شعر سركون بولص... نبتة زُرعت في مكان ليس أرضها؟

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • شعر سركون بولص... نبتة زُرعت في مكان ليس أرضها؟

    شعر سركون بولص... نبتة زُرعت في مكان ليس أرضها؟

    الدراسات التي تناولت تجربته ضئيلة إذا قورنت بشهرته الكبيرة



    سركون بولص
    آخر تحديث: 15:28-27 أبريل 2024 م ـ 18 شوّال 1445 هـ
    نُشر: 15:05-27 أبريل 2024 م ـ 18 شوّال 1445 هـ
    TT

    20مثلما تتغيّر اتجاهات الأدب ومعناه وطرق تناوله بمرور الزمن، يختلف النقد هو الآخر في كلّ حقبة، والنتاج الأدبيّ لكلّ أمة في حاجة إلى مراجعة للتجارب التي دُوّنتْ في الماضي، وأُخِذ بها من قِبل الجميع على أنها حقائق ثابتة، طالما وقفتْ وراءها أقلام حقّقت حظّاً طيّباً من الشهرة بين القرّاء عندما ظهرت للنور أوّل مرة. ولأجل أن يكون البناء النقدي متماسكاً، فإن هذه المراجعة يجب أن تنسحب إلى الخلف تباعاً، دون استثناء حقبة من الماضي، حتى البعيد منه والأبعد، وإن أدى هذا الفعل إلى خسائر في مُنجزنا الأدبي. إن لدى جميع الشعوب الكثير من الأيّام الماضية التي كابدتها، والتي لا تعتدّ بها الأجيال اللاحقة، والشعر القديم جزء من الماضي، فلا بدّ من أن تجري عليه المراجعة نفسها. من هذا العمل ما قام به طه حسين وهو يعيد قراءة المعلّقات، ناسباً الكثير من شعرها إلى علماء اللغة؛ لأن فعل الإبداع فيها معدوم، فهي تعداد ووصف لأجزاء بَدَن الناقة وغيرها من الدوابّ، وهذا عمل غرضه إثباتٌ معجميّ لألفاظ اللغة العربيّة لا غير، وعُدّ كلام نابغة مصر في زمانه مغامرة ربما عادت على صاحبها بالنيل من مكانته؛ لأن الماضي يصير لدى أهل التقليد مقدّساً، وكلّ ثلمة فيه تتحوّل إلى مصدر اتّهام لا يمكن توقّع نتائجه. يقول ميلان كونديرا: «العمل الأدبي الذي يكشف جزءاً مجهولاً من الوجود الإنساني هو وحده الذي يمتلك مبرّراً للكينونة». وبما أن وجودنا البشري على سطح الكوكب في حالة صيرورة دائمة، فإن الأدب هو الآخر في حالة متغيّرة باستمرار، والنقد لونٌ من ألوان الأدب، ويخضع، بالتالي، إلى قوانينه والظروف التي يعيش فيها، أو يندثر.

    لم يتناول الدارسون بالتفصيل تجربة الشاعر سركون بولص منذ نشأته في العراق، ثم اتّصاله في بيروت بجماعة مجلة «شعر»، وارتحاله وتجواله في مدن أوروبا وأميركا. البحوث التي تناولت تجربة الشاعر ضئيلة إذا قورنت بالشهرة الكبيرة التي يحظى بها. وبدلاً عن الدراسات الأدبيّة نجد في المجلّات والصحف حوارات قام بها متأدّبون سألوه عن كلّ شيء في دنيا الأدب إلّا شعره، فإن جاء السؤال فهو موازٍ للجواب في الغالب، الذي هو ملغّزٌ أكثر من اللازم، ويعود بولص فيه إلى تنظيرات وآراء شعراء أميركان وإنجليز لم نسمع بأسماء بعضهم، ويتساءل المرء، في بعض الأحيان وهو يدرس شعره، إن كان نبتة ازدُرعت في مكان ليس أرضها، وإلا فلماذا جاءت قصيدته مغلقة بهذه الصورة على القارئ. بالإضافة إلى الحوارات، هنالك تذكارات مع أصدقائه الشعراء؛ سعدي يوسف وأدونيس وعباس بيضون، وغيرهم، ما يشبه الرثاء دوّنوه في مقالات بالصحف عقب وفاته، وهذا لا يدخل، في الغالب، في باب النقد الأدبي.

