قصة "شقاء" المنشورة في مجلة الثقافة الجديدة عدد شهر مايو 2024 ... كل الشكر للدكتورة عائشة المراغي Aisha Elmaraghy? ولأسرة المجلة المحترمة ?
____________________________________
شقاء
____________________________________
عم سعيد أسطى نجار مسلح .. يشتغل في شركة مقاولات خاصة .. ومتزوج وعنده ولدين وبنت .. والثلاثة في الجامعة .. ولذلك كان يعمل ليل نهار لأجل توفير احتياجاتهم .. ومطالبهم .. التي لا تنتهي.
وفي يوم كان واقفا على الخشبة .. في بناية جديدة تبنيها الشركة بالتعاون مع شركات أخرى في الصحراء .. وزلت قدمه .. وسقط من الدور الخامس!
ظل يصرخ على الأرض .. ويحاول أن ينهض ليتحسس قدميه اللتين أحس بآلام رهيبة فيهما .. إلا أنه لم يستطع .. فظل يتوجع ويصرخ ويمسك عينيه عن الدمع .. متخيلا أن أبناؤه بين الواقفين .. أو أن من بينهم من سيخبرهم على حاله بعدما سقط .. فتحمل قدر المستطاع.
ونقلته سيارة أحد المهندسين إلى أحد المستشفيات .. وبعد فحص قرر الأطباء أن يدخل العمليات لتجبيس قدم .. وبتر الأخرى!
ولما كان عم سعيد على الله .. ارزقي .. لا تأمين ولا ورق يثبت أنه شغال في الشركة من الأساس .. إلا أن الله قد وقف له أولاد الحلال الذين تكفلوا بالعملية .. ومنهم الرجل صاحب البناية .. والذي منحه بعد ما فاق مبلغ خمسة ألاف جنيه أيضا .. ليخفف من صدمته .. وبكاؤه الذي لم يخجل هذه المرة أن يذرفه .. وسط حضور زوجته وأولاده.
ظل في المستشفى أسبوعا .. ثم أخبره الأطباء أن المبلغ الذي وضع في حسابه قد نفد .. وأنه يمكنه أن يتابع العلاج من البيت .. فتناولت زوجته الهاتف .. وأخذت تطلب أرقام زملاؤه ومديريه وصاحب البناية لتخبرهم عما حدث .. لكن أحدا منهم لم يجيب .. فرفع إليها يده لتتوقف عن الاتصال .. ثم هز رأسه للأطباء ليخبرهم أنه موافق لما قرروه.
وعاد للبيت محمولا من أيدي الجيران والأقارب .. أرقدوه فوق فراشه .. ثم انصرفوا دون كلام باكيين .. وقبل أن ينزلوا مدوا أيديهم بما يستطيعون للست أم محمود .. قائلين أن اليد قصيرة لكن .. فشكرتهم المرأة الصابرة .. وطلبت منهم أن يدعوا له.
ولبث عم سعيد في البيت شهرين في غم ونكد .. يحترق قلبه كلما سمع أحد الأولاد أو البنت تطلب من أمها شيئا .. فتصمت السيدة .. وتقول لهم: الصبر .. ربنا يسهل .. فيسألها ماذا يريدون .. فتقول أنها أشياء بسيطة .. وستتصرف لإحضارها لهم.
لكنه يعلم أن لا شيء بسيطا في هذه الأيام .. كانت بداية ترم دراسي جديد .. والأولاد يحتاجون لبس .. وأدوات مدرسية .. والبنت أيضا تحتاج الكثير والكثير.
ويكاد يصرخ كلما فكر أن فرصة زواج ابنته قد تبددت تماما بعد ما جرى له .. كيف يجهزها؟
وكان يجلس مع زوجته .. يحدثها باكيا عن نصيبه من الدنيا .. وأنه كان يتمنى لها وللأولاد حياة أفضل .. غير أن نصيبه كما رأت .. ثم عرض عليها وقد انتحب أن يطلقها لتعود إلى أخوتها .. فانفجرت هي الأخرى باكية .. تترجاه أن يعدل عن هذا الخاطر .. وأنها قد رأت في كنفه الخير سنوات .. فلا يضير لو جربت الشقاء معه قليلا.
