"الرحيمة" لأحمد فضل شبلول تروّج لأفكار محيي الدين بن عربي
الكولاج أداة سردية تنوع دلالات النص وتمنح القارئ مساحات للتأويل.
الجمعة 2024/05/03
عوالم متخيلة (لوحة ريم يسوف)
من عوالم محيي الدين بن عربي استوحى الكاتب أحمد فضل شبلول عوالم روايته التي أثثها وأثراها بنصوص دينية ومتون أدبية وفلسفية وشعبية وبأساطير وحكايات متخيلة، جعلت من عمله الروائي “الرحيمة” نصا روائيا ثريا يفسح المجال للمتلقي للاستنباط، وممارسة حرية إبداعه في التأويل والتفكيك.
بالنظر لإحدى عتبات النص الداخلية لرواية “الرحيمة” لأحمد فضل شبلول، تطالعنا صفحة كُتب بها “الفتوحات السكندرية العظيمة، كولاج روائي، الجزء الثالث من الماء العاشق”، ثم تليها صفحة الإهداء وهو جملة قصيرة: “إلى محيي الدين ابن عربي”.
ومن هاتين الصفحتين نعلم أن الإهداء لابن عربي صاحب “الفتوحات المكية” وقد أَهدى إليه الكاتب الفتوحات السكندرية العظيمة، وهو أمر باعث على استحضار كل ما مرت به الإسكندرية من وقائع عظيمة ويعد محفزا لمتابعة ما سيضيفه الكاتب من مستجدات.
وللتعرف على ابن عربي من خلال الرواية كما جاء على لسان إحدى شخصياتها المحورية وهو الواثق بالله (ص 115). “هو شاعر متصوف وفيلسوف عربي يلقب بالشيخ الأكبر وسلطان العارفين ولد في الأندلس عام 1164 وتوفي في دمشق عام 1240 وله مؤلفات كثيرة قيل إنها بلغت 800 مؤلف، ولم يصل لنا منها سوى 100 وله أتباع ومريدون من الصوفيين حتى الآن”.
وهنا تساق إلينا معلومة أن هذه الرواية هي الجزء الثالث من عملين سابقين أشار الكاتب إلى الأول منهما رواية “الماء العاشق” وترك لنا البحث عن الجزء الثاني لمن لم يقرؤه أو استحضار أحداثه لمن قرأه “ثعلب ثعلب” الرواية العجائبية الفريدة، وكل منهما يتميز عن سابقه لكن بنفس الشخوص والأبطال محذوف منها أو مضاف إليها بعض الشخصيات الجديدة التي تنبثق من الأحداث. مما يستفز التنبؤ في نفس المتلقي لبسط متسع أكبر من أفق التوقعات التي تجعله متأهبا لعقد المقارنات بين الأجزاء الثلاثة.
سلسلة من أجزاء ثلاثة
◙ من عوالم محيي الدين بن عربي استوحى الكاتب أحمد فضل شبلول عوالم روايته التي أثثها وأثراها بنصوص دينية ومتون أدبية وفلسفية
وقد تلبست الرواية فكرَ ابن عربيّ واقتبست من نصوصه وبدت كالشارح لمتونه من خلال سرد لأحداث روائية عجائبية زمانا ومكانا وشخوصا. شخوص تعيش آلاف السنين ككليوباترا، وأحدهم يترك مرحلة الطفولة ويكبر سنوات ما بين ليلة وضحاها ويتحول من “سمكمك” إلى “الواثق باللهِ” ولي العهد.
ثم نجده في الصفحة 136 قد انكمش حتى أصبح قوقعة وعاد إلى السطح ومعه لؤلؤة عظيمة بعد أن تحول إلى شكله الإنساني في غمضة عين. وشخص يبعث من قبره كالإسكندر الأكبر ليشارك في تأسيس العالم الجديد بخبراته السابقة، وأنسنة سمكة المنشار قائدة جيوش البحار، وحديث كائنات سمكمك ولعبها مع البشر، ودورها في العالم الجديد، ثم فجوات درامية إما تملأ باسترجاع تكميلي كالحال مع غبريس والثعلب الأحمر وعاتيد بن يامين، وكيف أن الثلاثة شخصية واحدة، أو تُترك لخيال المتلقي لملئِها، كلٌ بتأويلِه لكائن عملاق غامض أشبه بالسفينة ظهر على سطح الماء فجأة واختفى فجأة، وكانت له تأثيراته في الرواية ووصف بأنه ليس كمثله شيء، مما يجعل المتلقي شريكا في العملية الإبداعية حتى بعد الانتهاء من قراءة النص.
وبشر يستطيعون العيش تحت الماء أو يسيرون على صفحته الممهدة بسلاسة ويسر، وإن أُعطيت لكلِّ ذلك التبريرات والمسوغات التي تمنحها قدرا من المنطقية كما جاء (ص 74) أن دهن قيء الحوت العنبر شرط للتحول والسير تحت الماء، متخذا في ذلك من التخييل منهجا يتناسب مع العلم اللدني الذي يتبناهُ الفكرُ الصوفي واشتهر به أعلامُه كابن عربي والذي تمثله هنا الرحيمة أم الماء، ملكةُ البحار. لكن ما هذا “الكولاج الروائي”؟
يعرف فن الكولاج كعمل تشكيلي تركيبي توليفي يعتمد على قصِّ ولصقِ مواد وخامات معا واستخدامها بشكل مختلف لتكوين وابتكار لوحة فنية جديدة.
