الطفولة حالة سردية تتوق إلى سماع الغرائب والخوارق أيا كانت
الخيالية غير الطبيعية في رواية "الأمير الصغير" للفرنسي سانت إكزوبيري.
الأحد 2024/05/05
للأطفال خيال جامح قد يحدد مستقبلهم (لوحة للفنانة سارة شمة)
مرحلة الطفولة ليست أقل مستوى من مرحلة الكبر في القدرة على الخيال والاستنتاج، وإن كانت أكثر انطلاقا حيث يكون الطفل مقبلا في طور نموه على القصص الخيالية والسرد غير الطبيعي وله خيال قد لا يستسيغه الكبار، ومن هنا فإن مرحلة الطفولة بإقامتها في منطقة الخيال تبقى الأهم في تشكيل الفرد لاحقا.
إنّ لسرديات الطفولة خاصة وأدب الأطفال عامة منزلة خاصة في النظرية السردية ما بعد الكلاسيكية، لا لأنها تتعلق بكينونة الصغار ممن ينبغي وضعهم في أولويات الاهتمام والتركيز بوصفهم لبنات لجيل جديد عليهم تبنى المجتمعات حسب، بل باتجاه بناء منظور جديد للإنسان من خلال السرد وبمختلف أنواعه أيضا.
وإذا كان السرد هو الحياة، فإن الطفولة هي منطلق هذا السرد، ومن خلالها مارس الإنسان قص الخرافات ثم صاغ الأساطير التي عليها قامت صروح حضارته طورا بعد طور ومرحلة تلو مرحلة. وطفولة الشعوب ليست بدائيتها إنما هي الأعتاب التي عليها وضعت خطواتها الأولى في معرفة نفسها وما حولها.
وكانت الأساطير الصورة الأكثر تعبيرا عن تلك الطفولة التي فيها اكتشف الإنسان ذاته وحاول أن يعرف ما حوله ويرسم طرائق حكائية في التعامل مع غيره سلبا وإيجابا، متخذا من الكتابة وسيلة لتدشين هذه الطرائق فصار بعضها مدوّنا في شكل أنظمة ودساتير لا تخلو من حكايات وأخبار وأناشيد وتراتيل، شكّلت الأساس الأول لكتابة التاريخ البشري كسردية كبرى في حياة الشعوب، وبقي بعضها الآخر شفاهيا محفوظا في الصدور يتناقله الناس جيلا بعد جيل، ومن ضمنه قصص الأطفال التي تُسرد لأجل التسلية ونقل الخبرات والتجارب أيضا.
الواقع والتخييل
التخييل هو العنصر الأكثر أهمية في سرديات الطفولة وعليه تُلقى الحمولة السردية برمتها وإليه تتجه كل أطراف السرد
الطفولة نفسها سردية تعبّر عن التوق إلى سماع الغرائب والخوارق أيا كانت أخبارا أو أشعارا أو أناشيدَ أو أدعية. ولا تكمن وظيفة السرد الطفولي في بنيته الشكلية فحسب وإنما هي في فاعليته التي بها يكتسب الطفل الخبرات متعرّفا إلى الحياة ومتعلّما كيف يستطيع مواجهة تحدياتها وتجريب جديدها والمغامرة في دروبها، ممتلكا مجسات خاصة ومزودا بمحفزات تدفعه نحو الاكتساب والتمرن إلى أبعد الحدود. وعلى الرغم من أن الإنسان لا يصدّق في كبره ما كان يصدّقه في صغره، فإنه لا ينكر أنه كان يتفاعل بكل جوارحه مع ما يُحكى، فلا يسأل عن صدقه أو كذبه بقدر ما كان يرغب في استكشاف هذا المحكي وتخيله.
وتتنوع الصور التي من خلالها تتجسد سرديات الطفولة متوزعة ما بين الأنشودة والترنيمة والحكاية والقصة والمسرحية المغناة والأغنية الممسرحة والأخبار الطريفة وغيرها من السرديات التي بها تودع الخبرات والعادات والتجارب في ذهن الطفل.
بيد أن القصة تظل هي الأشهر والأكثر أهمية في سرديات الطفولة تحت مسمّى قصص الأطفال أو أدب الأطفال أو أدب الصغار. وقسم كبير من قصص الأطفال يتأتى من الأدب الشعبي لأن مؤلفها هي الشعوب نفسها بالمجموع وعبرها تنتقل القصص كنهر جار لا انقطاع فيه ولا نهاية له.
والتخييل هو العنصر الأكثر أهمية في سرديات الطفولة وعليه تُلقى الحمولة السردية برمّتها وإليه تتجه كل أطراف السرد ومتفرقاته تماما مثل الطفولة التي هي الأساس الأول الذي منه ينطلق الإنسان في بناء كيانه وتنمية مواهبه وتكوين شخصيته التي كيفما تكن في الطفولة، تتجلَ أبعادها في الشباب والكهولة.
والتخييل أيضا هو العصب الذي يمدُّ حياة السرد بالدوام ويتلون في الطاقات مديما نسغ الحياة ومتوجها نحو مجالات الواقع المتنوعة. والبغية من وراء التخييل هي الحقيقة التي عنها يبحث الإنسان طوال حياته، مقرِّبا بالتخييل احتمالاتها، ظافرا منها بما هو ممكن ومنطقي.
