لوعة الشجن في العمل التشكيلي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • لوعة الشجن في العمل التشكيلي

    معرض تشكيلي بمناسبة الذكرى المئوية للشاعر، السينمائي، الروائي بازوليني

    لوعة الشجن في العمل التشكيلي

    روما: موسى الخميسي

    بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد الشاعر، السينمائي، الروائي، الرسام "بيير باولو بازوليني1922ــ2022 " الذي اغتيل عام 1975,، وضمن احتفالات إيطاليا الرسمية والشعبية طيلة هذا العام، تقيم وزارة الكنوز الثقافية، بالاشتراك مع جمعيات رسمية واهلية حملت اسمه في عموم المدن الإيطالية، معرضا فنيا يضم 200 عمل فني تشكيلي من إنجازاته في فن الرسم.

    الشعراء والكتّاب أيا كان علة ذوقهم الأدبي عندما يرسمون بعناد فهم يفرّون من اللا شكلي او ما يسمى بالمجرد، ليكون منتجهم أبعد ما يكون بطئا عن كل ما يُعمل، فينتشلونه من المستوى الأوسط لما هو عادي ويضفون عليه كثافة بصرية وثقلا ماديا.

    ذلك انه تحت تشكيل الرسم يوجد دائما شيئا ما موصوفا لفظيا (حتى وان تعلق الامر بالوجود الذهني) ولأجل ذلك فان الرصيد الرمزي جار به العمل ولا يجب ان يشكل أية إشكال.

    كما انه لا يجب ان نهمل في سلسلة الرسومات مسألة وجود الرسم الذاتي" البورتريت الشخصي" والتي هي متوالجة ، بخلاف الرسومات الذاتية ، ونموذج البورتريت الذي رسمه بازوليني لـناقد ومؤرخ الفن المعاصر(روبيرتو لونغي).

    وكلها تكشف نزعة بازوليني للتموضع وأشكلة ذاته كصنف إنساني، وهو عملية تقتضي الوسيط، العجيب والغريب والموضوعي في نفس الوقت. ما يفسر بوجه ما جاذبية الاخراج اللامع لفيلمه الشهير " ألف ليلة وليلة" وهو الفيلم الذي نرى فيه الصور بوضوح مبيّن وبالمسافة الغير قابلة للطي لاستحضار سحري في الفضاء الزجاجي للغز ما.

    وبازوليني كان كاتبا قادرا على السرد التمثيلي بمعنى الوصف الواقعي والدقيق الذي يوحي لدى القارئ باستحضار جوهر الصور التي تنقلها العبارات، ومع ذلك فان وراء هذه القدرة على القول التمثيلي والتشكيلي نجد دائما ما هو إيقوني . ويتبين هذا لنا في أول فيلم له، "الشحاذ"، حيث ان الشخصيات فيه معطاة أولا كمحاور إيقونية، وقدمت ساكنة غير متحركة ثم حركت.

    وككل الواقعيين فان "بازوليني" كان بحاجة الى نوعية الا انه مثل قلة منهم كان مدركا بانفتاح الواقعي على المجال القريب والعديم الحدود للمخيال. وذلك ما يجعل الصورة، في إطار عمله التعبيري، دائما في علاقة مع المكتوب ويشهد بذلك سلسلة الرسومات حيث واقعة الرسم تذوب وتتفكك لتتجانس مع المكتوب.

    اهتمام وجدوى العمادة البصرية المترابطة مع السرد والتي وثقتها تلك الرسومات تفسر العبور من السردية ومن الشعر الى الاخراج السينمائي. لقد خلبت السينما بازوليني لقدرتها الفائقة على انتاج انهارا من الصور الشديدة البيان وذات الطبيعة الجزئية وذلك حتى في أدنى أوقات الادراك.

    الا ان السينما هي أيضا الصناعة الكبيرة، وإحدى سنام 'نزعة الاستهلاك' التي كان بازوليني يبغضها، حتى وان كان مجذوبا اليها مثل انجذاب الفراشات الى الضوء. كان يعجبه ان يهذّب الصورة ويشذبها في جزئياتها بعناية فائقة لإدخال ضرب من "البطء" المخيالي حتى في الوقت القصير للإدراك، ولأجل ذلك كان بحاجة الى التجربة التشكيلية (التي تضفي الاشكال بالمعنيين الهندسي والفني) التي توثقها تلك الرسومات التي كان يقوم بها حتى وان لم تكن ذات جودة عالية.

