من أفلام " جولييت بينوش "
خفة الكائن التي لا تُحتمل
The Unbearable Lightness Of Being
هادي ياسين .مخرج وروائي وناقد سينمائي يعيش بكندا
الفيلمُ غيرُ عائلي
اُنتج هذا الفيلم الأمريكي ( خفة الكائن التي لا تُحتمل ) إعتماداً على الرواية الشهيرة بذات العنوان للكاتب التشيكي ــ الفرنسي " ميلان كونديرا " ، و يبدو أن انتاجه في العام 1988 كان مُتعمّداً ، إذ يمثـل هذا التاريخ الفترةَ الحاسمة في الحرب الباردة التي استمرت لعقودٍ بين الولايات المتحدة و الاتحاد السوڤييتي ( السابق ) الذي انهار معسكرُهُ في العام التالي ( 1989 ) و من ضمنه ( جمهورية تشيكوسلوڤاكيا ) ذات النظام الشيوعي ، و التي عادت عام 1993 الى وضعها السابق فانقسمت الى كل من ( جمهورية سلوڤاكيا ) و ( جمهورية تشيك ) التي ينتمي اليها الروائي " ميلان كونديرا " و الذي كان يكتب بلغتها التشيكية ، قبل أن يكتب بالفرنسية بعد أن هاجر الى فرنسا عام 1975 و حصل على جنسيتها عام 1981 إثر إسقاط الجنسية التشيكوسلوڤاكية عنه عام 1978 بسبب روايته ( الضحك و النسيان ) ، و هو يُعرَّف الآن بأنه ( كاتبٌ فرنسي من أصول تشيكية ) .
تقع أحداث الفيلم في العام 1968 ، و لهذا العام وقعٌ في ذاكرة التشيكوسلوڤاكيين ، ففيه حصل ما سُمّيَ بـ ( ربيع براغ ) ، ابتداءً من 2 يناير / كانون الثاني 1968 ، مع وصول الزعيم الشيوعي التشيكوسلوڤاكي الإصلاحي " ألكسندر دوبتشك " ( 1921 ـ 1992 ) الى زعامة الحزب ، و كان الوضع الإقتصادي و الإجتماعي قد وصل الى أسوأ مراحله ، ما خلق تذمراً لدى الناس ، و كادت أن تندلع ثورة ، و تَمثّلَ مشروعُ " دوبتشك " في إصلاحات أساسية للتخفيف من اختناق المجتمع ، منها : حرية الصحافة و التعبير و حرية التنقل و السفر و لامركزية الإقتصاد ، و التوجه نحو ( اشتراكية ديمقراطية ) و تعددية الأحزاب و وضع دستور لجمهوريةٍ فيدرالية تساوي بين التشيك و السلوڤاك ، و كان " دوبتشك " قد صرح بأن الحزب ليس وَصيّاً على الناس . و لقيت هذه التوجهات ترحيباً واسعاً لدى الشعب الذي اصطف خلفه ، على أمل التخلص من هيمنة السوڤييت ، ولكنها كانت توجهات لا تروق لموسكو ــ بطبيعة الحال ــ فراحت وسائلُ دعايتها تشوّه سمعة " دوبتشك " و تنال من توجهاته ، و انتهت بدخول دبابات حلف وارسو شوارعَ براغ ــ بأمر من الكرملين ــ يوم 20 أغسطس / آب 1968 لتقضي على ( ربيع براغ ) بسرعةٍ فائقة . و على أثر ذلك آثر الكثيرُ من الناس الهجرة َ و ترك البلاد الى غير رجعة ، و منهم " ميلان كونديرا " الذي هاجر الى فرنسا ، بعد أن فُصل من وظيفته و مُنعت كتبُه من التداول بسبب انخراطه في ( ربيع براغ ) .
