ذكرى أحمد العوض حاضرة بين دهشة الفرح الأول ودهشة الحزن الأخير

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ذكرى أحمد العوض حاضرة بين دهشة الفرح الأول ودهشة الحزن الأخير

    ذكرى أحمد العوض حاضرة بين دهشة الفرح الأول ودهشة الحزن الأخير


    أسلوب فني ينتهج التبسيط في إعادة تصوير الواقع غير الثابت.
    الخميس 2024/05/02
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    ذات ملهمة أعاد تشكيلها الفنان

    بعد عشر سنوات على رحيله، لا تزال ذكرى الفنان السوري أحمد العوض حاضرة بأعمالها، فهو وإن رحل عنا جسدا، لا تزال ألوانه وشخوصه حاضرة بيننا تبوح بأسراره وتتجدد بتجدد المتلقين وقراءاتهم لها، وتكشف لهم عن أسلوبه المميز وتجربته الفنية والإنسانية العميقة.

    أحزنتني جدا، وأوجعتني الطريقة التي رحل بها الفنان أحمد العوض، كان ذلك في الثالث والعشرين من مارس عام 2014، حيث كان يسكن في حي الدويلعة بدمشق حين تعرض لنزيف بالدماغ، تم إسعافه إلى مستشفى المجتهد لكن لم يجد من يسعفه أو يقدم له يد الرحمة والعلاج، بقي ثلاثة أيام في قسم الإسعاف والإهمال يلفه من كل جانب، لا رعاية طبية ولا عناية إنسانية، هو نموذج للضحايا وما أكثرهم الذين يقدمون كل شيء، يقدمون عرقهم ودمهم وأقلامهم وألوانهم وريشهم كي يبقى الكائن الذي ينبض بينهم إنسانا، لكن لا صوت يسمع ولا جرح يلتئم، فالمهزلة كبيرة والمخرجون بارعون في تقديمها.

    أوجعتني هذه الطريقة في قبض الأرواح ودفنها في الريح، المكان الذي لا يحترم فيه الإنسان لا يستحق العيش فيه، فكيف إذا كان هذا الإنسان فنانا بكامل أحاسيسه ونقائه، وتفانيه، هي مرّة هذه الحياة التي باتت تنهش من قبل ابنها الإنسان، الإنسان الذي يعتبر كما قيل عنه مرارا وتكرارا إنه من أقذر الحيوانات وأكثرها وحشية. نعم الإنسان وحش كبير، فمن أجل تحقيق غايات معينة، صغيرة وخاصة وتافهة مثله مستعد أن يعلن الحرب العالمية الثالثة على كل شيء.

    الإنسان كائن غير صالح وغير جدير بهذه الحياة والعيش فيها، ولا بهذه الأرض والدبيب عليها. الإنسان كائن خرافي يحمل في داخله كل نفايات الأرض وموبقاتها. فكل الرسل وكل الرسائل، كل الفلاسفة وكل المفكرين، كل الأدباء وكل الفنانين، كل الآلهة وكل الكهان لم يستطيعوا ترويضه ولجمه، فوحشيته تفوق كل ذلك، فما أتعسنا ونحن ننتمي إلى هذا الحيوان، ربما سقت كل ذلك كرد فعل على الموت المفجع للفنان العوض واللاإنسانية في ذلك، وربما من هول ما أصابنا حتى بتنا جميعا غرباء ومشردين ونازحين حتى من ذاكرتنا وأنفسنا، كأنه كتب علينا كي لا نكون، ولا يكون ما يليق بنا وبكرتنا الأرضية وبحياتنا، نفرش أرصفة الآخرين ونقتات منها بردنا ونقتات فتاتنا من حاوياتهم، فيا لبؤسنا وشقائنا، ويا لتعاستنا التي باتت جديرة بالدخول إلى الغينيس كأرقام قياسية بها، يا لهول العاصفة التي جرفتنا إلى البعيد، البعيد البعيد لتبتلعنا.