    لقد كانت السينما المركبة الواسعة للخيال الا انها مثل اي مركبة اخرى هي بحاجة من حين لأخر الى المفك والى نفاثة التشحيم اللذان يحتفظ بهما الميكانيكي في جيوب بدلة عمله.

    من اليقيني ان رسومات بازوليني ستظل لحظة من جنس المصنوعات اليدوية، الا ان ذلك لا يجعل منها ضديدا لعمل فكري بل هي كذلك (لحظة من جنس المصنوعات البدوية) بالإضافة الى عمل صناعي يقتضي اجتهادا مضن في التخطيط والبرمجة وفي تكوين وانتاج الصور. وكون الرسومات خاضعة لمعيار التواضع خضوعا إضافيا ونسبيا فان ذلك يفسر بواجب الاحترام لفن الآخر بقواعده التي لا يملك من هو بالإضافة اليه كالهاوي الغير مختص بعد، أيا كان عبقريا، ان يسمح لنفسه بتغييرها. هذا وان رسوماته تقبل التفسير في علاقتها بالتناقضات الداخلية للإخراج أكثر من قابليتها للتفسير بالمقارنة السهلة، نسبيا، مع السرد. وكان يعلم ان السينما هي ضرب من الاستهلاك الشيطاني بقدر ما تملأ فضاء العالم بالصور الطافحة بالجاذبية حتى وان كانت عديمة الديمومة.

    وبما انه كان مدركا لكل هذا فقد طلب صورا ذات بهاء وان كانت من جنس الدور السفلية والكهوف، مثل نساء القديس انطونيو، التي هي مجرد اطياف وخيالات، واكسية ملكية على الفراغ الكامل للبدن والنفس. ذلك انه كان يجد الحاجة الى ان يضفي عليها معنى تمثيليا يتعارض اخلاقيا مع اللمعان الوهمي.

    السفر الرائع لبازوليني الى غاية المخيال السينمائي كان سفرا مشروعا فقط بإمكانية تعلقه سرا بالجذر السليم للفن تلك هي علة الحنين الى الصناعة اليدوية: لقد كانت الرسومات بقلم الرصاص والتصوير كمزهرية او حوض لزهور ابرة الراعي في شرفات ناطحة سحاب كان لها معنى الطلسم تبدو وكأنها واعدة بعودة ما لكن للأسف لا وجود لعودة تذكر.

    بازوليني الشاعر والروائي وكاتب المحاولات الدرامية ورجل المسرح والسينما، هل يمكننا القول بانه كان فنانا تشكيليا؟ بازوليني منذ سني شبابه الى آخر فترة من حياته، كان يرسم. ومما لا شك فيه ان اكتشاف كون بازوليني، علاوة على كل نشاط آخر له، كان يختبر ايضا في وجدانه الحاجة الى الرسم والتصوير هو امر لم يتخلف في السنوات الاخيرة من حياته عن اثمار المفاجأة، الفضول والاهتمام. وعلل كل هذا شديدة البيان. وهذا المعرض لعدد محدد من اعماله الفنية ومع مجموعة من التخطيطات، تعكس مظهر آخر من مظاهر العبقرية البازولينية التي توفر مساهمة اضافية في التعرف على شخصية خصبة ومعقدة، مليئة بالدهشة في حياة هذا المبدع. اعتقد انه لم يكن صعبا بالنسبة لنقاد الفن، حتى من قبل، ان نقف على حقيقة هذا الميل الخاص للفن التشكيلي. وفعلا فان مشاهدة بعض افلامه جعلتنا ندرك منذ زمن وفي حينها بان معرفته بالرسم وذوقه للرسم لم يكونا فقط من طبيعة أدبية او من جنس العموميات الثقافية. ولأجل ان نفسر هذا لا يكفي، حسب رأيي، ان نذكر بان بازوليني، في سني الجامعة في مدينة بولونيا، كان يتابع بغرام دروس المؤرخ وناقد الفن التشكيلي الايطالي الشهير روبيرتو لونكي 1890ــ 1970حول دروسه في جامعة بواونيا حول الفنان مازولينو دابانيكاله 1383ــ 1447، والفنان توماسو مازاتشو1401ــ 1427. ومن اليقيني ان اللقاء مع المؤرخ لونغي كان ذا أهمية بالغة بالنسبة اليه: لأجل ذلك في عام 1962، اهداه سيناريو فيلمه "ماما روما"، مصرحا بانه "مدين له باتساع معارفه التشكيلية". وبالرغم من ذلك فان في الذوق وفي المعرفة بالرسم عند بازوليني نشعر بانه كانت لديه علاقة مباشرة وأكثر حميمية.
يعمل...
X