رواية ( خفة الكائن التي لا تُحتمل ) تتناول تلك المرحلة ، و قد قدّمها المخرجُ السينمائيُ الأمريكي " فيليپ كوفمان " ، بلغته السينمائية المميزة ، و إحدى ميزات هذه اللغة هي أن أفلامه تتوجه عادةً الى البالغين ، لأن مشاهد الشبق الجنسي هي إحدى علامات أفلام هذا المخرج . و فيلم ( خفة الكائن التي لا تُحتمل ) شاهدٌ على ذلك .
و مع أن الفيلم أمريكيٌ من جهة إنتاجه ، إلا إنه فيلمٌ أوروبيٌ بأبطاله الرئيسيين الأربعة :
" دانييل دي لويس " ( إيرلندي / بريطاني ) الذي سيكون ــ لاحقاً ــ أول ممثل يحصل على جائزة الأوسكار كأفضل ممثل ثلاث مرات ، و هو الآن معتزل ، و حاصلٌ على لقب ( سير ) .
" لينا أولين " ( سويدية ) و كانت ملكة جمال الدول الإسكندناڤية عام 1974 ، و قد ترشحت لجائزة الأوسكار عام 1988 عن دورها في هذا الفيلم .
" ديريك دي لينت " ( هولندي ) و كان قد ظهر قبل هذا الفيلم في الكثير من الأفلام و المسلسلات الأوروبية و الأمريكية و حاصلٌ على العديد من الجوائز .
" جولييت بينوش " ( فرنسية ) و كان ظهورها في هذا الفيلم هو أول ظهور بالإنجليزية ، و كانت في الرابعة و العشرين من عمرها ، و قد بدت طرية الشكل و الجسد والأنوثة ، ولكن كان لها حضور في ثلاثة أفلام مع مخرجين معروفين : " جون لوك گودار " ، " جاك دويلون " ، و " أندريه تشيني " الذي حوّلها الى نجمة فرنسية من خلال دورها في فيلم ( موعد Rendez-vous ) .
تم تصوير فيلم ( خفة الكائن التي لا تُحتمل ) في فرنسا ، لوجود " كونديرا " فيها ، و لعدم إمكانية تصويره في براغ ، لأن الإتحاد السوڤييتي كان قائماً في ذلك الوقت . و عمل " كونديرا " مستشاراً للفيلم ، كونه دارساً للسينما و كان محاضراً في أكاديمية براغ للفنون التمثيلية . ولكنه لم يكن راضياً عن اقتباسات الرواية و تحولاتها في الفيلم ، لذلك أعلن عدم السماح بتحويل رواياته الى أفلام مرة أخرى ، و هذا شأن معظم الكتاب الذين تتحول أعمالهم الروائية الى أفلام سينمائية ، غافلين أو متناسين أن المخرجَ هو مؤلفٌ ثانٍ للعمل الروائي .. سينمائياً . ولكن النقاد و الجمهور استقبلوا الفيلم بترحاب و ارتياح .
كان " ميلان كونديرا " ، المولود عام 1929 ، قد انتمى الى الحزب الشيوعي التشيكوسلوڤاكي عام 1948 ، ولكن تم فصلُهُ من الحزب ، بعد سنتين ، بسبب الشبهات التي دارت حول علاقته المثلية مع الكاتب " جان ترافولكا " ، ثم عاد الى الحزب عام 1957 ليتم فصله عام 1970 بعد انخراطه في ربيع براغ . و تشي أعمال " كونديرا " الأدبية ، و في مقدمتها رواية ( خفة الكائن التي لا تُحتمل ) ، انه كان ــ و هو يعمل في مؤسسات الحكم و في الحزب ــ راصداً لتوجهات النظام الشمولي هذا ، و خازناً لملاحظاته الشخصية السرية عمّا يجري في أروقته . و لم يفرج عن هذه الملاحظات إلا بعد أن هاجر الى فرنسا و تحرر من ربقة النظام . و نجد هذا الرصد المبطن في أعماله الأخرى أيضاً ، ( الضحك و النسيان ) و ( المزحة ) .. على سبيل المثال .
