وتبقى القصص . . . قصة بعنوان "هاشتـــاج" ، نشرت في الملحق الأدبي لجريدة أوروك العراقية . . . كل الشكر لأسرة الجريدة وللأستاذ جمال الهنداوي Jamal Al-hindawi ? ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
هاشتـــاج
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟.. هكذا كنت أهتف لنفسي بين دقيقة وأخرى، ثم انظر للهاتف من جديد للمرة المليون في ظهيرة هذا اليوم ربما، وأطالع عبره الأخبار وأمتعض بل أرتعب مما اقرأ.. معظم الأخبار تدور عني، عن قضية أنا متهم فيها.. قضية تهريب أطنان من الغذاء من المؤسسة بطرق غير شرعية.. لا أعرف كيف أتى بتفاصيلها الأبالسة ونشروها عبر فيسبوك، بل إن من التفاصيل ما لم أكن اعرفه أنا إطلاقا.. مثل عمولات بقية شركاء القضية.. نعم.. فيهم من آخذ أكثر مني، اللعنة لم أكن أعرف.. ولو عرفت لما... مهلا.. من قال إنها قضية؟ إنه أنا.. وهي ليست قضية حتى الآن.. لم يتم التحقيق فيها.. ولا يتعدى الأمر إلا هاشتاجات تطارد الفسدة والمفسدين ليس أكثر.. ولكن الموضوع كبر.. والكل يتحدث عنه.. أقلب في شريط ابحث وأقرأ ألقابي الجديدة: حرامي الشعب.. قضية فساد الأغذية.. لصوص القرن.. المهرب الأكبر.. من يحمي اللصوص؟ إلخ.. لقد صدعت رأسي مما قرأت وأتابع، فليفعلوا ما يفعلوا لا يهمني.. إن أوراقي سليمة.. وأي محامي بألف جنيه سيتكفل بإخراجي منها كالشعرة من العجين.. إنني....
وفجأة يرن الهاتف.. هاتف الشغل القديم.. العتيق.. رفعت السماعة بيد مرتعشة.. جاءني صوت صارم يسألني:
- صالح؟
إنه مديري المباشر.. وكيل الوزارة.. تلعثمت فترة، ولم اقدر أن أجيب.. بدا أنه رحيما بي، وأنه يقدر ما أعاني.. واصل:
- صالح.. هل تقرأ الأخبار الأخيرة؟
سكن قلبي وكاد يتوقف تقريبا..
حاولت أن اتخابث وسألته:
- أية أخبار يا سيدي؟ الحقيقة أنني لم أطالع أي خبر منذ الصباح..
صمت فترة، خلته أمامي وينظر لي في لؤم.. عضضت على شفتي وأردفت في ألم ومرارة:
- تقصد حضرتك الأخبار المتداولة عن قضية التهريب إياها؟
جاءني رده بسرعة:
- نعم.. أريد أن أسألك سؤالا واضحا: هل هي أخبار صحيحة؟
وجدتني أبكي دون إرادة مني.. وانتفض مكاني.. ولم استطع الرد.. فأغلق السماعة دون أن يبرد ناري بكلمة عن المصير الذي ينتظرني..
لا ريب أن السجن سيكون مصيري.. وأنهم سيكبرون القضية، حتى يخيل لمن لا يعرف أنه لا يوجد في مصر فاسد سواي.. أعلم ماذا سيحدث بالضبط.. ستكثر سكاكيني.. وسأكون كبش فداء لكل قضايا الفساد من أيام أخناتون حتى اليوم.. كل هذا لأني حاولت أن أؤمن مستقبلي ومستقبل الأولاد.. يا ويلي من المصير الذي ينتظرني!
عدت للهاتف أطالع عبره آخر ما وصلت إليه الهاشتجات التي تتناول القضية.. الملاعين.. لا يتوقفون.. كيف يغرد أكثر من مائة ألف حول موضوع واحد؟ كلكم علي.. ألا يوجد فاسد آخر؟.. بالتأكيد يوجد أكثر من ألف فاسد ولص.. بل ملايين.. ولكنهم يملكون حظوظا أفضل من حظي ومن حظ الأغبياء الذين شاركوني العملية الأخيرة..