ولا يهم إن كان هذا الممكن واقعا في الحاضر أو الماضي أو سيقع لاحقا، بل المهم هو إمكانية توقعه كدليل على قرب التخييل من الحقيقة، قابضا عليها افتراضا أو عارفا بعضا من تجلياتها في شكل استباقاتٍ أو تنبؤاتٍ تستنهض فيه العزم نحو الغوص أكثر في مدارات التخييل واكتشاف المزيد منها.
فالتخييل هو العصب مثلما أن الطفولة هي المنبت، ويظل العصب ذا طاقة خلاقة تولِّد الجديد كما يستمر المنبت في مدّ فروعه متدفقا بالحيوية سواء في دقائقه أو عمومياته. ولهذا السبب لا ينسى الإنسان وهو يتقدم في مراحله العمرية حكايات سمعها قصصا في طفولته فصدّقها بكل حواسه وتأثر بأبطالها بكل مدركاته. وما ذلك إلا لأن الطفل صفحةٌ بيضاء خيرة ومفطورة على النقاء والصدق فلا يتردد ولا يتذبذب ولا يشكك ولا يعاند وهو يسمع القصص ويتلقى فعل أبطالها. وبذلك تكون الطفولة مرحلة غضاضة وطراوة كأكثر المراحل العمرية التي فيها يمتلك الانسان طاقات كبيرة في الاكتساب والتمرن واستقبال المهارات.
وتجعل الفطرة الخيرة الطفل مجبولا على استحسان كل ما هو غريب وغير طبيعي، فلا يعتريه الامتعاض والنفور إن هو سمع قصصا فيها أشياء أو كائنات لا توجد في الوسط الذي يعيش فيه أو قرأ ما يخالف الموجود في بيئته. فتتشكل من ثم خبراته التي فيها تكون تضادية الواقع/التخييل هي صورة محاكية لما في الحياة الواقعية من تضادات في المعاشات والأحوال وتقلباتها الزمانية والمكانية والقيمية. وتظل العلاقة السيكولوجية بين الطفل والتخييل طردية، لكنها تغدو عكسية مع التقدم في العمر بمعنى أن الوازع لتقبل ما هو تخييلي يقلّ عند الفرد كلما تقدم به العمر.
وإذا حصل واستمرت تلك العلاقة في مراحل عمره اللاحقة فسيمكِّنه ذلك من أن يكون فنانا صاحب موهبة ومبدعا يمتهن التخييل مهنة رسما أو نحتا أو تمثيلا أو موسيقى أو شعرا أو قصا. والسرد كغيره من الفنون الإبداعية عملية سيكولوجية كبيرة فيها تعتمل الأحاسيس وتتفاعل المركبات فتتشكل هوية الإنسان وتبنى شخصيته وبالشكل الذي يعكس ما في الطبيعة البشرية من تعقيد وما في الطبيعة الكونية من نظام يحكمان الكيان البشري داخليا من الناحية النفسية وخارجيا من الناحية السلوكية.
السرد غير الطبيعي
مع صعود السرديات الصغرى وتفتت مركزية السرديات الكبرى انتعشت قصص الأطفال وصارت مركزية كغيرها من السرديات المهمشة
سيكولوجية الفرد طفلا هي أكثر تعقيدا منه شابا وكهلا، وتترك أثرا واضحا فيه، والسبب أن القدرة البشرية عادة ما تكون في مقتبلها نامية وضاجّة بكل طاقتها، مهيأة لكل زرع وتلقين وغرس وتعليم. وتتفاوت هذه الطاقة تبعا لما يتحلى به الفرد جينالوجيا من مهارات وإمكانيات، وبعض منها يأتي عن مواهب وملكات لها دور في توجيه حياة الطفل وتحديد طبيعة ما يغرس فيه وما يمكن العمل على نمائه. وتلعب القصص أدوارا مهمة في الغرس والإنماء، وكلما كان للتخييل فيها أفعال كبيرة، غدا تأثيرها في تشكيل شخصية الطفل واضحا. وقد يصل التأثير إلى درجة فيها يكون الطفل هو نفسه ساردا لقصص بها تتضح موهبته الإبداعية وقد تنمو فتتجلى في شبابه واضحة.
والسرُّ وراء نماء الموهبة يكمن في التخييل بالدرجة الأساس كموهبة فطرية واستعدادات نفسية وطاقة فنية تمكِّن صاحبها من أن يصبح مبدعا. وهذا كله هو ما تختصره مفردة “الخيالية” كمفهوم من مفاهيم السرد غير الطبيعي. ولا تعرف الخيالية سنا أو عمرا، وأكثر الأفراد امتلاكا لها من كان ذا موهبة صقلها سماع القصص وهذّبتها القراءة.
والفرق في “الخيالية” بين السرد الطبيعي والسرد غير الطبيعي هو أنها تكون في السرد غير الطبيعي عامة لا تتحدد بما هو محتمل أو غير محتمل في حين تكون في السرد الطبيعي محتملة بالمحاكاة التي هي نقطة الانطلاق ومحطة الانتهاء مع تباين الطرق والمنعطفات. وهو ما يجعل هذا السرد الأكثر استعمالا والأغنى عطاء ومداومة ويتخذ أشكالا قد تتغاير مع صورته الكلاسيكية إما باستعمال الأسطورة أو التغريب أو الإيهام أو التشيؤ أو الفنتازيا أو العجيب وغيره. ولأن الخيالية في السرد غير الطبيعي محتملة وغير محتملة، يدخل فيها ما هو تحت واقعي أو فوق واقعي وبشكل غير محدد الوسائل ولا معقول الصور.