ونزل كل الولاد للعمل .. حتى البنت وجدت شغلة بائعة في محل ملابس .. ورغم أن هذه الشغلة لم ترق له .. إلا أنه لم يملك أن يعترض .. فصمت مكسورا .. وهو يشاهدها كل يوم ترتدي الضيق من اللبس ما يتناسب مع شغلتها الجديدة.
وأصبح البيت خاليا على الدوام بعدما نزلت المرأة أيضا للعمل .. خياطة في ورشة يملكها أحد الجيران.
وبعدها بفترة .. وقد برأ قليلا من الألآم التي كان يحس بها في ساقه .. نزل هو أيضا للعمل.
أحضر له أولاد الحلال وظيفة أمن في محل سوبر ماركت .. بعد ما المحل يغلق أبوابه تبدأ ورديته .. يظل فوق كرسيه يراقب المكان.
وهكذا لم يعد يرى اولاده .. ولا يرونه.
وكثيرا ما كان يستغل وحدته في العمل ليبكي وهو يتذكر الأيام التي كانت سعيدة .. ويحزن على نصيبه من الحياة.
منذ ولد يتيم الأم .. وتزوج أبوه بعدها بشهرين .. وكانت زوجة أبيه مؤذية .. سقته الويل .. وهي من ألحت على أبيه ليخرجه من المدرسة .. وكان شاطرا فيها .. وألحقته بورشة نجارة لدى قريب لها .. الشيء الذي لم تفعله مع أبناءها.
وكان يعلم أنها تخون أبيه .. لكنه لم يستطع أن يبوح بشيء.
وكان يعلم أن أكبر أولادها ليس من أبيه .. وإنما من قريبها الذي عمل عنده .. لكنه لم يستطع .. وكان يكتوي من الألم كلما شعر بمحبة أبيه للغلام الجديد .. ويهم أن يخبره بالحقيقة لولا خوفه عليه .. ليموت.
ثم أنجبت بدل الواحد خمسة .. ولا يدري إن كانوا جميعا مثل أخيهم الأكبر!
وترك لهم البيت .. وتزوج بعيدا .. ولم يعزم واحدا منهم .. ثم أنجب أبناؤه واحدا واحدا .. ويتذكر قصة كل واحد منهم .. فيبتسم .. ويدمع .. ويمسح عن عينيه دموع التأثر.
وفي ليلة كان في العمل كالعادة .. وأحس بجوع شديد .. ونظر لشنطته البلاستيك التي تضع له فيها زوجته قبل أن ينزل أرغفة عيش .. وجبن .. لكنه أكلهم جميعا منذ قليل.
وكان الجوع يقرص معدته .. فقام إلى المحل .. مستندا على عجازه .. ومشى نحو رف الأرغفة .. وتناول كيسا .. ثم توجه ناحية الجبن .. وقطع لنفسه قطعة صغيرة .. ثم عاد لمكانه .. وبدأ يأكل!
وفي الصباح جاء موظفي المحل .. ومعهم مديره .. الذي رأى ما كان يأكله .. فتجهم وجهه .. وصاح به: أيه دة؟
ارتبك .. وهو يرد:
- حضرتك كنت جعان .. فقلت أحط لي حاجة أكلها .. والفلوس كدة كدة جاهزة في جيبي أهوه هروح أحاسب عليهم على طول.
فنظر له الرجل نظرة استغراب .. ثم هز رأسه .. وطلب منه أن ينتظر .. وخرج.
ثم عاد .. ومعه موظفين الأمن .. الذين فتشونه بسرعة .. وهو متفاجئ من فعلهم .. أشاروا لمديرهم أن لا شيء آخر في جيوبه .. فنادى الرجل موظف الحسابات ليحاسبه على ما أكل.
فقال عم سعيد ضاحكا: ما كان من الأول!
وبعد ذلك أخرجه الموظفون من المحل .. وأخبروه أن عيشه هنا قد انقطع.
فصاح: يعني كنت أموت م الجوع؟
لم يردوا عليه .. وعادوا لعملهم .. فظل يتأملهم في حسرة .. ثم لوى جسده بالعكاز .. وتوجه صوب منزله .. حزينا .. يفكر في حال بنته وزوجته وولديه حينما يعود.