وقد وظفت الرواية والقصة القصيرة تقنية الكولاج كأداة سردية معتمدة وذلك بإقحام مقتطفات من نصوص أخرى متنوعة مع النص الأصلي، لذلك يُعد الكولاج مظهرا من مظاهر التناص في النص السردي – كما يشير معجم السرديات – كونه يرتبط بعلاقات حوارية مع نصوص أخرى. وهو يطرح قضية نقدية معاصرة لخاصية أفرزتها ما بعد الحداثة بانهيار الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية والسماح بعبور فن على فن ونوع على نوع آخر مما يعد إثراء وإغناء للفنين معا، ويسهم في تنويع زوايا السرد وتكسير خطيته وتشظية القصة، وقد يسهم في إنشاء دلالات جديدة للنص، وتوجيه القراءة التأويلية، فقد تقوم النصوص الملصقة مقام التفسير للنص التخييلي والتعليق عليه، وقد تجمعها به علاقة المفارقة والمنافرة.
في رواية “الرحيمة” تعددت وتنوعت النصوص من مقاطع من الديانات السماوية، فكان فيها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وترانيم وأسفار من العهد القديم والجديد – كما في الصفحات 191 – 182 – 242 – 244 – 249 – 292 – وأقوال الصحابة وأشعار الفصحى والعامية (177) مصطفى إبراهيم، وأغاني كأغنية “هذه ليلتي” لأم كلثوم (312) ومقالات (311) كالحديث عن تفسير الرقص من مقال الرقص والحياة للكاتبة الفلسطينية رولا جرس. وقد جعله الكاتب من كلام كليوباترا لعمر تقول “ولك أن تعلم أن الرقص هو حركة تقوم بها الروح، وعلى الجسد أن يتعاون ويخضع وإلا لن تأخذ منها ما تسأل. على الجسد أن يسمح للروح باستخدامه وعليه أن يكون متعاونا من أجل اكتشاف بعد جديد تريد الروح أن توصله إليه”.
◙ الرواية تلبست فكر ابن عربي وبدت كالشارح لمتونه من خلال سرد لأحداث روائية عجائبية زمانا ومكانا وشخوصا
هناك أيضا اقتباسات من كتب المواقف والمخاطبات للنفري (ص 306) موقف التيه. وميثولوجيا يونانية ورومانية (ص 71)، كذلك مواد معلوماتية متنوعة. ولكن هنا نسبة المعلومات جاءت أقل بكثير مما كانت عليه في رواية “ثعلب ثعلب” التي بدت في لحظة ما وكأنها جرعة معلوماتية مكثفة انبثقت عنها الرواية.
وفي “الرحيمة” جاءت معظم النصوص من الأجناس الأدبية المختلفة في سياق السرد، وعلى لسان الشخصيات، وكأنها جزء من إبداع الكاتب، وهي بالفعل كذلك، إذ استطاع توظيفها وتضفيرها بشكل متقن في سياق السرد والحوار، فأبدع منتجا جديدا متناغما متجانسا رغم تنوع النصوص. مما يحتاج إلى متلق واع يستطيع اقتناص النصوص من بين ثنايا السرد والحوار والبحث وراءها والتعرف عليها والوقوف على مدى تناسبها مع الجزء السردي الذي غرست من خلاله، هذا إلى جانب الاستشهادات المباشرة من النصوص المختلفة.
وقد بدأت فكرة الكولاج منذ اللحظة الأولى، من الغلاف حيث جاء معبرا عن فكرة الرواية وأحداثها بالجمع بين اليابسة والماء في نظام توليفي يخلق عالما أرضيا مائيا جديدا مستقرا ومحميا بمواصفات ونسب وطبيعة مختلفة عما هي عليه في الواقع.
ويشير التكوين المتخيل إلى الاضطرابات والحرائق والحروبِ التي صنعها البشر، والرغد والنماء في الجزء الغالب عليه الطبيعة المائية، يعلوها اسم كاتبنا أحمد فضل شبلول، فهو من يقدم لنا في روايته هذا الفكر وهذا العالم الجديد محمول على يد تسعه وتحيطه وتحتويه هي يد “الرحيمة” التي سنتعرف عليها من خلال الرواية التي تحمل نفس الاسم.
كل ذلك يسبح في عالم رمادي باهت خال من كل مظاهر الحياة ممثلا الواقع الأجدب الذي نعيشه رغم كل ما وصلت إليه التكنولوجيا الحديثة من تطور مزعوم لم يرتق بالنفس البشرية ولم يحلق بها في آفاق السمو المنشود. لكن رواية “الرحيمة” كما قدمها كاتبنا أحمد فضل شبلول، وكما يقول الناشر في قطعة الظهر في خلفية الغلاف “تطلّعت لقيادة العالم وتخليصه من شروره وآثامه بمساعدة عمر ياسين، ليس بالحرب ولكن بالسلام…” إلى آخر كلامه.
والكولاج لم يكن في تقنية السرد فقط بل ظهر في نسقه وأسلوبه الذي ناسبت عجائبيته الفكر الباطني، وما يمثله من العلم اللدني المطروح، فجاءت بعض المقاطع بسرد أشبه بحكايات “ألف ليلة وليلة” في أسلوبها من الجمل القصيرة بجرسها وسجعها المميز الفريد. كما في (ص 62) على سبيل المثال لا الحصر: “وقد اختل الميزان بعد أن تجبر الإنسان، ونريد عودته إلى ما كان، قبل التجبر والطغيان”.
اقتباسات وأجناس مختلفة
◙ الإهداء لابن عربي صاحب “الفتوحات المكية” وقد أَهدى إليه الكاتب الفتوحات السكندرية العظيمة
كذلك كان الفكر كولاجيا، إن صح التعبير، ظاهرا في رغبة الرحيمة أم الماء في خلق عالم جديد بمواصفات أرضية مائية تمتزج فيه المرجعيات وتنصهر اللغات في لغة واحدة كما أشار الإسكندر الأكبر العائد من الموت.