وإذا كانت الخيالية (غير محتملة الحدوث) هي عماد قصص الأطفال، فإن الخيالية (محتملة الحدوث) هي عماد القصص الواقعي فلا تحلّق بعيدا عن الواقع الموضوعي إلا بقدر ممنطق ومعقول. ويحضر الإمتاع أساسا قويا في قصص الأطفال، لكنه يتناقص في قصص الكبار بسبب ما فيها من رموز ودلالات تحتاج تأملا وإنتاجا ومشاركة.
ولا مراء في أن تزداد نسبة الخيالية في قصص الأطفال كلما قلّ عمر الطفل كما لا مراء في أن تزداد الخيالية في السرد غير الطبيعي طرديا مع تزايد رغبة الطفل في التأمل والإدراك. ومرد هذه الطردية راجع إلى أن الطفل لا يقل عن الكبير في ما يمتلكه من خيالية هي عبارة عن طاقة ذهنية تجعله قادرا على أن يصنع ويخترع ويؤلف ما ليست له فيه خبرة كافية. وما ذلك إلا لأنه أكثر تلقفا لكل ما هو مشوق ومثير ولا فرق عنده بين الواقعي الحقيقي والتخييلي الكاذب. وما يحتاجه القاص في إنتاج السرد غير الطبيعي هو أن يتلبس خيالية الطفل كي يكون أكثر تحررا من تجاربه وخبراته الواقعية أو أكثر بعدا عن العقل ومواضعاته في التأمل والإدراك.
إذا كان السرد هو الحياة فإن الطفولة هي منطلق هذا السرد ومن خلالها مارس الإنسان قص الخرافات والأساطير
ومع صعود السرديات الصغرى وتفتت مركزية السرديات الكبرى انتعشت قصص الأطفال وصارت مركزية كغيرها من السرديات المهمشة. وصار السرد الواقعي يمتح من قصص الأطفال خياليته باتجاه إنتاج سرديات غير حقيقية لا تقل عمّا في سرديات الطفولة من الخيالية.
ومن أسباب هذا الامتياح أن السرديات اليوم لا تجد في محاكاة الواقع المتخيل بغيتها في الرصد والتشخيص والمعالجة لذلك تتعالى على النظام الذي به تدرك قوانين الواقع فتترك ما هو ممكن وتتجه نحو ما هو لا نظامي وغير ممكن، مما نجده في قصص الخيال العلمي وقصص الفنتازيا والحكايات الشعبية الموروثة التي فيها تهيمن الخيالية مبتدأ ومنتهى.
وفي هذه السرديات غير الطبيعية تكون اللامحاكاة ــــ على عكس ما يذهب إليه التصور المعتاد ــــ هي أساس المحاكاة بالمفهوم الأرسطي. ولكن هل يعني هذا التأسيس على اللامحاكاة أن قصص الأطفال كقصص الكبار، موجهة إلى عموم القراء؟ ومن أين يتأتى للسرد غير الطبيعي أن يكون عاما وهو غير محتمل الوقوع بالخيالية التي بها تتشكل لا معقوليته ولا طبيعيته؟ هل ينبغي أن تكون الخيالية واقعية بالقدر الذي ينبغي للواقعية أن تكون معقولة؟ وكيف تقنعنا الخيالية أن وراء اللامعقول ما هو معقول ومنطقي؟
إن الخيالية ليست نقيض الواقعية ولا هي خلاف المنطقية؛ لا لكونها وسيلة رئيسة في السرد وحسب، بل لأنها سبيل مهم من سبل بلوغ الواقعية والمنطقية أيضا. وما من غوص في الواقع إلا بتغريبه كما لا كشف لمخبوءاته سوى بجعله إيهاميا من ناحية ما هو موجود فيه أو غير موجود كما لا اصطياد للظواهر والدلالات إلا بالتحليق عاليا بعيدا عنه والنظر إليه بمنظار تلسكوبي يقرِّب الدقائق فتبدو كبيرة ويجمع الفوارق فتظهر واحدة برؤية بانورامية.
ولا صحة في القول إنّ الخيال يشوّه الواقع ويزيّفه ولكن من الصحيح القول إن الواقع يصنع الخيال ويمده بأسباب التخليق والتخريف. وكلما كان الواقع شائكا كان السارد أكثر قدرة على أن يكون صانعا ماهرا للخيال وبلا حدود. ومن هنا كانت المجتمعات الأكثر اضطهادا واستغلالا هي الأمهر في صنع المتخيلات وكان سرّادها محتدمين باللامحاكاة في تناول مسائل الذات والمجتمع.
هذه التلازمية في الانطلاق اللامحاكاتي للواقع هي التي عليها يراهن السرد غير الطبيعي ويسعى إلى بلوغ أدق تجلياتها والامتياح من كل ينابيعها. وقصص الأطفال واحدة من تلك الينابيع التي يمكن من خلالها الاغتراف من نهر الخيالية الجاري بكل ما هو طفولي واستحالي، والوقوف على نظام سردها وعناصره التي لا تختلف شكليا عن العناصر التي تحكم نظام سرد القصص الواقعية من ناحية وجود سارد ومسرود ومسرود له ولكنها تختلف موضوعيا من ناحية الفواعل السردية غير الحية أو الجامدة التي يكون بمقدورها ممارسة ما لا تمارسه نظائرها في السرد الطبيعي مثل الجبل وهو يتحرك، والبحر وهو ينطق، والطير وهو يرتدي بدلة، وهكذا.