__________________________________________________ _________
كتبت في مارس 2024
__________________________________________________ _________
____________________________________
شقاء
____________________________________
عم سعيد أسطى نجار مسلح .. يشتغل في شركة مقاولات خاصة .. ومتزوج وعنده ولدين وبنت .. والثلاثة في الجامعة .. ولذلك كان يعمل ليل نهار لأجل توفير احتياجاتهم .. ومطالبهم .. التي لا تنتهي.
وفي يوم كان واقفا على الخشبة .. في بناية جديدة تبنيها الشركة بالتعاون مع شركات أخرى في الصحراء .. وزلت قدمه .. وسقط من الدور الخامس!
ظل يصرخ على الأرض .. ويحاول أن ينهض ليتحسس قدميه اللتين أحس بآلام رهيبة فيهما .. إلا أنه لم يستطع .. فظل يتوجع ويصرخ ويمسك عينيه عن الدمع .. متخيلا أن أبناؤه بين الواقفين .. أو أن من بينهم من سيخبرهم على حاله بعدما سقط .. فتحمل قدر المستطاع.
ونقلته سيارة أحد المهندسين إلى أحد المستشفيات .. وبعد فحص قرر الأطباء أن يدخل العمليات لتجبيس قدم .. وبتر الأخرى!
ولما كان عم سعيد على الله .. ارزقي .. لا تأمين ولا ورق يثبت أنه شغال في الشركة من الأساس .. إلا أن الله قد وقف له أولاد الحلال الذين تكفلوا بالعملية .. ومنهم الرجل صاحب البناية .. والذي منحه بعد ما فاق مبلغ خمسة ألاف جنيه أيضا .. ليخفف من صدمته .. وبكاؤه الذي لم يخجل هذه المرة أن يذرفه .. وسط حضور زوجته وأولاده.
ظل في المستشفى أسبوعا .. ثم أخبره الأطباء أن المبلغ الذي وضع في حسابه قد نفد .. وأنه يمكنه أن يتابع العلاج من البيت .. فتناولت زوجته الهاتف .. وأخذت تطلب أرقام زملاؤه ومديريه وصاحب البناية لتخبرهم عما حدث .. لكن أحدا منهم لم يجيب .. فرفع إليها يده لتتوقف عن الاتصال .. ثم هز رأسه للأطباء ليخبرهم أنه موافق لما قرروه.
وعاد للبيت محمولا من أيدي الجيران والأقارب .. أرقدوه فوق فراشه .. ثم انصرفوا دون كلام باكيين .. وقبل أن ينزلوا مدوا أيديهم بما يستطيعون للست أم محمود .. قائلين أن اليد قصيرة لكن .. فشكرتهم المرأة الصابرة .. وطلبت منهم أن يدعوا له.
ولبث عم سعيد في البيت شهرين في غم ونكد .. يحترق قلبه كلما سمع أحد الأولاد أو البنت تطلب من أمها شيئا .. فتصمت السيدة .. وتقول لهم: الصبر .. ربنا يسهل .. فيسألها ماذا يريدون .. فتقول أنها أشياء بسيطة .. وستتصرف لإحضارها لهم.
لكنه يعلم أن لا شيء بسيطا في هذه الأيام .. كانت بداية ترم دراسي جديد .. والأولاد يحتاجون لبس .. وأدوات مدرسية .. والبنت أيضا تحتاج الكثير والكثير.
ويكاد يصرخ كلما فكر أن فرصة زواج ابنته قد تبددت تماما بعد ما جرى له .. كيف يجهزها؟
وكان يجلس مع زوجته .. يحدثها باكيا عن نصيبه من الدنيا .. وأنه كان يتمنى لها وللأولاد حياة أفضل .. غير أن نصيبه كما رأت .. ثم عرض عليها وقد انتحب أن يطلقها لتعود إلى أخوتها .. فانفجرت هي الأخرى باكية .. تترجاه أن يعدل عن هذا الخاطر .. وأنها قد رأت في كنفه الخير سنوات .. فلا يضير لو جربت الشقاء معه قليلا.
