تويت
جمال خليل يجسد سطوة الحالة وانبثاق القلق
إيقاعات بطيئة تواكب عملية التأمل في الذاكرة الموجعة.
الاثنين 2024/05/06
فنان يرسم مشاعره ومشاعر كل الناس الغامضة
جمال خليل، فنان تشكيلي دائم القلق، توحي لوحاته وشخوصه بأنه قلق بالنيابة عن كل الأماكن والأشخاص الذين يعانون من ظروف صعبة في زمننا الراهن، يتعامل مع ذلك القلق بجدية مفرطة، تحني ظهور شخوصه وتمنحها ملامح ضبابية وحركة رتيبة ومملة.
في خضم الظروف التي أصبح فيها العباد والبلاد في مهب الريح، جميل أن يأتي امرؤ ما ويعلن عن انخراطه في صياغات جمالية إبداعية تشكل رؤيته في ما يحصل، منطلقا من سيرورات إدراكية باعتبارها إحدى الطرق القرائية التي يمكن من خلالها استحضار الوقائع في شروطها الأولية الموضوعية منها واللا موضوعية والانغماس فيها وفي شتى لحظاتها وحالاتها.
هذا هو الأساس الذي يبني جمال خليل بناءه عليه عبر ردح من الزمن مُذ ركب سفينة الاغتراب قبل عقدين وأكثر إلى هبوب العاصفة الهوجاء التي اقتلعت الكثير من مظاهر الحياة ضمن طقوس ظامئة للغرق، ضمن طقوس هي مزيج من الدمار والخراب والدم ويمكن تلخيصها بطوفان خوف من الغياب والمجهول والنار.
أقول ضمن هذه المعمعة المرة يرسم خليل مشاعره الغامضة ليطلقها في تجربة، في رحلة تستحوذ على الحكاية كلها، بمشاهدها المختلفة ويؤججها خليل بأصابعه وبمشاعره مبحرا في سواحلها وفي بعض هوامشها ومنتظرا سطوة الحالة وانبثاق جذورها من بين وديانه الساكنة فيه وبالأصوات الخارجة من أعشاشها.
هو يروي عواطف خارجة عن المألوف وبحساسية فائقة ومغايرة تجاه ما يرويه بكل روعة حب الحياة، فهو يرفع الستار عن المسافات الحزينة بذاكرة غير محايدة بدءا من العتبات الثانوية كفصل مثير من الحكاية ذاتها ومرورا بأسفارها وأسرارها التي تتوزع عليها مروياته شاقا طريقه نحو اختلاط رؤيته بالدهشة متعددة الأصوات والزاخرة بعمق نسيجها وعمق رائحة عبقها داخل وقع وجهته الجمالية، فخليل يلقي بمعارفه المعلنة منها وغير المعلنة في أتون التجريب وسياقه الحامل لمقوماته كلها من خلال نماذج وإشكاليات تجعله قادرا على إثارة اهتمام المتلقي في بداية العويل مجسدا بذلك حضوره اللافت في عمله وهذا بحد ذاته اختزال وفي لسرده وتقاطعه مع تدخلاته الذاتية بوصفها مجريات يمضي خليل عبرها إلى ممالك الشمال وسحبه الكثيرة والماطرة بالوجع على امتداد سرد الحكاية بل على امتداد الزمن.
يعلن خليل من داخل متن أعماله عن جنازة النهر/الحياة، وجنازة الإنسان مهما سما واستطال، فالثيران الهائجة على تعكير هذا النهر لا تهدأ، وعفاريت الليل تتقمص الهيولى وتستدعي حكاياتها وتهرول بها نحو التهويل والتجريم، فالفزع وبأبعاده المختلفة يختفي في الحكاية حتى يلتقي باللعبة على نحو أشكال وأوضاع واستطالات دون أن تغلق الباب خلفها، والجميع يجهش في الشارع الطويل على سبيل اليقين، لا شيء يعيش، فكل الأشياء موغلة في النعيق وإن كانت وجوه خليل المرتعشة تهتف بالسحائب لتخترق المسافة والطريق، وإن كانت الملامح قد سقطت بين رفات النهر.
الوضع المتدني للجانب الإنساني يجعل من الفنان جمال خليل يتعامل بالكثير من الجدية مع الحلقات المملة والقاتلة لهذا العالم، فهو يقترب من سطح اللوحة بكل ألم، الألم الذي يستوجب الحذر كل الحذر حتى يحسم التعيينات التي تخلق الكثير من الالتباس داخل الحكاية ذاتها وإن بغياب صوت السارد في بعض الأحيان، ومع ذلك فخليل لا ينسى أن يربط خيوط ألمها بوجوه بعضها بعضا، وجوه مدهشة بمبالغتها، مرهفة حتى وهي مغتربة، لكن الخوف يدفعها إلى أبجدية أخرى، إلى سيرة أخرى أقل ما يقال عنها قاسية جدا إلى حد الاختمار.
خليل فنان متفهم لانفعالات شخوصه، يتعامل معها كأنه يحرث في تربة خصبة، وهو سعيد بذلك لأنه يلبي حاجاتها لضرورات تعبيرية خاصة به من جهة وهي ضرورات حياتية زمنية من جهة ثانية.
