعر والوزير الأندلسي لسان الدين بن الخطيب منقوشة على جدران قصر الحمراء بغرناطة، وهي تخلد لحظات إبداعية توجت بولادة مَعلمة معمارية مزخرفة جدرانها ونافوراتها وأقواسها بما سمي "شعر النقوش" بخطوط عربية مثل النسخ والكوفي.
وعملت المخرجة والكاتبة الإسبانية إيسابيل فيرنانديث في فيلمها الوثائقي "بناة الحمراء" على نقل المُشاهد إلى منتصف القرن الـ13 زمن حكم الأسرة النصرية في غرناطة، وتقريبه من أجواء إنسانية وروحية كانت وراء بناء أحد أهم معالم العمارة الإسلامية في الأندلس.
وعرضت المخرجة فيلمها -الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية واستمر تصويره 7 سنوات- في معهد "ثيربانتس" بالرباط، حيث تفاعل الجمهور المغربي مع الفيلم وغاص مع مخرجته في نقاش حول خلفيات خروج هذا العمل إلى الوجود.
يمضي الفيلم الوثائقي في خطين متوازيين، إذ يعرض قصة بناء قصر الحمراء، وسيرة شخصية أندلسية مثيرة للاهتمام هي لسان الدين بن الخطيب الملقب بـ"ذي الوزارتين"؛ القلم والسيف والذي قدمه على الشاشة الممثل المصري عمرو واكد.
حكاية إنسانية:
كانت مخرجة الفيلم ومؤلفته الإسبانية إيسابيل فرنانديث، تبحث عن شخصية تساعدها على بناء نص من وجهة نظر إنسانية.
وتقول للجزيرة نت إن اختيارها وقع على لسان الدين بن الخطيب رغم أن المرحلة التاريخية غنية بشخصيات مثيرة للاهتمام، فهو بالإضافة إلى أنه كان من أهم المؤثرين في البلاط النصري في تلك المرحلة، كان أيضا مؤرخ السلالة النصرية.
وخلال بحثها ودراستها لتلك الفترة التاريخية -تضيف فيرنانديث- وجهها جميع المؤرخين الذي تحدثت معهم بالاعتماد على حوليات ابن الخطيب وهو ما جعلها تقرر جعله الراوي في الفيلم.
وتوضح "جعلت ابن الخطيب شخصية الراوي، كان فرصة فريدة لأكون وفية لتلك المرحلة، ولبناء حكاية تاريخية من جهة وإنسانية من جهة أخرى، تنبع من صوت ابن الخطيب نفسه ومن طريقته في النظر وفهم الزمن الذي عاش فيه".
وتؤكد المخرجة أن فيلم "بناة غرناطة" يجعل المشاهد يكتشف "قصر الحمراء" بطريقة مختلفة حيث يعتمد أولا على القصد الإبداعي لأولئك الذين شاركوا في تصميمه وبنائه، وربط ذلك القصد الإبداعي أو تلك المهمة، بطريقة تشييد المبنى، والمعنى الذي يحمله كل واحد من تفاصيله بالنسبة لأولئك الذين قاموا ببنائه.
المخرجة والمؤلفة إيسابيل فيرنانديث خلال عرضها الفيلم في معهد ثيربانتس (الجزيرة)
وتضيف "أعتقد أن راوي مثل ابن الخطيب، الذي هو شاهد بضمير المتكلم، يمثل فرصة فريدة للقيام بتلك الرحلة الحميمية والشاعرية نحو الروح التي تحيط بعمارة قصر الحمراء، وبالتالي ربط المشاهد بالمبنى بطريقة فريدة ومثيرة وإنسانية للغاية. ومن ناحية أخرى، نكتشف شخصية سامية في تاريخ غرناطة تستحق أن تُعرف، والتي كانت لها حياة رائعة".
وتصف فيرنانديث ردود فعل الجمهور العربي والإسلامي إزاء فيلمها بأنها "قوية ومثيرة للغاية" وتتابع "باعتباري مؤلفة الفيلم، كنت أشتغل دائما وأنا أفكر في هذا الجمهور، أردت أن يشعر المسلمون عندما يشاهدون الفيلم وكأنهم يشاهدون تاريخهم الخاص".
وتمضي بالقول "لهذا السبب أشعر بسعادة غامرة في كل مرة أحضر فيها عرضا للفيلم في بلد مسلم، وأختبر تأثير الفيلم على الجمهور. أعتقد أن هذا دليل آخر على وجود تواصل ثقافي كبير بيننا".
شخصية غنية ومحورية:
تعتبر شخصية لسان الدين بن الخطيب شخصية محورية في تاريخ الأندلس نظرا للدور الذي قام به خلال فترة حكم الأسرة النصرية وإشرافه المباشر على اختيار زخارف قصر الحمراء، وأيضا بالنظر لمواهبه المتعددة فهو كان وزيرا وأديبا وفيلسوفا وفقيها وطبيبا ومؤرخا وشاعرا، وكانت حياته التي قضاها بين بلاط غرناطة والمغرب خلال العصر المريني غنية بالتجارب.