    ◙ اللوحة تكمل مسيرة صاحبها


    أحمد العوض ابن مدينة الحسكة، ولد فيها عام 1960، شرب من خابورها دون أن يرتوي منه، وزرع في شوارعها وفي قلوب ناسها ذاكرة تسرد ألوانه وحكايتها دون أن تنتهي. خطا باتجاه الرسم وهو صغير لم يتجاوز العاشرة من عمره، كانت تهويه ألوان المساحات الشاسعة لحلم بعيد المنال، وتغريه صفحات وجوه والديه وأخوته وكل محبيه من حوله وملامحها وكأنها من دفتر تعبير خطه طالب عاشق ومجتهد، لا يحمل في قلبه وريشه إلا الحب الذي منحه حائزا نحو الإبداع والرسم، والذي أيقظ طاقاته وقدراته كي يصبح شخصا مميزا، وإنسانا ذا موهبة يصنع ويخط سلالم الصعود إلى حلمه الذي يجوب في السموات وينتظره كي يقبض على جزيئاته كبداية لتحقيق شيء ما.

    هو العالم والعارف بأن الحياة دون أحلام صحراء قاحلة، بل جحيم لا يطاق. بدأ العوض يبحث عن كل ما يقربه من أحلامه وجرها أو الصعود إليها، فتوجه إلى ما يثري هذا الطريق ثراء عظيما، ويغنيه غنى لا يتألم على القيم، توجه بمودة قديمة ونقية إلى قصره المنيب، إلى بابه المرصود ليخرج أكياسه الكبيرة والكثيرة المليئة بالنفيس، بألوان وأفكار وريش، والدهشة تعلو وتهفهف من خلف ستائر الروح، توجه إلى ما يجلها وتجله هي، يبتاعها ويرفع بها قوامه وقلبه ومشاعره ويمضي في الطريق، لا كغريب بل كعاشق يعرف تماما أن حبيبته تنتظره قبل نهاية ذات الطريق.

    كل شيء بما في ذلك اللوحة الأخيرة، أو اللوحة غير المكتملة التي تركها لنا، لابنته من بعده، ولمتلقيه أن يكملها بالطريقة التي يشاء، اللوحة التي تجتاحنا بأوسع نظراتها وكأنها بمهارتها ترغب في السيطرة علينا والتحكم بنا لنقول ما لم يقله راحلنا العوض. كأنه يترك لنا النهايات مفتوحة بأن الفن رسالته خالدة لا تنتهي حتى لو مضى الفنان إلى سبيله.

    ◙ أحمد العوض يستعمل طريقة التنقيط في الرسم وهي طريقة تعتمد على فصل الألوان وتقسيمها إلى نقط صغيرة

    أعمال العوض باقية طالما هناك من يتأملها ويقرأها ويؤرخها ويفك شيفراتها حتى تعكس كل الافتراضات للسياقات التي ولدتها والتي ستولدها. أقول كل شيء بما في ذلك اللوحة غير المكتملة، تحدد لحظاته ودورها في فهم الأشياء التي كانت تواجهه، والتي تعكس بالضرورة تلك المعرفة الجديدة التي توصل إليها كجزء من سياقات أخرى كانت تدفعه ليخوض بها مواجهة كل ما يعيقه في فهم الواقع، وكل ما يمنعه من رؤية حقيقة الأشياء على الرغم مما قد ينكشف عن ذلك، أقصد عن تلك المواجهة وذلك الاعتراض إخفاق ما، كالتعشيق الزائف بين نطاقات الحياة المختلفة.

    العوض يميز وبحساسية عالية بين مفاتيح الحاجات الحقيقية والحاجات الزائفة في ظروفه آنذاك، والتي هي ظروفنا الآن وعلى نحو أعمق، ويعرف تماما ماهية تلك الحاجات الدقيقة والتي تبدو فيها إمكانية التغيير أضعف ما تكون، والتي لها الأثر الدافع باتجاه السواد والتي يرفضها العوض بإبداء حساسية عالية وواضحة تجاه ذلك وتجاه كل ما تنطوي عليه الافتراضات السائدة ذاتها، ويدرك بوعيه الذاتي أن قبول ذلك ما هو إلا تكرار لسواه وهذا ما يرفضه تماما ويمكن له أن يسلط الضوء أو بعضه على الذات الملهمة التي تحيله على نحو دائم إلى الحاجة الإنسانية كملاذ، وبأن الاهتمام بها هو ضرب عذب للذات برمتها.