وإن كنت أخالف الإسكندر الأكبر وفكره والذي يتناص مع السلام الإبراهيمي المعادل الجديد للعولمة ولكن ليس بتبني ثقافة أميركية، ولكن بدمج الثقافات والديانات في أيديولوجيا جديدة لكنها لا تزال بمنطق غربي، فالاختلاف سنة كونية وتنوع مبدع أراده الخالق لحكمة، ولو شاء لجعلنا أمة واحدة ولا نزال مختلفين. فهذا الإعجاز الإلهي في التنوع هو الذي يصنع الهوية، لذلك خلق آدم بقبضة من جميع الأرض فكان نسله مختلف الألوان والطبائع، ومع تنوع الجغرافيا موقعا وتضاريس ومُناخا، أبدع الإنسان كل ما يناسبه في بيئته من أول اللغة، للعمارة والفكر والعادات، وهو ما جعل للسفر سبع فوائد وللفكر تنوعا رائدا واجتنبت الرتابة وحسُنت المغامرة والاستكشاف. فالعالم الجديد بالنسبة لي، لا يبنى على الانصهار، ولكن على احترام الاختلاف.
والرواية مقسمة إلى أربعة وخمسين فصلا قصيرا أو قصاصة، اذا استخدمنا مصطلحات الكولاج كفن تشكيلي، لذلك لم تحمل عناوين بل حملت أرقاما رصت وصفّت إلى بعضها البعض بتنسيق معين في السرد، كان السارد فيه متعددا، فمرات السارد هو عمر أو الرحيمة وأحيانا شرميون أو كليوباترا أو
◙ الغلاف جاء معبرا عن فكرة الرواية وأحداثها بالجمع بين اليابسة والماء في نظام توليفي يخلق عالما جديدا
الإسكندر، ويتضح ذلك من ضمير المتكلم الذي يستخدمه السارد المشارك في كل فصل، فضلا عن وجوده – ضمير المتكلم – في الحوار بين الشخصيات، لينتج لنا هذا العمل الروائي المتكامل المتعوب عليه بجهد فائق والذي لا يحتاج فقط إلى قراءة نقدية للنص والسياقات، ولكنه يحتاج تفصيصا وتدقيقا لما بين السطور والثنايا.
هو نص منفتح على كل التأويلات ويتطلب متلقيا قادرا على الاستنباط والتأويل والتفهم لغريب المفردات والتراكيب التي استخدمت نصوصا ووظفتها في أماكنها الجديدة بشكل جديد. قد يرى البعض فيها شططا إذا تناولها بسطحية دون تعمق للمعنى الذي في بطن الكاتب والشاعر.
والكاتب وإن انحاز إلى الرحيمة في رغبتها في خلق عالم مثالي بالسلام، إلا أنه لم يجبر فكره على التسليم التام للتفاصيل، فقد استطاع خلق نقاط توتر سواء تعمدها أم لم يتعمدها، تجعلنا نعمل العقل ونتشكك طول الوقت. تمثلت تلك النقاط فيما زرعه من أصل الرحيمة ومفرداتها ونواياها وأفكارها وتصرفاتها وما تملكه وما تفتقر إليه من علوم ومزايا، وطريقة معيشتها، وتخبطها أحيانا، وآراء الآخرين بها.
فالرحيمة لها أصل فريد، فهي جنية جنيات البحر، وكانت يوما من الحور العين كما قالت لعمر مع أن الحور العين خلق خاص غير الملائكة وغير الجان. وهذا ليس بغريب على التخييل في النصوص العجائبية كما في “مدينة الملائكة” لنيكولاس كيدج، وفكرة تحول الملاك إلى بشر أو النسخة الأخيرة من علاءالدين وتحول ويل سميث من جني إلى بشري.
الصفحة 90 تقول “وقد أُمرت أن أستعد لحمل أمانة العالم” لذلك هي تطلب من الإنسان أن يترجل قليلا حتى يعود إلى سويته وأصالته فيكون قادرا على استرداد الأمانة”. ثم تقول لعمر “نريد أن نعمر الكرة الأرضية يابسها وبحارها بخلق جديد بعد أن طغى الإنسان وتجبر واستنفد كل محاولات الإصلاح والتهذيب”، ثم لا تجيب عمر ما إذا كان هذا وحيا ربانيا. لأن هناك أشياء لا تستطيع تفسيرها له. وهي أم الماء التي تمد مظلتها للشعوب المضطهدة كما في مخيم الشاطئ للاجئين الفلسطينيين غرب مدينة غزة.
وعالمها عالم شعري بامتياز، وأحيانا تتبادل أم الماء والشعر المواقع المائية (ص 89) وأحيانا تقول “بايعت الضوء والماء فامتدت حدود مملكتي، بين الأرض والسماء”. وهي لا تستغني عن جلسات التقييل والقات. وتقول في الصفحة 13 “بعدما رأيته من أطماع في ملكي ومملكتي الصغيرة، قررت أن أدافع عن مصالحنا بالاستيلاء على العالم ولقد وضعت لذلك خطة مع الملكة كليوباترا”. وقد جعلت العالم المائي؛ العالم العميق مرادفا للعالم الباطني (ص 14).
عالم متخيل
◙ أسس لعالم جديد لا تختلف عن العالم القديم الفاشل
وفي تصورها للعالم الجديد تقول “سوف أعتمد في مملكة العالم القادمة ليس على علماء القنابل والفضاء والحروب والكيمياء ومن سواهم من علماء الدمار الشامل، وإنما سأعتمد على الرجال من أصحاب الصنائع من النجارين والبنائين ثم الرجال من الشعراء والروائيين والفنانين والعلماء الإنسانيين، فهؤلاء أكثر الناس اختراعا وأذكاهم فطرة وأشدهم تصرفا لعقولهم..” إلى آخر كلامها.