إنه يقود شخوصه بهدوء شديد على شكل أسراب نحو حلمها الذي يوازي بدايتها وهي تسير بكل وجعها نحو مقصلة غير منتهية دون أن تبدي أي رفض أو تذمر، إلا أنه أيضا يبذل جهدا لا بأس به وهو يحملها وملامحها بوداعة وحب إلى الفراغ الذي يعمل فيه لتطفو في مداها حتى ترمى متعبة في لوحته وتملأ الثغرات في مساحاتها، وإن كان بعضها يرغب في الهروب إلى ماض أو ربما إلى غد قد لا يصل إليه أبدا مع استمرارية تواتر حكاياتها بتلميحاتها القائمة على عدم الاستسلام لقدرها بل يواجه السموات بقدها الناطحة للضوء وللهواء، ويواجه الريح بخفايا صدورها وتمتماتها.
عالم شخوصه يستقي حضوره من تفعيل الحكاية واستغرابها، من حركيّة العتبات والبحث عن البؤر، من استدعاء التقطيعات المصوغة ذهنيا مع ما يلائم الانخراط في سياقها السردي، وهذا ما يجعل خليل يتباطأ قليلا في إيقاعاته وهو يقرب عمله من حالات فيها تتسع دائرة التأمل عمقا، من حالات فيها تكثر أوراق الانزياح المقنن وهي مبللة بأحاسيسه ودموعها.
هذا وحده قد يكون كافيا لتحديد جمالية العمل الفني لدى جمال خليل، يبيح له استخدام كائنات متقاربة ومتراصة تحسم الحكاية وتختفي في اللج جمعا لتضبط بؤس الأصقاع المتباعدة، وبؤس المآل وأوهامها، أي أن خليل ينجز الفعل في مصائر مخلوقاته من سعيرها وفي جنازة النهر من نبضاته المؤثرة، فالاعتقاد بغزارة النوتات ملحمة، والاقتراب من التشكيلات الحديثة توسعة للذاكرة نحو كسر رتابتها وتوظيف رؤيتها بغنائيات حزينة يمارسها خليل بالطريقة التي تجعله يتحسس إغراق الضوء في العتمة.
◄ إيقاعات متباطئة
◄ الفنان يرسم شخوصه بهدوء شديد على شكل أسراب نحو حلمها الذي يوازي بدايتها
◄ خليل ينجز الفعل في مصائر مخلوقاته من سعيرها وفي جنازة النهر من نبضاته المؤثرة
غريب ملا زلال
كاتب سوري
إيقاعات بطيئة تواكب عملية التأمل في الذاكرة الموجعة.
الاثنين 2024/05/06
فنان يرسم مشاعره ومشاعر كل الناس الغامضة
جمال خليل، فنان تشكيلي دائم القلق، توحي لوحاته وشخوصه بأنه قلق بالنيابة عن كل الأماكن والأشخاص الذين يعانون من ظروف صعبة في زمننا الراهن، يتعامل مع ذلك القلق بجدية مفرطة، تحني ظهور شخوصه وتمنحها ملامح ضبابية وحركة رتيبة ومملة.
في خضم الظروف التي أصبح فيها العباد والبلاد في مهب الريح، جميل أن يأتي امرؤ ما ويعلن عن انخراطه في صياغات جمالية إبداعية تشكل رؤيته في ما يحصل، منطلقا من سيرورات إدراكية باعتبارها إحدى الطرق القرائية التي يمكن من خلالها استحضار الوقائع في شروطها الأولية الموضوعية منها واللا موضوعية والانغماس فيها وفي شتى لحظاتها وحالاتها.
هذا هو الأساس الذي يبني جمال خليل بناءه عليه عبر ردح من الزمن مُذ ركب سفينة الاغتراب قبل عقدين وأكثر إلى هبوب العاصفة الهوجاء التي اقتلعت الكثير من مظاهر الحياة ضمن طقوس ظامئة للغرق، ضمن طقوس هي مزيج من الدمار والخراب والدم ويمكن تلخيصها بطوفان خوف من الغياب والمجهول والنار.
أقول ضمن هذه المعمعة المرة يرسم خليل مشاعره الغامضة ليطلقها في تجربة، في رحلة تستحوذ على الحكاية كلها، بمشاهدها المختلفة ويؤججها خليل بأصابعه وبمشاعره مبحرا في سواحلها وفي بعض هوامشها ومنتظرا سطوة الحالة وانبثاق جذورها من بين وديانه الساكنة فيه وبالأصوات الخارجة من أعشاشها.
