خاطرة من الذاكرة
ولد أبي : رعدون علي الرعدون
في العام (1921 ) في حارة الرعادنة داخل الأسوار في قلعة المضيق ،
ونشأ وترعرع في بيت علي الرعدون مختار القلعة لمدة ( 36 ) سنة متواصلة ،
تبدأ بعد الإنتهاء من الحرب العالمية الأولى ( سفر برلك )
وبعد عودته سالما من حروب السلطنة مع الإنكليز في غزة ،
وكان بيت المختار مزدحما بالناس والضيوف وأصحاب الحاجة ،
من الرائحين والغادين ، وأوضته عامرة بالزوار ليلا نهارا ،
وخصوصا زواره ومحبيه ،
وفي سهرات الأوضة كانت تدار القصص والحكايات والأحاديث ، ذات العبر ،،،
في البيت والأوضة كان الحمل كبيرا على أم رعدون ،
فويلها في خدمة أولادها وتربيتهم وتلبية حاجاتهم ،
أو في القيام في أودالضيوف ، والزوار الكثر ،
إلى أوضة علي الرعدون فكانت تنقل الماء بالخلقين من عين العمارة على رأسها
كل تلك المسافة ،
أو بالراوية المحمولة على الدابة من البركة الى تلك الحارة الداخلية ،
حيث يجب أن تبقى الخابية الكبيرة مليئة بالماء تحسبا للطوارئ ،
وكان عليها أن تحضر خبز التنورلأسرتها ،
وتعمل حساب الضيفان الكثر ،
أما كل طبخها فكان على موقد التفية ( موقد الشتاء أيضا ) ،
حيث لم تكن البوابير متوفرة بعد ،
ومواد التدفئة للتفية والتنور مكونة من الحطب والقصرين والجللي وعيدان الجرزون ،
وكان لديهم قدور نحاسية بمقاسات متعددة ،
لإستخدام المناسب منها بالوقت المحدد ،
وكذلك صواني نحاسية متعددة المقاسات مسطورة ،
فبعضها تحتاج لرجلين لحملها ،
أما في أوضة علي الرعدون ،
ففيها منقل نحاسي كبير ، بأرجل نمر ،
وإثنا عشرة دلة قهوة نحاسية تبدأ بالصغيرة العادية ،
وتنتهي بالكبيرة بالتدريج ،
مسطرة بجانب المنقل وبجوار مصب الطبخ الأزرق المزجج ( التشينكو ) كأنه أمير عرب ،،،،،
وقد كنت أحتفظ بمرسمي بمجموعة كبيرة من أدوات جدي علي الرعدون كالمهباج الخشبي ، والمحماص الحديدي وقمطته رحمه الله ، ومجموعة كبيرة من ملاعقه النحاسية الكبيرة التي كان يبيضها كل عام. عند أبو محمد المبيض ، الذي يزور القلعة موسميا في كل عام ،
أما رعدون الطفل فكان مدلل البيت ،
حيث تهتم به أخته زهدة ،
أيما إهتمام ، فهو شغلها الشاغل ،
وهو حصتها من العمل ، ورفيقها الدائم ،
وهي مسؤولة عن إطعامه وإلباسه ونظافته ،
وهي التي تبقى في إعالته عندما تذهب أمه زينب إلى الحقول
في بعض شؤون الأسرة ،
كان رعدون أشقر الوجه ، أزرق العينين ، جميل المحيا
كأنه ملاكا في ثوب طفل ،
وكانت أمه زينب تخاف عليه من الهوا الطاير ،،،
وتخاف عليه من عيون الحاسدين ،
وتشرح لإبنتها زهدة عن حسد الحاسدين للطفل الجميل ،
وكيف يصيبونه بالعين فيمرض ،
وقد يموت من عيونهم ،
فكانت زهدة تسحب بإصبعين من أصابعها على قفى طنجرة الطبخ ،
لتدهن وجه أخيها إشارات ببعض الشحوار ،
إتقاء عيون الحاسدين ،
وهي تقرأ له سورة الكرسي ( حفظا له ) وتقول :
( عين الحاسد تبلى بالعمى )
( عين الحسود فيها عود ) ،،،
وبحسها الفطري كانت تقول :
عليك أن لا تخبر الناس بكل شيئ جميل تملكه ،
فليس الجميع لديهم حسن النوايا ،،،
،بل معظمهم لديه الحسد والغيرة
كما كانت تتابع في شرحها فتقول :
لاتحكي للناس جراحك حتى لا تكون
أنت وألمك قصة للترفيه ،
أو أحاديث الآخرين ، لأن بعض البشر يتراقصون على أنغام جراحك ،
وكانت عمتنا ،،نذهب إليها عندما كبرنا
فتتلقانا بترحاب وإبتسامة
وترعانا حق الرعاية ،
وهي التي ربت إبنها الشيخ علي الحسن الرعدون
أبا حسن على الأخلاق العالية والسلوك القويم ،،،