في أحد مشاهد الفيلم ، و في حفلٍ راقص ، حين كان " توماس " ( دانييل دي لويس ) و زوجته " تيريزا " ( جولييت بينوش ) على مائدةٍ واحدة مع صديقتهما " سابينا " ( لينا أولين ) و صديقين آخرين ، كانت مجموعة من الحزبيين المحافظين تجلس على مائدة مجاورة ، يقوم أحدهم و يطلب من عازف الفرقة الغنائية أداءَ أغنية حزبية ، و ما أن تعزفها الفرقة حتى يتفرق الجمهور الراقص المنتشي ، ولم يطرب لها غير الحزبيين . " توماس " كان يرصد هذه الفضيحة ، ولكنه كان رصدَ " كونديرا " و قد ترجمه " فيليپ كوفمان " ترجمة ً سينمائية صريحة . في هذا المشهد ، يتذكر " توماس " شخصية َ ( أوديب ) ، الذي هو أحد أبطال المثيولوجيا الإغريقية ، و الذي يقتل أباه الملك و يتزوج أمه ، دون أن يعلم أن الملكَ هو أبوه و دون أن تعلم الأمُ أن ( أوديب ) ابنُها ، و حين يُدرك ( أوديب ) هذه الحقيقة يقتلعُ عينيه بأصابعه . " توماس " يقارن بين ( الرفاق ) و بين ( أوديب ) ، و يرى أنهم لا يمتلكون ضميرَه ، و يقول : ( عندما ظهرت وحشية " ستالين " كلهم صاحوا : لم نكن على علمٍ بما حدث ) و يضيف : ( كل ما أقوله هو أن الأخلاق تغيرت منذ موت " أوديب " ) . ففي إشارة " توماس " الى وحشية " ستالين " تذكيرٌ بخطاب خلفه " نيكيتا خروتشوف " في المؤتمر السادس و العشرين للحزب الشيوعي السوڤييتي الذي كشف فيه عام 1956 عن جرائم " ستالين" .
في براغ ، أصدر " كونديرا " مجموعة ً شعرية ، ولكنها لم تلق اهتماماً ، و كانت كتاباته الأخرى عابرة ، غير أنه لفت اليه الإنتباه عندما أصدر مجموعته القصصية الرائعة و المذهلة حقاً ( غرامياتٌ مرحة ) ، ولكن روايته ( خفة الكائن التي لا تُحتمل ) هي التي منحته الشهرة العالمية . و هذه الرواية كان قد كتبها عام 1982 ولكنها طُبعت باللغة التشيكية بعد سنتين و تُرجمت الى عدة لغات ، و منها العربية ، و قد قرأناها ــ حينها ــ تحت عنوان ( خفة الكائن التي لا تُحتمل ) ، بترجمة " عفيف دمشقية " عن ( دار الآداب ) اللبنانية ، ولكنها ظهرت في ترجمة لاحقة لـ " ماري طوق " تحت عنوان ( كائنٌ لا تُحتمل خفته ) و هو العنوان ذاته الذي استعاره مترجم الفيلم . و في تقديري أن العنوان بترجمته الأولى أدق و أجمل و .. ( أخف ) .