أنتجت أفلام ونشرت روايات بين المغرب وإسبانيا تتناول سيرة ابن الخطيب مثل رواية "وزير غرناطة" التي كتبها المؤرخ المغربي عبد الهادي بوطالب سنة 1950 وهي من أوائل الروايات التي تناولت سيرة هذا الرجل، ورواية "ابن الخطيب في روضة طه" سنة 2012 للروائي العرفاني المغربي عبد الإله بن عرفة، ورواية "أسير غرناطة" للروائي الإسباني مارسيليانو غاليانو 2013 وغيرها من الأعمال الروائية.
هذا الغنى جعل هذه الشخصية محط اهتمام المخرجين والروائيين، فأنتجت عنه أفلام ونشرت روايات بين المغرب وإسبانيا تتناول سيرته مثل رواية "وزير غرناطة" التي كتبها المؤرخ المغربي عبد الهادي بوطالب سنة 1950 وهي من أوائل الروايات التي تناولت سيرة هذا الرجل، ورواية "ابن الخطيب في روضة طه" سنة 2012 للروائي العرفاني المغربي عبد الإله بن عرفة، ورواية "أسير غرناطة" للروائي الإسباني مارسيليانو غاليانو 2013 وغيرها من الأعمال الروائية.
يعزو الأكاديمي الحسن محب، نائب رئيس مؤسسة لسان الدين بن الخطيب للدراسات والتعاون وحوار الثقافات بفاس، الاهتمام بشخصية ابن الخطيب حديثا إلى موسوعيته وتنوع اهتماماته وإلى مكانته السياسية في صناعة الأحداث ولا سيما في مرحلة تاريخية مهمة في تاريخ المسلمين بالأندلس وهي مرحلة الصراع من أجل البقاء والهجمة الشرسة الصليبية على ما تبقى من وجود إسلامي في الأندلس.
وأشار محب -في حديث للجزيرة نت- إلى أن ابن الخطيب عاش قسطا مهما من حياته بالمغرب حيث ألف فيها معظم كتبه، لذلك اهتم المغاربة كثيرا بهذه الشخصية.
وأسس نشطاء في مدينة فاس، مؤسسة "لسان الدين بن الخطيب للدراسات والتعاون وحوار الثقافات" في المدينة عام 2005، وهي جمعية ثقافية اتخذت من هذه الشخصية رمزا لعملها، باعتباره علامة على ماض من الحوار والتفاهم المشتركين بين شمال البحر المتوسط وجنوبه.
نقوش شعرية على جدران قصر غرناطة (الجزيرة)من نشأة الملوك إلى النكبة
يقول الحسن محب، إن ابن الخطيب نشأ نشأة ملوكية حيث ترعرع في القصر وتربى فيه.
وتواجده الدائم في الوزارة منذ صباه جعله حاضرا في كل أحداث العصر، كما شهد كل مجالس القصر وجالس العلماء والفقهاء والأدباء ورجال السياسة والنبلاء.
وأضاف "لما شب ابن الخطيب واستوى على سوقه، كان فارس الحلبة في الأدب شعرا وترسيلا، بل كان مشاركا في كل فنون المعرفة حتى الطب. ولعل غزارة كتاباته وتنوعها والتي وصلنا منها الكثير وعلى رأسها موسوعته الإحاطة في أخبار غرناطة شاهد حي على ذلك".
كما أن ابن الخطيب بلغ مكانة سامية في دولة بني نصر؛ إذ كانت له اليد الطولى في صناعة الأحداث وتدبيرها، فجمع بين الكتابة والوزارة والسفارة.
وإذا كان ابن الخطيب قد عرف الحظوة وعلو المكانة والسلطة، فقد تعرض أيضا لمكائد ودسائس ونكبات.
يشير الأكاديمي الحسن محب، إلى أن النكبة الأولى كانت خلال الانقلاب على السلطان أبي الحجاج يوسف حيث نكل به وصودرت ممتلكاته ونفي إلى المغرب مع سلطانه، ثم النكبة الثانية حين فر ناجيا بنفسه إلى المغرب مرة ثانية بسبب دسائس البلاط.
وبالنسبة لمحب، فإن كتابات ابن الخطيب لا تتميز فقط بالكثرة والتنوع، ولكن بجدتها وجرأة صاحبها في طرح القضايا الفكرية والدينية.
هذه الجرأة والجدة -يوضح محب- استعدت عليه مناوئيه ليتهموه بالزندقة والخروج عن الملة، ويلقى حتفه في نهاية المطاف.
وكانت هذه النهاية بشعة؛ حيث إنه سجن بفاس بطلب من السلطان الغرناطي وشنق داخل زنزانته قبل أن يُحرق جسده ويدفن بجوار باب المحروق.
***&&&***
المصدر : الجزيرة