ونزل كل الولاد للعمل .. حتى البنت وجدت شغلة بائعة في محل ملابس .. ورغم أن هذه الشغلة لم ترق له .. إلا أنه لم يملك أن يعترض .. فصمت مكسورا .. وهو يشاهدها كل يوم ترتدي الضيق من اللبس ما يتناسب مع شغلتها الجديدة.
وأصبح البيت خاليا على الدوام بعدما نزلت المرأة أيضا للعمل .. خياطة في ورشة يملكها أحد الجيران.
وبعدها بفترة .. وقد برأ قليلا من الألآم التي كان يحس بها في ساقه .. نزل هو أيضا للعمل.
أحضر له أولاد الحلال وظيفة أمن في محل سوبر ماركت .. بعد ما المحل يغلق أبوابه تبدأ ورديته .. يظل فوق كرسيه يراقب المكان.
وهكذا لم يعد يرى اولاده .. ولا يرونه.
وكثيرا ما كان يستغل وحدته في العمل ليبكي وهو يتذكر الأيام التي كانت سعيدة .. ويحزن على نصيبه من الحياة.
منذ ولد يتيم الأم .. وتزوج أبوه بعدها بشهرين .. وكانت زوجة أبيه مؤذية .. سقته الويل .. وهي من ألحت على أبيه ليخرجه من المدرسة .. وكان شاطرا فيها .. وألحقته بورشة نجارة لدى قريب لها .. الشيء الذي لم تفعله مع أبناءها.
وكان يعلم أنها تخون أبيه .. لكنه لم يستطع أن يبوح بشيء.
وكان يعلم أن أكبر أولادها ليس من أبيه .. وإنما من قريبها الذي عمل عنده .. لكنه لم يستطع .. وكان يكتوي من الألم كلما شعر بمحبة أبيه للغلام الجديد .. ويهم أن يخبره بالحقيقة لولا خوفه عليه .. ليموت.
ثم أنجبت بدل الواحد خمسة .. ولا يدري إن كانوا جميعا مثل أخيهم الأكبر!
وترك لهم البيت .. وتزوج بعيدا .. ولم يعزم واحدا منهم .. ثم أنجب أبناؤه واحدا واحدا .. ويتذكر قصة كل واحد منهم .. فيبتسم .. ويدمع .. ويمسح عن عينيه دموع التأثر.
وفي ليلة كان في العمل كالعادة .. وأحس بجوع شديد .. ونظر لشنطته البلاستيك التي تضع له فيها زوجته قبل أن ينزل أرغفة عيش .. وجبن .. لكنه أكلهم جميعا منذ قليل.
وكان الجوع يقرص معدته .. فقام إلى المحل .. مستندا على عجازه .. ومشى نحو رف الأرغفة .. وتناول كيسا .. ثم توجه ناحية الجبن .. وقطع لنفسه قطعة صغيرة .. ثم عاد لمكانه .. وبدأ يأكل!
وفي الصباح جاء موظفي المحل .. ومعهم مديره .. الذي رأى ما كان يأكله .. فتجهم وجهه .. وصاح به: أيه دة؟
ارتبك .. وهو يرد:
- حضرتك كنت جعان .. فقلت أحط لي حاجة أكلها .. والفلوس كدة كدة جاهزة في جيبي أهوه هروح أحاسب عليهم على طول.
فنظر له الرجل نظرة استغراب .. ثم هز رأسه .. وطلب منه أن ينتظر .. وخرج.
ثم عاد .. ومعه موظفين الأمن .. الذين فتشونه بسرعة .. وهو متفاجئ من فعلهم .. أشاروا لمديرهم أن لا شيء آخر في جيوبه .. فنادى الرجل موظف الحسابات ليحاسبه على ما أكل.
فقال عم سعيد ضاحكا: ما كان من الأول!
وبعد ذلك أخرجه الموظفون من المحل .. وأخبروه أن عيشه هنا قد انقطع.
فصاح: يعني كنت أموت م الجوع؟
لم يردوا عليه .. وعادوا لعملهم .. فظل يتأملهم في حسرة .. ثم لوى جسده بالعكاز .. وتوجه صوب منزله .. حزينا .. يفكر في حال بنته وزوجته وولديه حينما يعود.
__________________________________________________ _________
كتبت في مارس 2024
__________________________________________________ _________