من المؤكد ان هذا الفيلم يدخل في حقل الأفلام التحريضية المبطنة اثناء الحرب الباردة التي اشتغلت الولايات المتحدة عليها بشكل مبطن و ذكي لتقويض النظام الشيوعي ، بعيداً عن الطريقة ( الماكارثية ) الشهيرة المباشرة التي قادها السيناتور الجمهوري " جوزيف مكارثي " ضد الشيوعية في أمريكا للفترة 1947 ــ 1957 . فيتجاوز الفيلم توجه المكارثية المحدودة أمريكياً الى التقويض العالمي للنظام الشيوعي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إليكم رابط الفيلم :
https://ok.ru/video/309883505278
خفة الكائن التي لا تُحتمل
The Unbearable Lightness Of Being
هادي ياسين .مخرج وروائي وناقد سينمائي يعيش بكندا
الفيلمُ غيرُ عائلي
اُنتج هذا الفيلم الأمريكي ( خفة الكائن التي لا تُحتمل ) إعتماداً على الرواية الشهيرة بذات العنوان للكاتب التشيكي ــ الفرنسي " ميلان كونديرا " ، و يبدو أن انتاجه في العام 1988 كان مُتعمّداً ، إذ يمثـل هذا التاريخ الفترةَ الحاسمة في الحرب الباردة التي استمرت لعقودٍ بين الولايات المتحدة و الاتحاد السوڤييتي ( السابق ) الذي انهار معسكرُهُ في العام التالي ( 1989 ) و من ضمنه ( جمهورية تشيكوسلوڤاكيا ) ذات النظام الشيوعي ، و التي عادت عام 1993 الى وضعها السابق فانقسمت الى كل من ( جمهورية سلوڤاكيا ) و ( جمهورية تشيك ) التي ينتمي اليها الروائي " ميلان كونديرا " و الذي كان يكتب بلغتها التشيكية ، قبل أن يكتب بالفرنسية بعد أن هاجر الى فرنسا عام 1975 و حصل على جنسيتها عام 1981 إثر إسقاط الجنسية التشيكوسلوڤاكية عنه عام 1978 بسبب روايته ( الضحك و النسيان ) ، و هو يُعرَّف الآن بأنه ( كاتبٌ فرنسي من أصول تشيكية ) .
تقع أحداث الفيلم في العام 1968 ، و لهذا العام وقعٌ في ذاكرة التشيكوسلوڤاكيين ، ففيه حصل ما سُمّيَ بـ ( ربيع براغ ) ، ابتداءً من 2 يناير / كانون الثاني 1968 ، مع وصول الزعيم الشيوعي التشيكوسلوڤاكي الإصلاحي " ألكسندر دوبتشك " ( 1921 ـ 1992 ) الى زعامة الحزب ، و كان الوضع الإقتصادي و الإجتماعي قد وصل الى أسوأ مراحله ، ما خلق تذمراً لدى الناس ، و كادت أن تندلع ثورة ، و تَمثّلَ مشروعُ " دوبتشك " في إصلاحات أساسية للتخفيف من اختناق المجتمع ، منها : حرية الصحافة و التعبير و حرية التنقل و السفر و لامركزية الإقتصاد ، و التوجه نحو ( اشتراكية ديمقراطية ) و تعددية الأحزاب و وضع دستور لجمهوريةٍ فيدرالية تساوي بين التشيك و السلوڤاك ، و كان " دوبتشك " قد صرح بأن الحزب ليس وَصيّاً على الناس . و لقيت هذه التوجهات ترحيباً واسعاً لدى الشعب الذي اصطف خلفه ، على أمل التخلص من هيمنة السوڤييت ، ولكنها كانت توجهات لا تروق لموسكو ــ بطبيعة الحال ــ فراحت وسائلُ دعايتها تشوّه سمعة " دوبتشك " و تنال من توجهاته ، و انتهت بدخول دبابات حلف وارسو شوارعَ براغ ــ بأمر من الكرملين ــ يوم 20 أغسطس / آب 1968 لتقضي على ( ربيع براغ ) بسرعةٍ فائقة . و على أثر ذلك آثر الكثيرُ من الناس الهجرة َ و ترك البلاد الى غير رجعة ، و منهم " ميلان كونديرا " الذي هاجر الى فرنسا ، بعد أن فُصل من وظيفته و مُنعت كتبُه من التداول بسبب انخراطه في ( ربيع براغ ) .