    أحمد العوض رسّام يستعمل طريقة التنقيط في الرسم وهي طريقة تعتمد على فصل الألوان وتقسيمها إلى نقط صغيرة، أو هي طريقة أو “أسلوب فني يعتمد على وضع الألوان على سطح اللوحة على شكل نقاط صغيرة جنبا إلى جنب” وهي طريقة ليست جديدة، اشتغل عليها رسامون معروفون كجورج سورات (1859 – 1891) الذي يعتبر الأب الروحي للتقنية التنقيطية، وتشارلز انغراند (1854 – 1926) وفان غوخ (1853 – 1890) وآخرين. ومن الفنانين المعاصرين الذين استخدموا الرسم بالتنقيط نذكر البريطاني نورمان بلامر (1924 – 1999)، والأميركي دان كريستين (1942 – 2007)، والأميركية جوان ميتشيل (1925 – 1992)، والكندي رودني غراهام (1949 – 2022).


    ◙ أعمال باقية طالما هناك من يتأملها ويقرأها ويؤرخها ويفك شيفراتها حتى تعكس كل الافتراضات للسياقات التي ولدتها


    أما من عالمنا المنكوب بثروته وفقره، فنذكر المغربي عبدالعزيز العباسي والعراقي عزيز الحسك والفلسطيني شهاب قواسمي والمصرية حنان النحراوي والإماراتية أمل الغصين والسعوديين أحمد السلامة وزينب أبوفارع والأردني أحمد صبيح والسوري أحمد العوض الذي نحن في محرابه وعنه نتلو قراءتنا هذه.

    قائمة الفنانين الذين يستخدمون التنقيط طويلة بطول الزمان والمكان، وقد يكون من المفيد أن نذكر أشهر اللوحات التنقيطية التي عرفناها، كلوحة “بعد ظهر يوم الأحد في جزيرة لاغراند جات” لجورج سورات، ولوحة “شجرة الصنوبر في سان تروبيه” لبول سينياك (1863-1935)، و"بورتريه ذاتي" لفان غوخ، ولوحة الشاطئ في سان كلير (1856-1910) ولوحة “رجل وامرأة في الطريق” لتشارلز أنغراند، و”مشهد طبيعي شتوي” لألبرت دوبويس (1846-1890).

    أحمد العوض وبالاعتماد على هذا الأسلوب يأخذ منحى من التبسيط الذي يفيد موضوعاته، وبه يعيد تحديد طبيعتها وطبيعة مخلوقاته، معلنا أن الواقع غير ثابت وإن كانت الحالات لا تكاد تلبث من فرط الواقع أن تبرز إلى الوجود بالتدريج، معلنا أن أي عنصر لا يحل محل أي عنصر آخر مهما غدا هذا الواقع محاكاة لسياق حقبة ما منه.

    وفي قراءتنا الأولى لأعماله أحالتنا عبر دهشة الفرح الأول إلى تثبيت الجهة والمكان، إلى دفء بيته وأمانه واستقراره، إلى حدوده الحسية، فكيف لا يحافظ على روحه وسحرها وعنفوانها، التي هي بالتالي روح المكان الذي يحكي حقيقة ألوانه وسردها. فهو يولي عناية خاصة بعمليات الانشطار، انشطار الوجوه ومتنها، انشطار الإنسان وعدم قدرته على تجاوز محنه بحثا عن الانسجام وعتباته، وكأنه في محفل عام يعيد فيه إنتاجه مقرونا بحضوره ومداراته.

    وفي الختام أحب أن أشير إلى أن أحمد العوض قدم العديد من المعارض الفردية، وله مشاركاته في معارض جماعية كثيرة في أغلب المحافظات السورية، في كل من الحسكة والرقة وحمص ودمشق وحلب وطرطوس واللاذقية، وكان له دوره في إقامة فرع لنقابة الفنانين التشكيليين في الحسكة.



    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    غريب ملا زلال
    كاتب سوري
يعمل...
X