الأمير الصغير
"الأمير الصغير" نموذج للسرد غير الطبيعي
لقصص الأطفال غايات سيكولوجية تتعلق بالنمو السليم للطفل واجتماعية التصرف والتحلي بالسلوك الحسن وأخلاقيات التربية الحميدة. ولكن قبل ذلك كله التسلية التي تستفرغ ما لدى الطفل من طاقة في الإنصات والاستماع واستثمارها في توصيل الخبرات وغرس القيم في نفوس الأطفال.
وكلما بدا السارد عارفا بمبدئيات القص الشفاهي أو الكتابي، كان ناجحا في أن يؤثر في الطفل بشكل عفوي حتى أن الطفل قد ينام قبل إكمال القصة، مما يعني أن صدق الأحداث وكذبها وحقيقة الشخصية وزيفها لا يهمان الطفل الذي يستسلم بكل جوارحه للسارد واثقا بسرده الثقة كلها. وكلما استفزَّ السارد أسماع الصغار، كان سرده مشوقا وتأثيره قويا ينتهي بالراحة والانشراح فتسكن نفس الطفل سيكولوجيا وينام مستكمِلا في الحلم ما كان قد استفزه واستنفر له طاقاته في اليقظة. وبذلك يكون التخييل فعلا حاضرا معه بعمق ومحبة، ولا فرق عنده بين اليقظة والمنام أو الحقيقة والخيال.
والقص بالنسبة إلى الطفل كلام، والقاص هو المتكلم الذي يوجه المسرودات حتى لا فرق بينه وبين السارد. وما دام القاص هو السارد والمسرود في نظر المتلقي/الطفل، فلا قلق أو عدم ارتياح من أن يكون في القصة ما هو غير طبيعي ولا حقيقي، فالمتكلم مؤتمن والطفل مصغ ببراءة ونقاء، وليس في ذهنه أيّ مرجعيات أو محددات أو خبرات، بل هو صفحة بيضاء متقدة، وهو ما يجعل الطفل منشدّا بقوة إلى ما يسمعه أو يقرأه من قصص تستفز ما عنده من طاقة فيتصاعد خياله مع تصاعد السرد وتحتبك نفسه مع احتباك الأفعال ثم تقل حدة الاحتدام تدريجيا مع انفراج الحبكة، فتهدأ جوارحه المستنفرَة بكل طاقتها.
وقد عالج الكاتب الفرنسي سانت إكزوبيري الاختلاف بين الخيالية في قصص الأطفال والخيالية في القصص الواقعية في روايته القصيرة/النوفيلا “الأمير الصغير” 1943، وتتضمن رسوما ملونة موجهة للأطفال لكنها تتضمن أيضا محمولات فكرية تخاطب الكبار.
والسارد فيها ذاتي يردف الجمل البسيطة المصورة بجمل فيها نقد اجتماعي يحتاج تأملا؛ فمثلا حين سرد حكاية الثعبان الذي ابتلع وحشا وجسَّده في رسم تبسيطي، فإنه أتبعه بالقول “لمّا أبرزته لكبار الناس نصحوني بأن أدع جانبا رسم الثعابين من الخارج والباطن، وقالوا: الأفضل لك أن تُعنى بدرس الجغرافيا والتاريخ والحساب وقواعد اللغة. إن هؤلاء الكبار لا يدركون شيئا من تلقاء نفوسهم فلا بد للصغار من أن يشرحوا لهم ويطيلوا الشرح ويكرروا ولا يخفى ما في هذا من التعب والعناء”.
فالكاتب يسخر من الذين يقيسون السرد بمقاييس العلم وينسون أن التخييل هو لبُّ السرد. ولما كان السرد يقوم على المنطقية أيا كان المسرود حقيقيا أو غير حقيقي، فلا فرق إذن بين قصص للأطفال أو قصص للكبار من هذه الناحية.
ولتأكيد هذه الحقيقة جعل السارد مسروده ولدا صغيرا بعمر ست سنوات وسماه الأمير الصغير، ومشكلته أنه أضاع موطنه الصغير فطاف الكواكب بحثا عنه قبل أن يحط على الأرض. وصادفه السارد فحدّق فيه بإنعام طالبا منه أن يرسم خروفا فرسم ثعبانا، اعترض الولد وقال “لا لا ما أردت فيلا في ثعبان، فالثعبان شديد الخطر أما الفيل فيضيق به موطني. إن موطني صغير صغير جدا أنا في حاجة إلى خروف، فارسم لي خروفا فرسمت له خروفا”. وما يسترعي انتباه السارد هو أن للأمير الصغير “رأي في الأمور الجدية تختلف كل الاختلاف عن رأي الكبار في الناس”.
وفي أثناء هذه المحاورة وغيرها من المحاورات يتعمد السارد توجيه اللوم إلى الكبار كونهم يثبطون عزيمته عن التصوير فلا يصدقون ما يرسمه وما يصفه ويضحكون ويشككون. ويتقصد السارد تكرار عبارات معينة مثل “إن موطني على غاية من الصغر”، كما يُكثر من طرح الأسئلة حول النباتات والفراشات والنجوم. وفي هذا دليل قاطع على أن الخيالية هي الأساس الذي عليه تبنى حبكة هذه النوفيلا.
من هنا نفهم سبب هيمنة الخيالية على سرديات الطفولة وندرك أهمية ما يترتب على هذه الهيمنة من غايات، تسعى هذه السرديات إلى تحقيقها كأن تكون الغاية سيكولوجية أو تربوية أو تعليمية أو أخلاقية أو دينية أو اجتماعية أو تاريخية.