فهي وضعت أسسا لعالمها الجديد لا تختلف عن العالم القديم الفاشل في نظرها مبنية على التمييز بين التخصصات المختلفة وأضفت نوعا من القدسية والتنزيه على البعض ممن سيكون لهم الامتياز والأولوية والحظوة في العالم الجديد، مع أنهم كغيرهم، بينهم الصالح والطالح، بناء على رأيها فقط وما تملكه من علوم كعلم النظر والمشاهدة والوجد والشوق والكلام والأنوار والحركة وغيرها من العلوم، لكنها رغم ذلك تعتمد على عمر ياسين في المعلومات الدنيوية الأرضية لكل ما هو فوق الماء، وكذلك اعتمادها على كليوباترا.
وفي حديث عمر وهدى (ص 35) تقول هدى “أخشى أن تكون لأم الماء أو الرحيمة أطماع توسعية أكبر بكثير من تطلعات الثعلب، وإن كان الأمر كذلك فإنها أمكر وأخبث ملايين المرات من الثعلب. أمّ الماء تريد الاستيلاء على العالم كلّه”. وفي الصفحة 305 تقول كليوباترا عن الرحيمة أم الماء “ذات التقلبات والأهواء والأنواء التي لا يعرفها أحد سواي”. كليوباترا التي شاهدت الثعلب الوزير يخرج من مخدعها قبل أن يعلن استيلاءه على المنطقة الواقعة بين المنتزة وبئر مسعود، ثم أفاقت من غفلتها ورفضت أن تفتح له مخدعها مرة أخرى (ص308).
◙ نص يتطلب متلقيا قادرا على الاستنباط والتأويل والتفهم لغريب المفردات والتراكيب التي استخدمت نصوصا ووظفتها في أماكنها الجديدة
إنها تتمتع ببعض المكر فتأتي كليوباترا من بين يديها ومن خلفها وعن يمينها وعن شمالها وتأتيها بسيف مصلت ثم تضحك من ارتعاب كليوباترا وتقول إنها تداعبها (ص 309). وقد همست أم الماء ذات مرة لعمر بأن حب الرئاسة واتباع بعض الشهوات لا يشغلها عن اقتناء العلوم (ص 77). إذن هي لديها حب رئاسة وشهوات. إن فكر أمّ الماء لا يختلف عن العالم القديم في الأداء، فتقول (ص 219) “السلطة المطلقة مفسدة مطلقة ثم تطلبها لنفسها”. أما في الصفحة 288 فهي تهدد من يعترض من شعبها على الخروج بالفناء لو لم يطع الأوامر.
وفي الصفحة 289 يقول عمر لغبريس المعترض على أوامر الرحيمة بالخروج “يجب أن نمتثل جميعا لما تخططه لنا لأن فيه مصلحتنا ومصلحة الأجيال القادمة بالتأكيد. هي ترى ما ليس نراه نحن” انتهى كلامه. فلا تزال الدعوة إلى طاعة الحاكم وادّعاء العلم والحكمة اللدنية له دون دليل.
ثم تخلّصها من كليوباترا لاستبدالها بالإسكندر الأكبر الذي تحتاجه لتستفيد من خبراته وأفكاره في المرحلة الجديدة فالغاية عندها تبرر الوسيلة، مع أنها خيرت كليوباترا بين الخلود والتحول إلى البشرية مرة أخرى مخفية رغبتها في استبدالها بالإسكندر، فاختارت كليوباترا بشريتها مستغنية عن الخلود. كما ضحت بالكثير من شعبها المائي الجديد وتركته عرضة للاصطياد والقلي والشواء والتربح من وراء ذلك حتى صار طعاما مميزا للبشر. (ص 254 و255).
ويقول عمر “لم تمانع الملكة الرحيمة أم الماء في عرض المعلم عباس النورس الذي نقلته لها بل شجعت على ذلك، فقد أراد احتكار بيع الكائنات المائية الجديدة الشهية للجمهور، وفاجأتني بضرورة أن يعم العالم كله هذا النوع من الكائنات البحرية ليتذوقها ويأكلها". فهي تضحي بشعبها وتمتهنه مع أنه من نسل عمر ولم توجده بالأصل لهذا الغرض.
تقول الرحيمة "نستطيع التكامل مع الإدارة المصرية والاستيلاء على حكم العالم". ثم يظهر تخبطها في رغبتها تعيين كليوباترا على عرش مصر ثم التخلص منها لاستبدالها بالإسكندر. ثم قولها "سأكون أنا ومملكتي تحت الماء الجزء الباطني للدولة المصرية، وتكون الرئاسة الحالية هي الجزء الخارجي أو الظاهري للدولة وبهذا نستطيع التحكم في العالم". انتهى كلامها.
هي لا تفكر إذن خارج الصندوق، كما زعمت وليست سريعة الخطى، كما بدت بل هي تعيد إنتاج العالم القديم مرة أخرى بكل تفاصيله، ولكن تحت رئاستها وقيادتها الباطنية. فنحن لن نُسلم إذن لرغبات الرحيمة وأهدافها وإن بدت في ظاهرها في مصلحة العالم ومن أجل نجاته، لكن يجدر بنا أن ننظر إلى الجانب الباطني الذي تعتنقه وتجيده لقبول ما جاءت به أو رفضه، لذلك سنضع ما تطرحه على ميزان العقل والفطرة. قد لا يكون ذلك هدف الكاتب ولكنه أحد التأويلات التي تقبلها الرواية والتي ترتاح إليها نفسي.