كيف سيكون مصيري؟.. أتخيل نفسي في المحكمة.. خلف قفص الاتهام.. والكاميرات مسلطة علي.. والعيون مدببة إلي بكراهية.. ووكيل النائب العام يصدح كالكروان بأفعالي المشينة.. يشوح بيديه.. وينظر لي باحتقار.. ثم يطلب من القاضي الجليل أن يحكم علي بأقسى الأحكام.. لأنني وصمة عار على البلد.. وعلى المجتمع.. وعلى المكان الذي أعمل به.. المكان.. المكان الذي يعج بألف فاسد وفاسد لكن حظوظهم كما ذكرت أفضل.. ونصيبهم من الستر لم ينفد.. كم أعلم من العمليات ولكن أصحابها لم ينالوا ما أنال الآن من رعب وحصار.. خرجوا مكرمين يمسكون في اياديهم مكافآت نهاية الخدمة.. وصندوق الزمالة.. ويحتفظون بسير عطرة في المكان.. كأنما لم يجرموا قط.. وكأنما لم يكونوا أساتذة لي في كل ما أنفذه الآن!
وفجأة اقتحم الزملاء الباب..
سيشتمونني.. سيوبخونني على ما فعلت.. سيتهمونني بأنني اضررت بصورتهم أمام الناس والحكومة.. سيحملونني ذنوب فوق الذنوب التي تكاد تقضي علي..
ولكن.. ولكنهم على عكس ما تصورت، فرحين مهللين.. تكاد البراءة تنطق من وجوههم.. هل يا ترى لا يعرفوا ما يدور ويتناقل عبر الأنترنت؟
هتف زميل لي في حماسة:
- تستحقها يا أستاذ صالح.. تستحقها بل وبالعكس جاءت متأخرة!
قلت في سري: ويلك.. أتدعو علي؟.. جاءت متأخرة، اكنتم تتمنون لي المصائب طوال الفترة الماضية ولم ألحظ!
وقالت زميلة أخرى:
- ألف مبروك يا أستاذ صالح.. وكل التوفيق لك..
ألف مبروك على السجن.. أو على الرفد.. أو على الفضيحة.. يا لسواد قلبك!
قلت في عجز:
- ارجوكم.. انا مرهق ولا احتمل أي تجاوز أو سخرية.. أو تحامل..
هتف الزميل في حماسة أكبر:
- أي تجاوز وأي سخرية؟ بل تهنئة يا رجل..
- تهنئة بماذا؟ بالمصيبـ...
قاطعني وقال فرحا:
- بالترقية..
- ترقية؟
ونظرت لهم في دهشة..
- نعم ترقية.. لقد صدر قرار بترقيتك منذ ثوان.. وأبلغوني بطباعته وتوزيعه.
صمت وظللت افكر.. هل يمكن أن يخدعوني جميعا؟
رن الهاتف مجددا.. إنه مديري مرة أخرى..
- اسمع يا صالح..
- تحت أمرك يا سيدي..
- بالتأكيد عرفت الخبر.. ترقيتك..
- نعم.. والحقيقة أنني استغرب..
وأشرت لهم بالخروج كي يمنحوني الحرية بالكلام معه.. فخرجوا بعد أن طلبوا مني "الحلاوة" على الخبر السعيد..
- لا تستغرب شيئا.. نحن نحمي رجالنا.. ونحمي أنفسنا معك.. سمعتنا.. ومكانتنا.. ومصالحنا.. إن سقطت سيسقط خلفك الجميع.. ستتوجه لنا العيون وهيئات الرقابة..
همست: آها..
ثم عادت لهجته للصرامة وهو يوصيني:
- مرة أخرى اعمل حساباتك.. ولا تترك خلفك ذيلا.. واختر معاونيك بعناية...
وهم أن يغلق الهاتف.. فتذكرت أنني لم اسأله عن شيء هام، فهتفت به:
- ولكن يا سيدي... الهاشتجات التي تتداول الآن ويقولون فيها كل شيء..