نادية هناوي
ناقدة وأكاديمية عراقية
الخيالية غير الطبيعية في رواية "الأمير الصغير" للفرنسي سانت إكزوبيري.
الأحد 2024/05/05
للأطفال خيال جامح قد يحدد مستقبلهم (لوحة للفنانة سارة شمة)
مرحلة الطفولة ليست أقل مستوى من مرحلة الكبر في القدرة على الخيال والاستنتاج، وإن كانت أكثر انطلاقا حيث يكون الطفل مقبلا في طور نموه على القصص الخيالية والسرد غير الطبيعي وله خيال قد لا يستسيغه الكبار، ومن هنا فإن مرحلة الطفولة بإقامتها في منطقة الخيال تبقى الأهم في تشكيل الفرد لاحقا.
إنّ لسرديات الطفولة خاصة وأدب الأطفال عامة منزلة خاصة في النظرية السردية ما بعد الكلاسيكية، لا لأنها تتعلق بكينونة الصغار ممن ينبغي وضعهم في أولويات الاهتمام والتركيز بوصفهم لبنات لجيل جديد عليهم تبنى المجتمعات حسب، بل باتجاه بناء منظور جديد للإنسان من خلال السرد وبمختلف أنواعه أيضا.
وإذا كان السرد هو الحياة، فإن الطفولة هي منطلق هذا السرد، ومن خلالها مارس الإنسان قص الخرافات ثم صاغ الأساطير التي عليها قامت صروح حضارته طورا بعد طور ومرحلة تلو مرحلة. وطفولة الشعوب ليست بدائيتها إنما هي الأعتاب التي عليها وضعت خطواتها الأولى في معرفة نفسها وما حولها.
وكانت الأساطير الصورة الأكثر تعبيرا عن تلك الطفولة التي فيها اكتشف الإنسان ذاته وحاول أن يعرف ما حوله ويرسم طرائق حكائية في التعامل مع غيره سلبا وإيجابا، متخذا من الكتابة وسيلة لتدشين هذه الطرائق فصار بعضها مدوّنا في شكل أنظمة ودساتير لا تخلو من حكايات وأخبار وأناشيد وتراتيل، شكّلت الأساس الأول لكتابة التاريخ البشري كسردية كبرى في حياة الشعوب، وبقي بعضها الآخر شفاهيا محفوظا في الصدور يتناقله الناس جيلا بعد جيل، ومن ضمنه قصص الأطفال التي تُسرد لأجل التسلية ونقل الخبرات والتجارب أيضا.
الواقع والتخييل
التخييل هو العنصر الأكثر أهمية في سرديات الطفولة وعليه تُلقى الحمولة السردية برمتها وإليه تتجه كل أطراف السرد
الطفولة نفسها سردية تعبّر عن التوق إلى سماع الغرائب والخوارق أيا كانت أخبارا أو أشعارا أو أناشيدَ أو أدعية. ولا تكمن وظيفة السرد الطفولي في بنيته الشكلية فحسب وإنما هي في فاعليته التي بها يكتسب الطفل الخبرات متعرّفا إلى الحياة ومتعلّما كيف يستطيع مواجهة تحدياتها وتجريب جديدها والمغامرة في دروبها، ممتلكا مجسات خاصة ومزودا بمحفزات تدفعه نحو الاكتساب والتمرن إلى أبعد الحدود. وعلى الرغم من أن الإنسان لا يصدّق في كبره ما كان يصدّقه في صغره، فإنه لا ينكر أنه كان يتفاعل بكل جوارحه مع ما يُحكى، فلا يسأل عن صدقه أو كذبه بقدر ما كان يرغب في استكشاف هذا المحكي وتخيله.
وتتنوع الصور التي من خلالها تتجسد سرديات الطفولة متوزعة ما بين الأنشودة والترنيمة والحكاية والقصة والمسرحية المغناة والأغنية الممسرحة والأخبار الطريفة وغيرها من السرديات التي بها تودع الخبرات والعادات والتجارب في ذهن الطفل.
بيد أن القصة تظل هي الأشهر والأكثر أهمية في سرديات الطفولة تحت مسمّى قصص الأطفال أو أدب الأطفال أو أدب الصغار. وقسم كبير من قصص الأطفال يتأتى من الأدب الشعبي لأن مؤلفها هي الشعوب نفسها بالمجموع وعبرها تنتقل القصص كنهر جار لا انقطاع فيه ولا نهاية له.
والتخييل هو العنصر الأكثر أهمية في سرديات الطفولة وعليه تُلقى الحمولة السردية برمّتها وإليه تتجه كل أطراف السرد ومتفرقاته تماما مثل الطفولة التي هي الأساس الأول الذي منه ينطلق الإنسان في بناء كيانه وتنمية مواهبه وتكوين شخصيته التي كيفما تكن في الطفولة، تتجلَ أبعادها في الشباب والكهولة.
والتخييل أيضا هو العصب الذي يمدُّ حياة السرد بالدوام ويتلون في الطاقات مديما نسغ الحياة ومتوجها نحو مجالات الواقع المتنوعة. والبغية من وراء التخييل هي الحقيقة التي عنها يبحث الإنسان طوال حياته، مقرِّبا بالتخييل احتمالاتها، ظافرا منها بما هو ممكن ومنطقي.
ولا يهم إن كان هذا الممكن واقعا في الحاضر أو الماضي أو سيقع لاحقا، بل المهم هو إمكانية توقعه كدليل على قرب التخييل من الحقيقة، قابضا عليها افتراضا أو عارفا بعضا من تجلياتها في شكل استباقاتٍ أو تنبؤاتٍ تستنهض فيه العزم نحو الغوص أكثر في مدارات التخييل واكتشاف المزيد منها.