غادة سيد
كاتبة مصرية
الكولاج أداة سردية تنوع دلالات النص وتمنح القارئ مساحات للتأويل.
الجمعة 2024/05/03
عوالم متخيلة (لوحة ريم يسوف)
من عوالم محيي الدين بن عربي استوحى الكاتب أحمد فضل شبلول عوالم روايته التي أثثها وأثراها بنصوص دينية ومتون أدبية وفلسفية وشعبية وبأساطير وحكايات متخيلة، جعلت من عمله الروائي “الرحيمة” نصا روائيا ثريا يفسح المجال للمتلقي للاستنباط، وممارسة حرية إبداعه في التأويل والتفكيك.
بالنظر لإحدى عتبات النص الداخلية لرواية “الرحيمة” لأحمد فضل شبلول، تطالعنا صفحة كُتب بها “الفتوحات السكندرية العظيمة، كولاج روائي، الجزء الثالث من الماء العاشق”، ثم تليها صفحة الإهداء وهو جملة قصيرة: “إلى محيي الدين ابن عربي”.
ومن هاتين الصفحتين نعلم أن الإهداء لابن عربي صاحب “الفتوحات المكية” وقد أَهدى إليه الكاتب الفتوحات السكندرية العظيمة، وهو أمر باعث على استحضار كل ما مرت به الإسكندرية من وقائع عظيمة ويعد محفزا لمتابعة ما سيضيفه الكاتب من مستجدات.
وللتعرف على ابن عربي من خلال الرواية كما جاء على لسان إحدى شخصياتها المحورية وهو الواثق بالله (ص 115). “هو شاعر متصوف وفيلسوف عربي يلقب بالشيخ الأكبر وسلطان العارفين ولد في الأندلس عام 1164 وتوفي في دمشق عام 1240 وله مؤلفات كثيرة قيل إنها بلغت 800 مؤلف، ولم يصل لنا منها سوى 100 وله أتباع ومريدون من الصوفيين حتى الآن”.
وهنا تساق إلينا معلومة أن هذه الرواية هي الجزء الثالث من عملين سابقين أشار الكاتب إلى الأول منهما رواية “الماء العاشق” وترك لنا البحث عن الجزء الثاني لمن لم يقرؤه أو استحضار أحداثه لمن قرأه “ثعلب ثعلب” الرواية العجائبية الفريدة، وكل منهما يتميز عن سابقه لكن بنفس الشخوص والأبطال محذوف منها أو مضاف إليها بعض الشخصيات الجديدة التي تنبثق من الأحداث. مما يستفز التنبؤ في نفس المتلقي لبسط متسع أكبر من أفق التوقعات التي تجعله متأهبا لعقد المقارنات بين الأجزاء الثلاثة.
سلسلة من أجزاء ثلاثة
◙ من عوالم محيي الدين بن عربي استوحى الكاتب أحمد فضل شبلول عوالم روايته التي أثثها وأثراها بنصوص دينية ومتون أدبية وفلسفية
وقد تلبست الرواية فكرَ ابن عربيّ واقتبست من نصوصه وبدت كالشارح لمتونه من خلال سرد لأحداث روائية عجائبية زمانا ومكانا وشخوصا. شخوص تعيش آلاف السنين ككليوباترا، وأحدهم يترك مرحلة الطفولة ويكبر سنوات ما بين ليلة وضحاها ويتحول من “سمكمك” إلى “الواثق باللهِ” ولي العهد.
ثم نجده في الصفحة 136 قد انكمش حتى أصبح قوقعة وعاد إلى السطح ومعه لؤلؤة عظيمة بعد أن تحول إلى شكله الإنساني في غمضة عين. وشخص يبعث من قبره كالإسكندر الأكبر ليشارك في تأسيس العالم الجديد بخبراته السابقة، وأنسنة سمكة المنشار قائدة جيوش البحار، وحديث كائنات سمكمك ولعبها مع البشر، ودورها في العالم الجديد، ثم فجوات درامية إما تملأ باسترجاع تكميلي كالحال مع غبريس والثعلب الأحمر وعاتيد بن يامين، وكيف أن الثلاثة شخصية واحدة، أو تُترك لخيال المتلقي لملئِها، كلٌ بتأويلِه لكائن عملاق غامض أشبه بالسفينة ظهر على سطح الماء فجأة واختفى فجأة، وكانت له تأثيراته في الرواية ووصف بأنه ليس كمثله شيء، مما يجعل المتلقي شريكا في العملية الإبداعية حتى بعد الانتهاء من قراءة النص.
وبشر يستطيعون العيش تحت الماء أو يسيرون على صفحته الممهدة بسلاسة ويسر، وإن أُعطيت لكلِّ ذلك التبريرات والمسوغات التي تمنحها قدرا من المنطقية كما جاء (ص 74) أن دهن قيء الحوت العنبر شرط للتحول والسير تحت الماء، متخذا في ذلك من التخييل منهجا يتناسب مع العلم اللدني الذي يتبناهُ الفكرُ الصوفي واشتهر به أعلامُه كابن عربي والذي تمثله هنا الرحيمة أم الماء، ملكةُ البحار. لكن ما هذا “الكولاج الروائي”؟
يعرف فن الكولاج كعمل تشكيلي تركيبي توليفي يعتمد على قصِّ ولصقِ مواد وخامات معا واستخدامها بشكل مختلف لتكوين وابتكار لوحة فنية جديدة.