وذات سهرة بجانب التفية ( موقدها المفضل )
وهو موقد الشتاء والطبخ ،
قبل أن توجد بوابير الكاز
حكت لي عن أبي عندما كان صغيرا ،
كيف كانت العيون بالحارة تتلقفه لجمال وجهه وزرقة عينيه،
فكان أشبه بملاك صغير ،
وكيف كانت تدهن وجهه بشحوار الطنجرة لتدرأ عنه الإصابة بالعين ،
وقالت ( العين حق ) وذات مرة ذهبت أمهما إلى الحقل
في يوم الحصاد فهي موكلة بزوادة الفعالة في الحقل ،
فهي مسؤولة عن طعامهم وسقايتهم ،
حيث تنقل لهم ماء الشرب من عين وادي الجفار ، ( الخرايق )
وتركت زهدة عند أخيها لتدير شؤونه وترعاه ،
حق الرعاية ، وظلت توصيها به حتى صارت خارج حوش الدار ،
وأثناء النهار ، وبعد أن سودت له وجهه بالشحوار
ولاعبته كثيرا ، خطر على بالها خاطر فحملته على رقبتها ،
ودلدلت له رجليه من على كتفيها ،
وأمسك هو برأسها ،
ثم خرجت إلى أرض الدار لبعض شأنها ،
وبعد مرور الوقت وقد غاب عن ناظريها ،
نسيت أنه على كتفيها ،
وبدأت بالبحث عنه ،
ثم إنها بدأت تنوح عليه لإفتقادها له ،
وخرجت تجاه بيت العم بالحارة فلم تجده ،
وعادت إلى حوش الدار فلم تجده ،
وإزدادت لوعتها ، فخرجت ثانية ،
وواجهت زوجة عمها قماشي ،
التي سألتها بدورها عن سر بكائها ،
فقالت لها لقد ضيعت رعدون ،
وردت قماشي على الفور :
(يا عتاري ، ماو ليكيه على كتافك ) ،،،
وقتها أحست زهدة بأخيها على كتفيها
وهو ساكت لا يفهم لماذا تبكي أخته ،
وقفلت راجعة الى البيت ،
وهي تؤنبه بأنه لم يتحرك ، أو يصيح ، أو يبكي ليشعرها بوجوده ،
رعدون أبو محمد والدي ،
بقي العمر كله يشعر بالوداد لأخته زهدة ،
ويزورها بين الفينة والأخزى ،
أليست هي التي ربته وكانت الأم الصغرى له،
وبقي كذلك حتى
فرق الموت بينهما ،،،،
مصطفى رعدون
خاطرة من الذاكرة
ولد أبي : رعدون علي الرعدون
في العام (1921 ) في حارة الرعادنة داخل الأسوار في قلعة المضيق ،
ونشأ وترعرع في بيت علي الرعدون مختار القلعة لمدة ( 36 ) سنة متواصلة ،
تبدأ بعد الإنتهاء من الحرب العالمية الأولى ( سفر برلك )
وبعد عودته سالما من حروب السلطنة مع الإنكليز في غزة ،
وكان بيت المختار مزدحما بالناس والضيوف وأصحاب الحاجة ،
من الرائحين والغادين ، وأوضته عامرة بالزوار ليلا نهارا ،
وخصوصا زواره ومحبيه ،
وفي سهرات الأوضة كانت تدار القصص والحكايات والأحاديث ، ذات العبر ،،،
في البيت والأوضة كان الحمل كبيرا على أم رعدون ،
فويلها في خدمة أولادها وتربيتهم وتلبية حاجاتهم ،
أو في القيام في أودالضيوف ، والزوار الكثر ،
إلى أوضة علي الرعدون فكانت تنقل الماء بالخلقين من عين العمارة على رأسها
كل تلك المسافة ،
أو بالراوية المحمولة على الدابة من البركة الى تلك الحارة الداخلية ،
حيث يجب أن تبقى الخابية الكبيرة مليئة بالماء تحسبا للطوارئ ،
وكان عليها أن تحضر خبز التنورلأسرتها ،
وتعمل حساب الضيفان الكثر ،
أما كل طبخها فكان على موقد التفية ( موقد الشتاء أيضا ) ،
حيث لم تكن البوابير متوفرة بعد ،
ومواد التدفئة للتفية والتنور مكونة من الحطب والقصرين والجللي وعيدان الجرزون ،
وكان لديهم قدور نحاسية بمقاسات متعددة ،
لإستخدام المناسب منها بالوقت المحدد ،
وكذلك صواني نحاسية متعددة المقاسات مسطورة ،
فبعضها تحتاج لرجلين لحملها ،
أما في أوضة علي الرعدون ،
ففيها منقل نحاسي كبير ، بأرجل نمر ،
وإثنا عشرة دلة قهوة نحاسية تبدأ بالصغيرة العادية ،
وتنتهي بالكبيرة بالتدريج ،
مسطرة بجانب المنقل وبجوار مصب الطبخ الأزرق المزجج ( التشينكو ) كأنه أمير عرب ،،،،،