فالتخييل هو العصب مثلما أن الطفولة هي المنبت، ويظل العصب ذا طاقة خلاقة تولِّد الجديد كما يستمر المنبت في مدّ فروعه متدفقا بالحيوية سواء في دقائقه أو عمومياته. ولهذا السبب لا ينسى الإنسان وهو يتقدم في مراحله العمرية حكايات سمعها قصصا في طفولته فصدّقها بكل حواسه وتأثر بأبطالها بكل مدركاته. وما ذلك إلا لأن الطفل صفحةٌ بيضاء خيرة ومفطورة على النقاء والصدق فلا يتردد ولا يتذبذب ولا يشكك ولا يعاند وهو يسمع القصص ويتلقى فعل أبطالها. وبذلك تكون الطفولة مرحلة غضاضة وطراوة كأكثر المراحل العمرية التي فيها يمتلك الانسان طاقات كبيرة في الاكتساب والتمرن واستقبال المهارات.
وتجعل الفطرة الخيرة الطفل مجبولا على استحسان كل ما هو غريب وغير طبيعي، فلا يعتريه الامتعاض والنفور إن هو سمع قصصا فيها أشياء أو كائنات لا توجد في الوسط الذي يعيش فيه أو قرأ ما يخالف الموجود في بيئته. فتتشكل من ثم خبراته التي فيها تكون تضادية الواقع/التخييل هي صورة محاكية لما في الحياة الواقعية من تضادات في المعاشات والأحوال وتقلباتها الزمانية والمكانية والقيمية. وتظل العلاقة السيكولوجية بين الطفل والتخييل طردية، لكنها تغدو عكسية مع التقدم في العمر بمعنى أن الوازع لتقبل ما هو تخييلي يقلّ عند الفرد كلما تقدم به العمر.
وإذا حصل واستمرت تلك العلاقة في مراحل عمره اللاحقة فسيمكِّنه ذلك من أن يكون فنانا صاحب موهبة ومبدعا يمتهن التخييل مهنة رسما أو نحتا أو تمثيلا أو موسيقى أو شعرا أو قصا. والسرد كغيره من الفنون الإبداعية عملية سيكولوجية كبيرة فيها تعتمل الأحاسيس وتتفاعل المركبات فتتشكل هوية الإنسان وتبنى شخصيته وبالشكل الذي يعكس ما في الطبيعة البشرية من تعقيد وما في الطبيعة الكونية من نظام يحكمان الكيان البشري داخليا من الناحية النفسية وخارجيا من الناحية السلوكية.
السرد غير الطبيعي
مع صعود السرديات الصغرى وتفتت مركزية السرديات الكبرى انتعشت قصص الأطفال وصارت مركزية كغيرها من السرديات المهمشة
سيكولوجية الفرد طفلا هي أكثر تعقيدا منه شابا وكهلا، وتترك أثرا واضحا فيه، والسبب أن القدرة البشرية عادة ما تكون في مقتبلها نامية وضاجّة بكل طاقتها، مهيأة لكل زرع وتلقين وغرس وتعليم. وتتفاوت هذه الطاقة تبعا لما يتحلى به الفرد جينالوجيا من مهارات وإمكانيات، وبعض منها يأتي عن مواهب وملكات لها دور في توجيه حياة الطفل وتحديد طبيعة ما يغرس فيه وما يمكن العمل على نمائه. وتلعب القصص أدوارا مهمة في الغرس والإنماء، وكلما كان للتخييل فيها أفعال كبيرة، غدا تأثيرها في تشكيل شخصية الطفل واضحا. وقد يصل التأثير إلى درجة فيها يكون الطفل هو نفسه ساردا لقصص بها تتضح موهبته الإبداعية وقد تنمو فتتجلى في شبابه واضحة.
والسرُّ وراء نماء الموهبة يكمن في التخييل بالدرجة الأساس كموهبة فطرية واستعدادات نفسية وطاقة فنية تمكِّن صاحبها من أن يصبح مبدعا. وهذا كله هو ما تختصره مفردة “الخيالية” كمفهوم من مفاهيم السرد غير الطبيعي. ولا تعرف الخيالية سنا أو عمرا، وأكثر الأفراد امتلاكا لها من كان ذا موهبة صقلها سماع القصص وهذّبتها القراءة.
والفرق في “الخيالية” بين السرد الطبيعي والسرد غير الطبيعي هو أنها تكون في السرد غير الطبيعي عامة لا تتحدد بما هو محتمل أو غير محتمل في حين تكون في السرد الطبيعي محتملة بالمحاكاة التي هي نقطة الانطلاق ومحطة الانتهاء مع تباين الطرق والمنعطفات. وهو ما يجعل هذا السرد الأكثر استعمالا والأغنى عطاء ومداومة ويتخذ أشكالا قد تتغاير مع صورته الكلاسيكية إما باستعمال الأسطورة أو التغريب أو الإيهام أو التشيؤ أو الفنتازيا أو العجيب وغيره. ولأن الخيالية في السرد غير الطبيعي محتملة وغير محتملة، يدخل فيها ما هو تحت واقعي أو فوق واقعي وبشكل غير محدد الوسائل ولا معقول الصور.