وقد وظفت الرواية والقصة القصيرة تقنية الكولاج كأداة سردية معتمدة وذلك بإقحام مقتطفات من نصوص أخرى متنوعة مع النص الأصلي، لذلك يُعد الكولاج مظهرا من مظاهر التناص في النص السردي – كما يشير معجم السرديات – كونه يرتبط بعلاقات حوارية مع نصوص أخرى. وهو يطرح قضية نقدية معاصرة لخاصية أفرزتها ما بعد الحداثة بانهيار الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية والسماح بعبور فن على فن ونوع على نوع آخر مما يعد إثراء وإغناء للفنين معا، ويسهم في تنويع زوايا السرد وتكسير خطيته وتشظية القصة، وقد يسهم في إنشاء دلالات جديدة للنص، وتوجيه القراءة التأويلية، فقد تقوم النصوص الملصقة مقام التفسير للنص التخييلي والتعليق عليه، وقد تجمعها به علاقة المفارقة والمنافرة.
في رواية “الرحيمة” تعددت وتنوعت النصوص من مقاطع من الديانات السماوية، فكان فيها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وترانيم وأسفار من العهد القديم والجديد – كما في الصفحات 191 – 182 – 242 – 244 – 249 – 292 – وأقوال الصحابة وأشعار الفصحى والعامية (177) مصطفى إبراهيم، وأغاني كأغنية “هذه ليلتي” لأم كلثوم (312) ومقالات (311) كالحديث عن تفسير الرقص من مقال الرقص والحياة للكاتبة الفلسطينية رولا جرس. وقد جعله الكاتب من كلام كليوباترا لعمر تقول “ولك أن تعلم أن الرقص هو حركة تقوم بها الروح، وعلى الجسد أن يتعاون ويخضع وإلا لن تأخذ منها ما تسأل. على الجسد أن يسمح للروح باستخدامه وعليه أن يكون متعاونا من أجل اكتشاف بعد جديد تريد الروح أن توصله إليه”.
◙ الرواية تلبست فكر ابن عربي وبدت كالشارح لمتونه من خلال سرد لأحداث روائية عجائبية زمانا ومكانا وشخوصا
هناك أيضا اقتباسات من كتب المواقف والمخاطبات للنفري (ص 306) موقف التيه. وميثولوجيا يونانية ورومانية (ص 71)، كذلك مواد معلوماتية متنوعة. ولكن هنا نسبة المعلومات جاءت أقل بكثير مما كانت عليه في رواية “ثعلب ثعلب” التي بدت في لحظة ما وكأنها جرعة معلوماتية مكثفة انبثقت عنها الرواية.
وفي “الرحيمة” جاءت معظم النصوص من الأجناس الأدبية المختلفة في سياق السرد، وعلى لسان الشخصيات، وكأنها جزء من إبداع الكاتب، وهي بالفعل كذلك، إذ استطاع توظيفها وتضفيرها بشكل متقن في سياق السرد والحوار، فأبدع منتجا جديدا متناغما متجانسا رغم تنوع النصوص. مما يحتاج إلى متلق واع يستطيع اقتناص النصوص من بين ثنايا السرد والحوار والبحث وراءها والتعرف عليها والوقوف على مدى تناسبها مع الجزء السردي الذي غرست من خلاله، هذا إلى جانب الاستشهادات المباشرة من النصوص المختلفة.
وقد بدأت فكرة الكولاج منذ اللحظة الأولى، من الغلاف حيث جاء معبرا عن فكرة الرواية وأحداثها بالجمع بين اليابسة والماء في نظام توليفي يخلق عالما أرضيا مائيا جديدا مستقرا ومحميا بمواصفات ونسب وطبيعة مختلفة عما هي عليه في الواقع.
ويشير التكوين المتخيل إلى الاضطرابات والحرائق والحروبِ التي صنعها البشر، والرغد والنماء في الجزء الغالب عليه الطبيعة المائية، يعلوها اسم كاتبنا أحمد فضل شبلول، فهو من يقدم لنا في روايته هذا الفكر وهذا العالم الجديد محمول على يد تسعه وتحيطه وتحتويه هي يد “الرحيمة” التي سنتعرف عليها من خلال الرواية التي تحمل نفس الاسم.
كل ذلك يسبح في عالم رمادي باهت خال من كل مظاهر الحياة ممثلا الواقع الأجدب الذي نعيشه رغم كل ما وصلت إليه التكنولوجيا الحديثة من تطور مزعوم لم يرتق بالنفس البشرية ولم يحلق بها في آفاق السمو المنشود. لكن رواية “الرحيمة” كما قدمها كاتبنا أحمد فضل شبلول، وكما يقول الناشر في قطعة الظهر في خلفية الغلاف “تطلّعت لقيادة العالم وتخليصه من شروره وآثامه بمساعدة عمر ياسين، ليس بالحرب ولكن بالسلام…” إلى آخر كلامه.
والكولاج لم يكن في تقنية السرد فقط بل ظهر في نسقه وأسلوبه الذي ناسبت عجائبيته الفكر الباطني، وما يمثله من العلم اللدني المطروح، فجاءت بعض المقاطع بسرد أشبه بحكايات “ألف ليلة وليلة” في أسلوبها من الجمل القصيرة بجرسها وسجعها المميز الفريد. كما في (ص 62) على سبيل المثال لا الحصر: “وقد اختل الميزان بعد أن تجبر الإنسان، ونريد عودته إلى ما كان، قبل التجبر والطغيان”.
اقتباسات وأجناس مختلفة
◙ الإهداء لابن عربي صاحب “الفتوحات المكية” وقد أَهدى إليه الكاتب الفتوحات السكندرية العظيمة
كذلك كان الفكر كولاجيا، إن صح التعبير، ظاهرا في رغبة الرحيمة أم الماء في خلق عالم جديد بمواصفات أرضية مائية تمتزج فيه المرجعيات وتنصهر اللغات في لغة واحدة كما أشار الإسكندر الأكبر العائد من الموت.