هو يروي عواطف خارجة عن المألوف وبحساسية فائقة ومغايرة تجاه ما يرويه بكل روعة حب الحياة، فهو يرفع الستار عن المسافات الحزينة بذاكرة غير محايدة بدءا من العتبات الثانوية كفصل مثير من الحكاية ذاتها ومرورا بأسفارها وأسرارها التي تتوزع عليها مروياته شاقا طريقه نحو اختلاط رؤيته بالدهشة متعددة الأصوات والزاخرة بعمق نسيجها وعمق رائحة عبقها داخل وقع وجهته الجمالية، فخليل يلقي بمعارفه المعلنة منها وغير المعلنة في أتون التجريب وسياقه الحامل لمقوماته كلها من خلال نماذج وإشكاليات تجعله قادرا على إثارة اهتمام المتلقي في بداية العويل مجسدا بذلك حضوره اللافت في عمله وهذا بحد ذاته اختزال وفي لسرده وتقاطعه مع تدخلاته الذاتية بوصفها مجريات يمضي خليل عبرها إلى ممالك الشمال وسحبه الكثيرة والماطرة بالوجع على امتداد سرد الحكاية بل على امتداد الزمن.
يعلن خليل من داخل متن أعماله عن جنازة النهر/الحياة، وجنازة الإنسان مهما سما واستطال، فالثيران الهائجة على تعكير هذا النهر لا تهدأ، وعفاريت الليل تتقمص الهيولى وتستدعي حكاياتها وتهرول بها نحو التهويل والتجريم، فالفزع وبأبعاده المختلفة يختفي في الحكاية حتى يلتقي باللعبة على نحو أشكال وأوضاع واستطالات دون أن تغلق الباب خلفها، والجميع يجهش في الشارع الطويل على سبيل اليقين، لا شيء يعيش، فكل الأشياء موغلة في النعيق وإن كانت وجوه خليل المرتعشة تهتف بالسحائب لتخترق المسافة والطريق، وإن كانت الملامح قد سقطت بين رفات النهر.
الوضع المتدني للجانب الإنساني يجعل من الفنان جمال خليل يتعامل بالكثير من الجدية مع الحلقات المملة والقاتلة لهذا العالم، فهو يقترب من سطح اللوحة بكل ألم، الألم الذي يستوجب الحذر كل الحذر حتى يحسم التعيينات التي تخلق الكثير من الالتباس داخل الحكاية ذاتها وإن بغياب صوت السارد في بعض الأحيان، ومع ذلك فخليل لا ينسى أن يربط خيوط ألمها بوجوه بعضها بعضا، وجوه مدهشة بمبالغتها، مرهفة حتى وهي مغتربة، لكن الخوف يدفعها إلى أبجدية أخرى، إلى سيرة أخرى أقل ما يقال عنها قاسية جدا إلى حد الاختمار.
خليل فنان متفهم لانفعالات شخوصه، يتعامل معها كأنه يحرث في تربة خصبة، وهو سعيد بذلك لأنه يلبي حاجاتها لضرورات تعبيرية خاصة به من جهة وهي ضرورات حياتية زمنية من جهة ثانية.
إنه يقود شخوصه بهدوء شديد على شكل أسراب نحو حلمها الذي يوازي بدايتها وهي تسير بكل وجعها نحو مقصلة غير منتهية دون أن تبدي أي رفض أو تذمر، إلا أنه أيضا يبذل جهدا لا بأس به وهو يحملها وملامحها بوداعة وحب إلى الفراغ الذي يعمل فيه لتطفو في مداها حتى ترمى متعبة في لوحته وتملأ الثغرات في مساحاتها، وإن كان بعضها يرغب في الهروب إلى ماض أو ربما إلى غد قد لا يصل إليه أبدا مع استمرارية تواتر حكاياتها بتلميحاتها القائمة على عدم الاستسلام لقدرها بل يواجه السموات بقدها الناطحة للضوء وللهواء، ويواجه الريح بخفايا صدورها وتمتماتها.
عالم شخوصه يستقي حضوره من تفعيل الحكاية واستغرابها، من حركيّة العتبات والبحث عن البؤر، من استدعاء التقطيعات المصوغة ذهنيا مع ما يلائم الانخراط في سياقها السردي، وهذا ما يجعل خليل يتباطأ قليلا في إيقاعاته وهو يقرب عمله من حالات فيها تتسع دائرة التأمل عمقا، من حالات فيها تكثر أوراق الانزياح المقنن وهي مبللة بأحاسيسه ودموعها.
هذا وحده قد يكون كافيا لتحديد جمالية العمل الفني لدى جمال خليل، يبيح له استخدام كائنات متقاربة ومتراصة تحسم الحكاية وتختفي في اللج جمعا لتضبط بؤس الأصقاع المتباعدة، وبؤس المآل وأوهامها، أي أن خليل ينجز الفعل في مصائر مخلوقاته من سعيرها وفي جنازة النهر من نبضاته المؤثرة، فالاعتقاد بغزارة النوتات ملحمة، والاقتراب من التشكيلات الحديثة توسعة للذاكرة نحو كسر رتابتها وتوظيف رؤيتها بغنائيات حزينة يمارسها خليل بالطريقة التي تجعله يتحسس إغراق الضوء في العتمة.
◄ إيقاعات متباطئة◄ الفنان يرسم شخوصه بهدوء شديد على شكل أسراب نحو حلمها الذي يوازي بدايتها◄ خليل ينجز الفعل في مصائر مخلوقاته من سعيرها وفي جنازة النهر من نبضاته المؤثرةغريب ملا زلال
كاتب سوري