وإذا كانت الخيالية (غير محتملة الحدوث) هي عماد قصص الأطفال، فإن الخيالية (محتملة الحدوث) هي عماد القصص الواقعي فلا تحلّق بعيدا عن الواقع الموضوعي إلا بقدر ممنطق ومعقول. ويحضر الإمتاع أساسا قويا في قصص الأطفال، لكنه يتناقص في قصص الكبار بسبب ما فيها من رموز ودلالات تحتاج تأملا وإنتاجا ومشاركة.
ولا مراء في أن تزداد نسبة الخيالية في قصص الأطفال كلما قلّ عمر الطفل كما لا مراء في أن تزداد الخيالية في السرد غير الطبيعي طرديا مع تزايد رغبة الطفل في التأمل والإدراك. ومرد هذه الطردية راجع إلى أن الطفل لا يقل عن الكبير في ما يمتلكه من خيالية هي عبارة عن طاقة ذهنية تجعله قادرا على أن يصنع ويخترع ويؤلف ما ليست له فيه خبرة كافية. وما ذلك إلا لأنه أكثر تلقفا لكل ما هو مشوق ومثير ولا فرق عنده بين الواقعي الحقيقي والتخييلي الكاذب. وما يحتاجه القاص في إنتاج السرد غير الطبيعي هو أن يتلبس خيالية الطفل كي يكون أكثر تحررا من تجاربه وخبراته الواقعية أو أكثر بعدا عن العقل ومواضعاته في التأمل والإدراك.
إذا كان السرد هو الحياة فإن الطفولة هي منطلق هذا السرد ومن خلالها مارس الإنسان قص الخرافات والأساطير
ومع صعود السرديات الصغرى وتفتت مركزية السرديات الكبرى انتعشت قصص الأطفال وصارت مركزية كغيرها من السرديات المهمشة. وصار السرد الواقعي يمتح من قصص الأطفال خياليته باتجاه إنتاج سرديات غير حقيقية لا تقل عمّا في سرديات الطفولة من الخيالية.
ومن أسباب هذا الامتياح أن السرديات اليوم لا تجد في محاكاة الواقع المتخيل بغيتها في الرصد والتشخيص والمعالجة لذلك تتعالى على النظام الذي به تدرك قوانين الواقع فتترك ما هو ممكن وتتجه نحو ما هو لا نظامي وغير ممكن، مما نجده في قصص الخيال العلمي وقصص الفنتازيا والحكايات الشعبية الموروثة التي فيها تهيمن الخيالية مبتدأ ومنتهى.
وفي هذه السرديات غير الطبيعية تكون اللامحاكاة ــــ على عكس ما يذهب إليه التصور المعتاد ــــ هي أساس المحاكاة بالمفهوم الأرسطي. ولكن هل يعني هذا التأسيس على اللامحاكاة أن قصص الأطفال كقصص الكبار، موجهة إلى عموم القراء؟ ومن أين يتأتى للسرد غير الطبيعي أن يكون عاما وهو غير محتمل الوقوع بالخيالية التي بها تتشكل لا معقوليته ولا طبيعيته؟ هل ينبغي أن تكون الخيالية واقعية بالقدر الذي ينبغي للواقعية أن تكون معقولة؟ وكيف تقنعنا الخيالية أن وراء اللامعقول ما هو معقول ومنطقي؟
إن الخيالية ليست نقيض الواقعية ولا هي خلاف المنطقية؛ لا لكونها وسيلة رئيسة في السرد وحسب، بل لأنها سبيل مهم من سبل بلوغ الواقعية والمنطقية أيضا. وما من غوص في الواقع إلا بتغريبه كما لا كشف لمخبوءاته سوى بجعله إيهاميا من ناحية ما هو موجود فيه أو غير موجود كما لا اصطياد للظواهر والدلالات إلا بالتحليق عاليا بعيدا عنه والنظر إليه بمنظار تلسكوبي يقرِّب الدقائق فتبدو كبيرة ويجمع الفوارق فتظهر واحدة برؤية بانورامية.
ولا صحة في القول إنّ الخيال يشوّه الواقع ويزيّفه ولكن من الصحيح القول إن الواقع يصنع الخيال ويمده بأسباب التخليق والتخريف. وكلما كان الواقع شائكا كان السارد أكثر قدرة على أن يكون صانعا ماهرا للخيال وبلا حدود. ومن هنا كانت المجتمعات الأكثر اضطهادا واستغلالا هي الأمهر في صنع المتخيلات وكان سرّادها محتدمين باللامحاكاة في تناول مسائل الذات والمجتمع.
هذه التلازمية في الانطلاق اللامحاكاتي للواقع هي التي عليها يراهن السرد غير الطبيعي ويسعى إلى بلوغ أدق تجلياتها والامتياح من كل ينابيعها. وقصص الأطفال واحدة من تلك الينابيع التي يمكن من خلالها الاغتراف من نهر الخيالية الجاري بكل ما هو طفولي واستحالي، والوقوف على نظام سردها وعناصره التي لا تختلف شكليا عن العناصر التي تحكم نظام سرد القصص الواقعية من ناحية وجود سارد ومسرود ومسرود له ولكنها تختلف موضوعيا من ناحية الفواعل السردية غير الحية أو الجامدة التي يكون بمقدورها ممارسة ما لا تمارسه نظائرها في السرد الطبيعي مثل الجبل وهو يتحرك، والبحر وهو ينطق، والطير وهو يرتدي بدلة، وهكذا.