رواية ( خفة الكائن التي لا تُحتمل ) تتناول تلك المرحلة ، و قد قدّمها المخرجُ السينمائيُ الأمريكي " فيليپ كوفمان " ، بلغته السينمائية المميزة ، و إحدى ميزات هذه اللغة هي أن أفلامه تتوجه عادةً الى البالغين ، لأن مشاهد الشبق الجنسي هي إحدى علامات أفلام هذا المخرج . و فيلم ( خفة الكائن التي لا تُحتمل ) شاهدٌ على ذلك .
و مع أن الفيلم أمريكيٌ من جهة إنتاجه ، إلا إنه فيلمٌ أوروبيٌ بأبطاله الرئيسيين الأربعة :
" دانييل دي لويس " ( إيرلندي / بريطاني ) الذي سيكون ــ لاحقاً ــ أول ممثل يحصل على جائزة الأوسكار كأفضل ممثل ثلاث مرات ، و هو الآن معتزل ، و حاصلٌ على لقب ( سير ) .
" لينا أولين " ( سويدية ) و كانت ملكة جمال الدول الإسكندناڤية عام 1974 ، و قد ترشحت لجائزة الأوسكار عام 1988 عن دورها في هذا الفيلم .
" ديريك دي لينت " ( هولندي ) و كان قد ظهر قبل هذا الفيلم في الكثير من الأفلام و المسلسلات الأوروبية و الأمريكية و حاصلٌ على العديد من الجوائز .
" جولييت بينوش " ( فرنسية ) و كان ظهورها في هذا الفيلم هو أول ظهور بالإنجليزية ، و كانت في الرابعة و العشرين من عمرها ، و قد بدت طرية الشكل و الجسد والأنوثة ، ولكن كان لها حضور في ثلاثة أفلام مع مخرجين معروفين : " جون لوك گودار " ، " جاك دويلون " ، و " أندريه تشيني " الذي حوّلها الى نجمة فرنسية من خلال دورها في فيلم ( موعد Rendez-vous ) .
تم تصوير فيلم ( خفة الكائن التي لا تُحتمل ) في فرنسا ، لوجود " كونديرا " فيها ، و لعدم إمكانية تصويره في براغ ، لأن الإتحاد السوڤييتي كان قائماً في ذلك الوقت . و عمل " كونديرا " مستشاراً للفيلم ، كونه دارساً للسينما و كان محاضراً في أكاديمية براغ للفنون التمثيلية . ولكنه لم يكن راضياً عن اقتباسات الرواية و تحولاتها في الفيلم ، لذلك أعلن عدم السماح بتحويل رواياته الى أفلام مرة أخرى ، و هذا شأن معظم الكتاب الذين تتحول أعمالهم الروائية الى أفلام سينمائية ، غافلين أو متناسين أن المخرجَ هو مؤلفٌ ثانٍ للعمل الروائي .. سينمائياً . ولكن النقاد و الجمهور استقبلوا الفيلم بترحاب و ارتياح .
كان " ميلان كونديرا " ، المولود عام 1929 ، قد انتمى الى الحزب الشيوعي التشيكوسلوڤاكي عام 1948 ، ولكن تم فصلُهُ من الحزب ، بعد سنتين ، بسبب الشبهات التي دارت حول علاقته المثلية مع الكاتب " جان ترافولكا " ، ثم عاد الى الحزب عام 1957 ليتم فصله عام 1970 بعد انخراطه في ربيع براغ . و تشي أعمال " كونديرا " الأدبية ، و في مقدمتها رواية ( خفة الكائن التي لا تُحتمل ) ، انه كان ــ و هو يعمل في مؤسسات الحكم و في الحزب ــ راصداً لتوجهات النظام الشمولي هذا ، و خازناً لملاحظاته الشخصية السرية عمّا يجري في أروقته . و لم يفرج عن هذه الملاحظات إلا بعد أن هاجر الى فرنسا و تحرر من ربقة النظام . و نجد هذا الرصد المبطن في أعماله الأخرى أيضاً ، ( الضحك و النسيان ) و ( المزحة ) .. على سبيل المثال .