وإن كنت أخالف الإسكندر الأكبر وفكره والذي يتناص مع السلام الإبراهيمي المعادل الجديد للعولمة ولكن ليس بتبني ثقافة أميركية، ولكن بدمج الثقافات والديانات في أيديولوجيا جديدة لكنها لا تزال بمنطق غربي، فالاختلاف سنة كونية وتنوع مبدع أراده الخالق لحكمة، ولو شاء لجعلنا أمة واحدة ولا نزال مختلفين. فهذا الإعجاز الإلهي في التنوع هو الذي يصنع الهوية، لذلك خلق آدم بقبضة من جميع الأرض فكان نسله مختلف الألوان والطبائع، ومع تنوع الجغرافيا موقعا وتضاريس ومُناخا، أبدع الإنسان كل ما يناسبه في بيئته من أول اللغة، للعمارة والفكر والعادات، وهو ما جعل للسفر سبع فوائد وللفكر تنوعا رائدا واجتنبت الرتابة وحسُنت المغامرة والاستكشاف. فالعالم الجديد بالنسبة لي، لا يبنى على الانصهار، ولكن على احترام الاختلاف.
والرواية مقسمة إلى أربعة وخمسين فصلا قصيرا أو قصاصة، اذا استخدمنا مصطلحات الكولاج كفن تشكيلي، لذلك لم تحمل عناوين بل حملت أرقاما رصت وصفّت إلى بعضها البعض بتنسيق معين في السرد، كان السارد فيه متعددا، فمرات السارد هو عمر أو الرحيمة وأحيانا شرميون أو كليوباترا أو
◙ الغلاف جاء معبرا عن فكرة الرواية وأحداثها بالجمع بين اليابسة والماء في نظام توليفي يخلق عالما جديدا
الإسكندر، ويتضح ذلك من ضمير المتكلم الذي يستخدمه السارد المشارك في كل فصل، فضلا عن وجوده – ضمير المتكلم – في الحوار بين الشخصيات، لينتج لنا هذا العمل الروائي المتكامل المتعوب عليه بجهد فائق والذي لا يحتاج فقط إلى قراءة نقدية للنص والسياقات، ولكنه يحتاج تفصيصا وتدقيقا لما بين السطور والثنايا.
هو نص منفتح على كل التأويلات ويتطلب متلقيا قادرا على الاستنباط والتأويل والتفهم لغريب المفردات والتراكيب التي استخدمت نصوصا ووظفتها في أماكنها الجديدة بشكل جديد. قد يرى البعض فيها شططا إذا تناولها بسطحية دون تعمق للمعنى الذي في بطن الكاتب والشاعر.
والكاتب وإن انحاز إلى الرحيمة في رغبتها في خلق عالم مثالي بالسلام، إلا أنه لم يجبر فكره على التسليم التام للتفاصيل، فقد استطاع خلق نقاط توتر سواء تعمدها أم لم يتعمدها، تجعلنا نعمل العقل ونتشكك طول الوقت. تمثلت تلك النقاط فيما زرعه من أصل الرحيمة ومفرداتها ونواياها وأفكارها وتصرفاتها وما تملكه وما تفتقر إليه من علوم ومزايا، وطريقة معيشتها، وتخبطها أحيانا، وآراء الآخرين بها.
فالرحيمة لها أصل فريد، فهي جنية جنيات البحر، وكانت يوما من الحور العين كما قالت لعمر مع أن الحور العين خلق خاص غير الملائكة وغير الجان. وهذا ليس بغريب على التخييل في النصوص العجائبية كما في “مدينة الملائكة” لنيكولاس كيدج، وفكرة تحول الملاك إلى بشر أو النسخة الأخيرة من علاءالدين وتحول ويل سميث من جني إلى بشري.
الصفحة 90 تقول “وقد أُمرت أن أستعد لحمل أمانة العالم” لذلك هي تطلب من الإنسان أن يترجل قليلا حتى يعود إلى سويته وأصالته فيكون قادرا على استرداد الأمانة”. ثم تقول لعمر “نريد أن نعمر الكرة الأرضية يابسها وبحارها بخلق جديد بعد أن طغى الإنسان وتجبر واستنفد كل محاولات الإصلاح والتهذيب”، ثم لا تجيب عمر ما إذا كان هذا وحيا ربانيا. لأن هناك أشياء لا تستطيع تفسيرها له. وهي أم الماء التي تمد مظلتها للشعوب المضطهدة كما في مخيم الشاطئ للاجئين الفلسطينيين غرب مدينة غزة.
وعالمها عالم شعري بامتياز، وأحيانا تتبادل أم الماء والشعر المواقع المائية (ص 89) وأحيانا تقول “بايعت الضوء والماء فامتدت حدود مملكتي، بين الأرض والسماء”. وهي لا تستغني عن جلسات التقييل والقات. وتقول في الصفحة 13 “بعدما رأيته من أطماع في ملكي ومملكتي الصغيرة، قررت أن أدافع عن مصالحنا بالاستيلاء على العالم ولقد وضعت لذلك خطة مع الملكة كليوباترا”. وقد جعلت العالم المائي؛ العالم العميق مرادفا للعالم الباطني (ص 14).
عالم متخيل
◙ أسس لعالم جديد لا تختلف عن العالم القديم الفاشل
وفي تصورها للعالم الجديد تقول “سوف أعتمد في مملكة العالم القادمة ليس على علماء القنابل والفضاء والحروب والكيمياء ومن سواهم من علماء الدمار الشامل، وإنما سأعتمد على الرجال من أصحاب الصنائع من النجارين والبنائين ثم الرجال من الشعراء والروائيين والفنانين والعلماء الإنسانيين، فهؤلاء أكثر الناس اختراعا وأذكاهم فطرة وأشدهم تصرفا لعقولهم..” إلى آخر كلامها.