الأمير الصغير
"الأمير الصغير" نموذج للسرد غير الطبيعي
لقصص الأطفال غايات سيكولوجية تتعلق بالنمو السليم للطفل واجتماعية التصرف والتحلي بالسلوك الحسن وأخلاقيات التربية الحميدة. ولكن قبل ذلك كله التسلية التي تستفرغ ما لدى الطفل من طاقة في الإنصات والاستماع واستثمارها في توصيل الخبرات وغرس القيم في نفوس الأطفال.
وكلما بدا السارد عارفا بمبدئيات القص الشفاهي أو الكتابي، كان ناجحا في أن يؤثر في الطفل بشكل عفوي حتى أن الطفل قد ينام قبل إكمال القصة، مما يعني أن صدق الأحداث وكذبها وحقيقة الشخصية وزيفها لا يهمان الطفل الذي يستسلم بكل جوارحه للسارد واثقا بسرده الثقة كلها. وكلما استفزَّ السارد أسماع الصغار، كان سرده مشوقا وتأثيره قويا ينتهي بالراحة والانشراح فتسكن نفس الطفل سيكولوجيا وينام مستكمِلا في الحلم ما كان قد استفزه واستنفر له طاقاته في اليقظة. وبذلك يكون التخييل فعلا حاضرا معه بعمق ومحبة، ولا فرق عنده بين اليقظة والمنام أو الحقيقة والخيال.
والقص بالنسبة إلى الطفل كلام، والقاص هو المتكلم الذي يوجه المسرودات حتى لا فرق بينه وبين السارد. وما دام القاص هو السارد والمسرود في نظر المتلقي/الطفل، فلا قلق أو عدم ارتياح من أن يكون في القصة ما هو غير طبيعي ولا حقيقي، فالمتكلم مؤتمن والطفل مصغ ببراءة ونقاء، وليس في ذهنه أيّ مرجعيات أو محددات أو خبرات، بل هو صفحة بيضاء متقدة، وهو ما يجعل الطفل منشدّا بقوة إلى ما يسمعه أو يقرأه من قصص تستفز ما عنده من طاقة فيتصاعد خياله مع تصاعد السرد وتحتبك نفسه مع احتباك الأفعال ثم تقل حدة الاحتدام تدريجيا مع انفراج الحبكة، فتهدأ جوارحه المستنفرَة بكل طاقتها.
وقد عالج الكاتب الفرنسي سانت إكزوبيري الاختلاف بين الخيالية في قصص الأطفال والخيالية في القصص الواقعية في روايته القصيرة/النوفيلا “الأمير الصغير” 1943، وتتضمن رسوما ملونة موجهة للأطفال لكنها تتضمن أيضا محمولات فكرية تخاطب الكبار.
والسارد فيها ذاتي يردف الجمل البسيطة المصورة بجمل فيها نقد اجتماعي يحتاج تأملا؛ فمثلا حين سرد حكاية الثعبان الذي ابتلع وحشا وجسَّده في رسم تبسيطي، فإنه أتبعه بالقول “لمّا أبرزته لكبار الناس نصحوني بأن أدع جانبا رسم الثعابين من الخارج والباطن، وقالوا: الأفضل لك أن تُعنى بدرس الجغرافيا والتاريخ والحساب وقواعد اللغة. إن هؤلاء الكبار لا يدركون شيئا من تلقاء نفوسهم فلا بد للصغار من أن يشرحوا لهم ويطيلوا الشرح ويكرروا ولا يخفى ما في هذا من التعب والعناء”.
فالكاتب يسخر من الذين يقيسون السرد بمقاييس العلم وينسون أن التخييل هو لبُّ السرد. ولما كان السرد يقوم على المنطقية أيا كان المسرود حقيقيا أو غير حقيقي، فلا فرق إذن بين قصص للأطفال أو قصص للكبار من هذه الناحية.
ولتأكيد هذه الحقيقة جعل السارد مسروده ولدا صغيرا بعمر ست سنوات وسماه الأمير الصغير، ومشكلته أنه أضاع موطنه الصغير فطاف الكواكب بحثا عنه قبل أن يحط على الأرض. وصادفه السارد فحدّق فيه بإنعام طالبا منه أن يرسم خروفا فرسم ثعبانا، اعترض الولد وقال “لا لا ما أردت فيلا في ثعبان، فالثعبان شديد الخطر أما الفيل فيضيق به موطني. إن موطني صغير صغير جدا أنا في حاجة إلى خروف، فارسم لي خروفا فرسمت له خروفا”. وما يسترعي انتباه السارد هو أن للأمير الصغير “رأي في الأمور الجدية تختلف كل الاختلاف عن رأي الكبار في الناس”.
وفي أثناء هذه المحاورة وغيرها من المحاورات يتعمد السارد توجيه اللوم إلى الكبار كونهم يثبطون عزيمته عن التصوير فلا يصدقون ما يرسمه وما يصفه ويضحكون ويشككون. ويتقصد السارد تكرار عبارات معينة مثل “إن موطني على غاية من الصغر”، كما يُكثر من طرح الأسئلة حول النباتات والفراشات والنجوم. وفي هذا دليل قاطع على أن الخيالية هي الأساس الذي عليه تبنى حبكة هذه النوفيلا.
من هنا نفهم سبب هيمنة الخيالية على سرديات الطفولة وندرك أهمية ما يترتب على هذه الهيمنة من غايات، تسعى هذه السرديات إلى تحقيقها كأن تكون الغاية سيكولوجية أو تربوية أو تعليمية أو أخلاقية أو دينية أو اجتماعية أو تاريخية.
نادية هناوي
ناقدة وأكاديمية عراقية