في أحد مشاهد الفيلم ، و في حفلٍ راقص ، حين كان " توماس " ( دانييل دي لويس ) و زوجته " تيريزا " ( جولييت بينوش ) على مائدةٍ واحدة مع صديقتهما " سابينا " ( لينا أولين ) و صديقين آخرين ، كانت مجموعة من الحزبيين المحافظين تجلس على مائدة مجاورة ، يقوم أحدهم و يطلب من عازف الفرقة الغنائية أداءَ أغنية حزبية ، و ما أن تعزفها الفرقة حتى يتفرق الجمهور الراقص المنتشي ، ولم يطرب لها غير الحزبيين . " توماس " كان يرصد هذه الفضيحة ، ولكنه كان رصدَ " كونديرا " و قد ترجمه " فيليپ كوفمان " ترجمة ً سينمائية صريحة . في هذا المشهد ، يتذكر " توماس " شخصية َ ( أوديب ) ، الذي هو أحد أبطال المثيولوجيا الإغريقية ، و الذي يقتل أباه الملك و يتزوج أمه ، دون أن يعلم أن الملكَ هو أبوه و دون أن تعلم الأمُ أن ( أوديب ) ابنُها ، و حين يُدرك ( أوديب ) هذه الحقيقة يقتلعُ عينيه بأصابعه . " توماس " يقارن بين ( الرفاق ) و بين ( أوديب ) ، و يرى أنهم لا يمتلكون ضميرَه ، و يقول : ( عندما ظهرت وحشية " ستالين " كلهم صاحوا : لم نكن على علمٍ بما حدث ) و يضيف : ( كل ما أقوله هو أن الأخلاق تغيرت منذ موت " أوديب " ) . ففي إشارة " توماس " الى وحشية " ستالين " تذكيرٌ بخطاب خلفه " نيكيتا خروتشوف " في المؤتمر السادس و العشرين للحزب الشيوعي السوڤييتي الذي كشف فيه عام 1956 عن جرائم " ستالين" .
في براغ ، أصدر " كونديرا " مجموعة ً شعرية ، ولكنها لم تلق اهتماماً ، و كانت كتاباته الأخرى عابرة ، غير أنه لفت اليه الإنتباه عندما أصدر مجموعته القصصية الرائعة و المذهلة حقاً ( غرامياتٌ مرحة ) ، ولكن روايته ( خفة الكائن التي لا تُحتمل ) هي التي منحته الشهرة العالمية . و هذه الرواية كان قد كتبها عام 1982 ولكنها طُبعت باللغة التشيكية بعد سنتين و تُرجمت الى عدة لغات ، و منها العربية ، و قد قرأناها ــ حينها ــ تحت عنوان ( خفة الكائن التي لا تُحتمل ) ، بترجمة " عفيف دمشقية " عن ( دار الآداب ) اللبنانية ، ولكنها ظهرت في ترجمة لاحقة لـ " ماري طوق " تحت عنوان ( كائنٌ لا تُحتمل خفته ) و هو العنوان ذاته الذي استعاره مترجم الفيلم . و في تقديري أن العنوان بترجمته الأولى أدق و أجمل و .. ( أخف ) .
من المؤكد ان هذا الفيلم يدخل في حقل الأفلام التحريضية المبطنة اثناء الحرب الباردة التي اشتغلت الولايات المتحدة عليها بشكل مبطن و ذكي لتقويض النظام الشيوعي ، بعيداً عن الطريقة ( الماكارثية ) الشهيرة المباشرة التي قادها السيناتور الجمهوري " جوزيف مكارثي " ضد الشيوعية في أمريكا للفترة 1947 ــ 1957 . فيتجاوز الفيلم توجه المكارثية المحدودة أمريكياً الى التقويض العالمي للنظام الشيوعي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إليكم رابط الفيلم :
https://ok.ru/video/309883505278