    إن أصالة الشاعر لا تتجسّد في قصائده فحسب، وإنما في أفكاره وقناعاته وطريقته في العيش أيضاً، والنصّ الأدبي لا يعيش في عالم منفصل عن الكاتب، والمحاولات النقديّة التي سارت في هذا الاتجاه، خلال القرن الماضي، انتهت إلى طريق مسدود، أو أنه «لا يؤدي إلى أين»، إذا استعرنا عنوان مجموعة شعريّة لسركون بولص في وصف ما نريد.

    الكتاب من نحو 500 صفحة، عنوانه: «سافرتُ ملاحقاً خيالاتي» مجموعة حوارات نشرتها دار الجمل، فيه فصل لحديث الروائيّة سلوى النعيمي مع بولص عام 1997: «أنا لا أكتب قصيدة نثر، أكتب شعراً»، (يصرخ) الشاعر في وجه الروائية النعيمي. «علينا أن نفقد ثقتنا بالعالم. عندما أرى إنساناً واثقاً من العالم أخاف منه. كيف أثق بأن القطار الذي يحملني لن يتفجّر بعد قليل، أو أن مجنوناً سيدخل المقهى حاملاً رشّاشاً يقتل مَن أمامه». وبالإضافة إلى العالم المحيط به، يعلن الشاعر صراحة عدم ثقته بالنقد الأدبي وبالمرأة. ثلاث قضايا لا رابط بينها في الواقع، لكنها التأمت مع بعضها في خياله وصارت جزءاً من ذاته. هل نستطيع عدّ هذا الشعور ما يطلق عليه علماء النفس «جنون الارتياب»؟ أمرٌ آخر يخافه سركون بولص هو اللغة: «أنا من النوع الذي يخاف من اللغة، وفي الوقت نفسه يستغلّها في عمليّة إرهابيّة لإجبارها على الخضوع. هناك نوع من الساديّة في هذه العلاقة». لم أفهم، في الحقيقة، مغزى الشاعر، وكان بإمكانه استعمال حركة أكثر هدوءاً عند تعامله مع كتاب اللغة: «القاموس، هذا الشيء الغريب، يحتوي كلّ شيء في حالة موات، في حالة سبات، يأتي الشاعر ليوقظه، برفسة إن احتاج الأمر». ثم يستعير بولص فِعل الإرهاب ثانية، ولا نعرف أيّة ساقية معتمة في نهر الواقع أو الخيال قادته إليه: «العلاقة بين الشاعر واللغة مختلفة عن علاقة الآخرين بها، إنها علاقة مثيرة يمكن له بواسطتها أن يفجّر العالم، كما يفعل أيّ إرهابي». تنتبه النعيمي إلى الشِّدّة في كلامه، وتسأله لماذا «تستعمل كثيراً تعبيرات مثل التفجير والإرهاب والقتل؟»، يجيبها الشاعر، وباللهجة نفسها: «نعم، أعتقد أن علاقتي (حدّية) مع العالم ومع الكتابة».

    الشعر الشديد

    إذا رجعنا إلى سنة ميلاد الشاعر 1944، معنى هذا أن عمره وقت الحوار تجاوز الخمسين؛ أي أنه غادر تقريباً هيجان الصبا والشباب، لكنه لا يزال يستعير أدوات تلك السنين في التعبير. وفي مكان آخر من اللقاء، يذكر بولص أسماء الشعراء الذين كان لهم السبق في كتابة قصيدة النثر العربية: يوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط وشوقي أبو شقرا وعصام محفوظ، ويصف ما قاموا به بأنه «ثورة حقيقيّة» في الشعر العربي. وتُجادله السيّدة المحاورة بأن هذه الثورة تحوّلت إلى مأزق حقيقي؛ لأن ما جاء به هؤلاء مع تقادم السنين لم يكن غير شعرٍ «قليل الكثافة، أوصلَنا إلى ما يسمّيه بعضهم (القصيدة العربيّة الواحدة) المكتوبة أصلاً بلغة الترجمة، والتي لا نفرّق فيها بين شاعر وآخر»، يجيبها الشاعر بالكلام الغريب نفسه، والنبرة نفس النبرة، يابسة إلى حدّ أن القارئ يشكّ في أن «القطْرَ» أتاها ولو مرّة، عن التجديد والتجاوز وبركان اللغة وثورة اللغة وحرب اللغة، وغير ذلك من أوصاف كانت محبَّبة للشعراء، في النصف الثاني من القرن الماضي، على سبيل الافتتان بهذه الأفعال؛ لأنهم كانوا يسعون إلى تغيير الشعر، وبالتالي العالم، بهذه الطريقة الثوريّة!