وقد كنت أحتفظ بمرسمي بمجموعة كبيرة من أدوات جدي علي الرعدون كالمهباج الخشبي ، والمحماص الحديدي وقمطته رحمه الله ، ومجموعة كبيرة من ملاعقه النحاسية الكبيرة التي كان يبيضها كل عام. عند أبو محمد المبيض ، الذي يزور القلعة موسميا في كل عام ،
أما رعدون الطفل فكان مدلل البيت ،
حيث تهتم به أخته زهدة ،
أيما إهتمام ، فهو شغلها الشاغل ،
وهو حصتها من العمل ، ورفيقها الدائم ،
وهي مسؤولة عن إطعامه وإلباسه ونظافته ،
وهي التي تبقى في إعالته عندما تذهب أمه زينب إلى الحقول
في بعض شؤون الأسرة ،
كان رعدون أشقر الوجه ، أزرق العينين ، جميل المحيا
كأنه ملاكا في ثوب طفل ،
وكانت أمه زينب تخاف عليه من الهوا الطاير ،،،
وتخاف عليه من عيون الحاسدين ،
وتشرح لإبنتها زهدة عن حسد الحاسدين للطفل الجميل ،
وكيف يصيبونه بالعين فيمرض ،
وقد يموت من عيونهم ،
فكانت زهدة تسحب بإصبعين من أصابعها على قفى طنجرة الطبخ ،
لتدهن وجه أخيها إشارات ببعض الشحوار ،
إتقاء عيون الحاسدين ،
وهي تقرأ له سورة الكرسي ( حفظا له ) وتقول :
( عين الحاسد تبلى بالعمى )
( عين الحسود فيها عود ) ،،،
وبحسها الفطري كانت تقول :
عليك أن لا تخبر الناس بكل شيئ جميل تملكه ،
فليس الجميع لديهم حسن النوايا ،،،
،بل معظمهم لديه الحسد والغيرة
كما كانت تتابع في شرحها فتقول :
لاتحكي للناس جراحك حتى لا تكون
أنت وألمك قصة للترفيه ،
أو أحاديث الآخرين ، لأن بعض البشر يتراقصون على أنغام جراحك ،
وكانت عمتنا ،،نذهب إليها عندما كبرنا
فتتلقانا بترحاب وإبتسامة
وترعانا حق الرعاية ،
وهي التي ربت إبنها الشيخ علي الحسن الرعدون
أبا حسن على الأخلاق العالية والسلوك القويم ،،،
وذات سهرة بجانب التفية ( موقدها المفضل )
وهو موقد الشتاء والطبخ ،
قبل أن توجد بوابير الكاز
حكت لي عن أبي عندما كان صغيرا ،
كيف كانت العيون بالحارة تتلقفه لجمال وجهه وزرقة عينيه،
فكان أشبه بملاك صغير ،
وكيف كانت تدهن وجهه بشحوار الطنجرة لتدرأ عنه الإصابة بالعين ،
وقالت ( العين حق ) وذات مرة ذهبت أمهما إلى الحقل
في يوم الحصاد فهي موكلة بزوادة الفعالة في الحقل ،
فهي مسؤولة عن طعامهم وسقايتهم ،
حيث تنقل لهم ماء الشرب من عين وادي الجفار ، ( الخرايق )
وتركت زهدة عند أخيها لتدير شؤونه وترعاه ،
حق الرعاية ، وظلت توصيها به حتى صارت خارج حوش الدار ،
وأثناء النهار ، وبعد أن سودت له وجهه بالشحوار
ولاعبته كثيرا ، خطر على بالها خاطر فحملته على رقبتها ،
ودلدلت له رجليه من على كتفيها ،
وأمسك هو برأسها ،
ثم خرجت إلى أرض الدار لبعض شأنها ،
وبعد مرور الوقت وقد غاب عن ناظريها ،
نسيت أنه على كتفيها ،
وبدأت بالبحث عنه ،
ثم إنها بدأت تنوح عليه لإفتقادها له ،
وخرجت تجاه بيت العم بالحارة فلم تجده ،
وعادت إلى حوش الدار فلم تجده ،
وإزدادت لوعتها ، فخرجت ثانية ،
وواجهت زوجة عمها قماشي ،
التي سألتها بدورها عن سر بكائها ،
فقالت لها لقد ضيعت رعدون ،
وردت قماشي على الفور :
(يا عتاري ، ماو ليكيه على كتافك ) ،،،
وقتها أحست زهدة بأخيها على كتفيها
وهو ساكت لا يفهم لماذا تبكي أخته ،
وقفلت راجعة الى البيت ،
وهي تؤنبه بأنه لم يتحرك ، أو يصيح ، أو يبكي ليشعرها بوجوده ،
رعدون أبو محمد والدي ،
بقي العمر كله يشعر بالوداد لأخته زهدة ،
ويزورها بين الفينة والأخزى ،
أليست هي التي ربته وكانت الأم الصغرى له،
وبقي كذلك حتى
فرق الموت بينهما ،،،،
مصطفى رعدون
تعليق