فهي وضعت أسسا لعالمها الجديد لا تختلف عن العالم القديم الفاشل في نظرها مبنية على التمييز بين التخصصات المختلفة وأضفت نوعا من القدسية والتنزيه على البعض ممن سيكون لهم الامتياز والأولوية والحظوة في العالم الجديد، مع أنهم كغيرهم، بينهم الصالح والطالح، بناء على رأيها فقط وما تملكه من علوم كعلم النظر والمشاهدة والوجد والشوق والكلام والأنوار والحركة وغيرها من العلوم، لكنها رغم ذلك تعتمد على عمر ياسين في المعلومات الدنيوية الأرضية لكل ما هو فوق الماء، وكذلك اعتمادها على كليوباترا.
وفي حديث عمر وهدى (ص 35) تقول هدى “أخشى أن تكون لأم الماء أو الرحيمة أطماع توسعية أكبر بكثير من تطلعات الثعلب، وإن كان الأمر كذلك فإنها أمكر وأخبث ملايين المرات من الثعلب. أمّ الماء تريد الاستيلاء على العالم كلّه”. وفي الصفحة 305 تقول كليوباترا عن الرحيمة أم الماء “ذات التقلبات والأهواء والأنواء التي لا يعرفها أحد سواي”. كليوباترا التي شاهدت الثعلب الوزير يخرج من مخدعها قبل أن يعلن استيلاءه على المنطقة الواقعة بين المنتزة وبئر مسعود، ثم أفاقت من غفلتها ورفضت أن تفتح له مخدعها مرة أخرى (ص308).
◙ نص يتطلب متلقيا قادرا على الاستنباط والتأويل والتفهم لغريب المفردات والتراكيب التي استخدمت نصوصا ووظفتها في أماكنها الجديدة
إنها تتمتع ببعض المكر فتأتي كليوباترا من بين يديها ومن خلفها وعن يمينها وعن شمالها وتأتيها بسيف مصلت ثم تضحك من ارتعاب كليوباترا وتقول إنها تداعبها (ص 309). وقد همست أم الماء ذات مرة لعمر بأن حب الرئاسة واتباع بعض الشهوات لا يشغلها عن اقتناء العلوم (ص 77). إذن هي لديها حب رئاسة وشهوات. إن فكر أمّ الماء لا يختلف عن العالم القديم في الأداء، فتقول (ص 219) “السلطة المطلقة مفسدة مطلقة ثم تطلبها لنفسها”. أما في الصفحة 288 فهي تهدد من يعترض من شعبها على الخروج بالفناء لو لم يطع الأوامر.
وفي الصفحة 289 يقول عمر لغبريس المعترض على أوامر الرحيمة بالخروج “يجب أن نمتثل جميعا لما تخططه لنا لأن فيه مصلحتنا ومصلحة الأجيال القادمة بالتأكيد. هي ترى ما ليس نراه نحن” انتهى كلامه. فلا تزال الدعوة إلى طاعة الحاكم وادّعاء العلم والحكمة اللدنية له دون دليل.
ثم تخلّصها من كليوباترا لاستبدالها بالإسكندر الأكبر الذي تحتاجه لتستفيد من خبراته وأفكاره في المرحلة الجديدة فالغاية عندها تبرر الوسيلة، مع أنها خيرت كليوباترا بين الخلود والتحول إلى البشرية مرة أخرى مخفية رغبتها في استبدالها بالإسكندر، فاختارت كليوباترا بشريتها مستغنية عن الخلود. كما ضحت بالكثير من شعبها المائي الجديد وتركته عرضة للاصطياد والقلي والشواء والتربح من وراء ذلك حتى صار طعاما مميزا للبشر. (ص 254 و255).
ويقول عمر “لم تمانع الملكة الرحيمة أم الماء في عرض المعلم عباس النورس الذي نقلته لها بل شجعت على ذلك، فقد أراد احتكار بيع الكائنات المائية الجديدة الشهية للجمهور، وفاجأتني بضرورة أن يعم العالم كله هذا النوع من الكائنات البحرية ليتذوقها ويأكلها". فهي تضحي بشعبها وتمتهنه مع أنه من نسل عمر ولم توجده بالأصل لهذا الغرض.
تقول الرحيمة "نستطيع التكامل مع الإدارة المصرية والاستيلاء على حكم العالم". ثم يظهر تخبطها في رغبتها تعيين كليوباترا على عرش مصر ثم التخلص منها لاستبدالها بالإسكندر. ثم قولها "سأكون أنا ومملكتي تحت الماء الجزء الباطني للدولة المصرية، وتكون الرئاسة الحالية هي الجزء الخارجي أو الظاهري للدولة وبهذا نستطيع التحكم في العالم". انتهى كلامها.
هي لا تفكر إذن خارج الصندوق، كما زعمت وليست سريعة الخطى، كما بدت بل هي تعيد إنتاج العالم القديم مرة أخرى بكل تفاصيله، ولكن تحت رئاستها وقيادتها الباطنية. فنحن لن نُسلم إذن لرغبات الرحيمة وأهدافها وإن بدت في ظاهرها في مصلحة العالم ومن أجل نجاته، لكن يجدر بنا أن ننظر إلى الجانب الباطني الذي تعتنقه وتجيده لقبول ما جاءت به أو رفضه، لذلك سنضع ما تطرحه على ميزان العقل والفطرة. قد لا يكون ذلك هدف الكاتب ولكنه أحد التأويلات التي تقبلها الرواية والتي ترتاح إليها نفسي.
غادة سيد
كاتبة مصرية