    وهم يتقلّبون محترقين بنار الموهبة، هل كان الشعراء يسيرون في خطّ مواز للدرب الذي سار فيه زعماء الأنظمة اليساريّة الذين ظلّوا يرفعون شعارات الحريّة والاشتراكيّة والتقدّم إلى أمام؛ إلى الأخير؛ أي إلى آخِر درجة من الهدم الذي قاموا به في بلدانهم؟! هذا التماثل بين الشاعر ورجل السلطة يعلنه صراحة فاضل العزّاوي، في كتابه «الرائي في العتمة»، الصادر عن منشورات الجمل، أيضاً: «أرى أن الديكتاتوريّات السابقة التي عشنا في ظلّها كانت تحترمنا حقّاً، ولو بطريقتها الخاصّة، بعكس ما يحدث الآن. كانت تُشعرنا بأهمّيتنا وخطورتنا كشعراء وكُتّاب ومفكّرين ومثقّفين، حين كانت تعتقلنا وتزجّ بنا في السجون، أو حتى حين تقتلنا. أما هؤلاء المسوخ الجدد، وهم جهلة من طراز فريد، فلا يكادون يشعرون حتى بوجودنا، باعتبارهم من سلالة أخرى غير سلالتنا».


    أصالة الشاعر لا تتجسّد في قصائده فحسب وإنما في أفكاره وقناعاته وطريقته في العيش أيضاً




    لا أتّفق مع الشاعر فيما قاله، واعترافه بهذه الصورة ليس دليلاً على أهمّية ما كان يؤلّفه في الماضي، ويُحكَم عليه بالسجن بسببه، وإنما هو تأكيد لهشاشة الأنظمة السابقة؛ حيث كان رجالها يرتعدون خوفاً من الأغنية واللوحة والمقالة وشريط السينما.

    يقول الشاعر الجنوب أفريقي برايتن برايتنباخ: «الشعر عمل كريم؛ أي أنه ليس هبّة ذاتية، بل طريقة مشاركة لما هو مشترك بيننا، لما هو في أعمق ذواتنا». إن لغة الحوار تؤدي أحياناً ما تقوم به المرآة المكبّرة في كشف خفايا النص، كما أن من أول أسس النقد أن يكون الشخص العامل فيه قادراً على عزل القصيدة الرديئة عن الجيدة. لو أعدنا قراءة أكثر الشعر الذي قيل في النصف الثاني من القرن الماضي، لسركون بولص وفاضل العزّاوي، على سبيل المثال لا الاقتصار، لاكتشفنا أنه يتوزّع بين الرسم التجريدي، والألاعيب اللغويّة، والسفسطة، يقوم بها الشاعر من غير لحظة تفكير في أمر القارئ، وهل كان مشاركاً له عبر قناة تجمع بينهما، الحال التي تجري كذلك على الأنظمة الحاكمة التي ظلّت ترفع شعارات الثورية والتغيير للجماهير، وهي في الوقت نفسه بعيدة عنهم. يفهم الإنسان نفسه عندما يشعر بفهم الآخرين لكلماته، والشعر الشّديد في غموضه يشبه هبّةً ذاتيّة ينفعل بها المرء ولا تصل إلى غيره لأنها غير مفهومة حتى لنفسه. هبّة ذاتيّة تخرج من الذات وتعود إليها، حالها حال إعصار صغير يتشكّل في البريّة أيّام الصيف الحارّة ويُثير الأتربة لا غير، وله اسم في اللهجة العراقيّة أعفّ عن ذكره في هذا المقام، لكنه في الحقيقة أبلغ وأصدق وصف له.
يعمل...
X