سمعت ضحكته وهو يقول:
- دعك منهم، دعهم يتعبون أنفسهم.. يا صالح: خليهم يتسلوا!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
كتبت في مارس 2024 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
هاشتـــاج
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟.. هكذا كنت أهتف لنفسي بين دقيقة وأخرى، ثم انظر للهاتف من جديد للمرة المليون في ظهيرة هذا اليوم ربما، وأطالع عبره الأخبار وأمتعض بل أرتعب مما اقرأ.. معظم الأخبار تدور عني، عن قضية أنا متهم فيها.. قضية تهريب أطنان من الغذاء من المؤسسة بطرق غير شرعية.. لا أعرف كيف أتى بتفاصيلها الأبالسة ونشروها عبر فيسبوك، بل إن من التفاصيل ما لم أكن اعرفه أنا إطلاقا.. مثل عمولات بقية شركاء القضية.. نعم.. فيهم من آخذ أكثر مني، اللعنة لم أكن أعرف.. ولو عرفت لما... مهلا.. من قال إنها قضية؟ إنه أنا.. وهي ليست قضية حتى الآن.. لم يتم التحقيق فيها.. ولا يتعدى الأمر إلا هاشتاجات تطارد الفسدة والمفسدين ليس أكثر.. ولكن الموضوع كبر.. والكل يتحدث عنه.. أقلب في شريط ابحث وأقرأ ألقابي الجديدة: حرامي الشعب.. قضية فساد الأغذية.. لصوص القرن.. المهرب الأكبر.. من يحمي اللصوص؟ إلخ.. لقد صدعت رأسي مما قرأت وأتابع، فليفعلوا ما يفعلوا لا يهمني.. إن أوراقي سليمة.. وأي محامي بألف جنيه سيتكفل بإخراجي منها كالشعرة من العجين.. إنني....
وفجأة يرن الهاتف.. هاتف الشغل القديم.. العتيق.. رفعت السماعة بيد مرتعشة.. جاءني صوت صارم يسألني:
- صالح؟
إنه مديري المباشر.. وكيل الوزارة.. تلعثمت فترة، ولم اقدر أن أجيب.. بدا أنه رحيما بي، وأنه يقدر ما أعاني.. واصل:
- صالح.. هل تقرأ الأخبار الأخيرة؟
سكن قلبي وكاد يتوقف تقريبا..
حاولت أن اتخابث وسألته:
- أية أخبار يا سيدي؟ الحقيقة أنني لم أطالع أي خبر منذ الصباح..
صمت فترة، خلته أمامي وينظر لي في لؤم.. عضضت على شفتي وأردفت في ألم ومرارة:
- تقصد حضرتك الأخبار المتداولة عن قضية التهريب إياها؟
جاءني رده بسرعة:
- نعم.. أريد أن أسألك سؤالا واضحا: هل هي أخبار صحيحة؟
وجدتني أبكي دون إرادة مني.. وانتفض مكاني.. ولم استطع الرد.. فأغلق السماعة دون أن يبرد ناري بكلمة عن المصير الذي ينتظرني..
لا ريب أن السجن سيكون مصيري.. وأنهم سيكبرون القضية، حتى يخيل لمن لا يعرف أنه لا يوجد في مصر فاسد سواي.. أعلم ماذا سيحدث بالضبط.. ستكثر سكاكيني.. وسأكون كبش فداء لكل قضايا الفساد من أيام أخناتون حتى اليوم.. كل هذا لأني حاولت أن أؤمن مستقبلي ومستقبل الأولاد.. يا ويلي من المصير الذي ينتظرني!
عدت للهاتف أطالع عبره آخر ما وصلت إليه الهاشتجات التي تتناول القضية.. الملاعين.. لا يتوقفون.. كيف يغرد أكثر من مائة ألف حول موضوع واحد؟ كلكم علي.. ألا يوجد فاسد آخر؟.. بالتأكيد يوجد أكثر من ألف فاسد ولص.. بل ملايين.. ولكنهم يملكون حظوظا أفضل من حظي ومن حظ الأغبياء الذين شاركوني العملية الأخيرة..
كيف سيكون مصيري؟.. أتخيل نفسي في المحكمة.. خلف قفص الاتهام.. والكاميرات مسلطة علي.. والعيون مدببة إلي بكراهية.. ووكيل النائب العام يصدح كالكروان بأفعالي المشينة.. يشوح بيديه.. وينظر لي باحتقار.. ثم يطلب من القاضي الجليل أن يحكم علي بأقسى الأحكام.. لأنني وصمة عار على البلد.. وعلى المجتمع.. وعلى المكان الذي أعمل به.. المكان.. المكان الذي يعج بألف فاسد وفاسد لكن حظوظهم كما ذكرت أفضل.. ونصيبهم من الستر لم ينفد.. كم أعلم من العمليات ولكن أصحابها لم ينالوا ما أنال الآن من رعب وحصار.. خرجوا مكرمين يمسكون في اياديهم مكافآت نهاية الخدمة.. وصندوق الزمالة.. ويحتفظون بسير عطرة في المكان.. كأنما لم يجرموا قط.. وكأنما لم يكونوا أساتذة لي في كل ما أنفذه الآن!
وفجأة اقتحم الزملاء الباب..
سيشتمونني.. سيوبخونني على ما فعلت.. سيتهمونني بأنني اضررت بصورتهم أمام الناس والحكومة.. سيحملونني ذنوب فوق الذنوب التي تكاد تقضي علي..
ولكن.. ولكنهم على عكس ما تصورت، فرحين مهللين.. تكاد البراءة تنطق من وجوههم.. هل يا ترى لا يعرفوا ما يدور ويتناقل عبر الأنترنت؟
هتف زميل لي في حماسة:
- تستحقها يا أستاذ صالح.. تستحقها بل وبالعكس جاءت متأخرة!
قلت في سري: ويلك.. أتدعو علي؟.. جاءت متأخرة، اكنتم تتمنون لي المصائب طوال الفترة الماضية ولم ألحظ!
وقالت زميلة أخرى:
- ألف مبروك يا أستاذ صالح.. وكل التوفيق لك..
ألف مبروك على السجن.. أو على الرفد.. أو على الفضيحة.. يا لسواد قلبك!
قلت في عجز:
- ارجوكم.. انا مرهق ولا احتمل أي تجاوز أو سخرية.. أو تحامل..
هتف الزميل في حماسة أكبر:
- أي تجاوز وأي سخرية؟ بل تهنئة يا رجل..
- تهنئة بماذا؟ بالمصيبـ...
قاطعني وقال فرحا:
- بالترقية..
- ترقية؟
ونظرت لهم في دهشة..
- نعم ترقية.. لقد صدر قرار بترقيتك منذ ثوان.. وأبلغوني بطباعته وتوزيعه.
صمت وظللت افكر.. هل يمكن أن يخدعوني جميعا؟
رن الهاتف مجددا.. إنه مديري مرة أخرى..
- اسمع يا صالح..
- تحت أمرك يا سيدي..
- بالتأكيد عرفت الخبر.. ترقيتك..
- نعم.. والحقيقة أنني استغرب..
وأشرت لهم بالخروج كي يمنحوني الحرية بالكلام معه.. فخرجوا بعد أن طلبوا مني "الحلاوة" على الخبر السعيد..
- لا تستغرب شيئا.. نحن نحمي رجالنا.. ونحمي أنفسنا معك.. سمعتنا.. ومكانتنا.. ومصالحنا.. إن سقطت سيسقط خلفك الجميع.. ستتوجه لنا العيون وهيئات الرقابة..
همست: آها..
ثم عادت لهجته للصرامة وهو يوصيني:
- مرة أخرى اعمل حساباتك.. ولا تترك خلفك ذيلا.. واختر معاونيك بعناية...
وهم أن يغلق الهاتف.. فتذكرت أنني لم اسأله عن شيء هام، فهتفت به:
- ولكن يا سيدي... الهاشتجات التي تتداول الآن ويقولون فيها كل شيء..
سمعت ضحكته وهو يقول:
- دعك منهم، دعهم يتعبون أنفسهم.. يا صالح: خليهم يتسلوا!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
كتبت في مارس 2024 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