جورج أورويل" الصغيرة تحاول أن تضيء شمعة في ظلام روسيا
المكتبة افتتحت في يونيو 2022 بمبادرة من رجل الأعمال ديمتري سيلين المعارض للحرب في أوكرانيا.
الاثنين
كتب متنوعة لخلق وعي أفضل
إيفانوفو (روسيا) - تسحب امرأة مسنة من على رفوف مكتبة أعمالا تحفظ مكانها عن ظهر قلب لمؤلفين كبار كجورج أورويل وسوروكين ودوستويفسكي، ترى أنها تضيء شمعة في ظلام الوضع الراهن في روسيا.
وفي القاعة جهاز كمبيوتر وبضع مئات من الكتب، وتفوح رائحة زيت معطر، ذلك الذي تضعه ألكسندرا كاراسيفا، رئيسة مكتبة جورج أورويل في إيفانوفو، وهي مدينة صناعية تبعد خمس ساعات بالسيارة عن موسكو.
وفيما كانت منكبة على تنظيم محتويات المكتبة، تتحدث كاراسيفا (67 عاما) عن قوة فعل هذه الكتب، إذ أنها في نظرها “تتيح رؤية الإنسان، حتى في العدو، ورفض كل أشكال التجريد من الإنسانية”.
افتتحت المكتبة في يونيو 2022 بمبادرة من رجل الأعمال ديمتري سيلين المعارض للحرب في أوكرانيا، وأراد من خلال ذلك توفير أدوات التفكير الحر لمكافحة الدعاية والرقابة.
المكتبة البسيطة تذكر بقوة الكتب إذ تتيح رؤية الإنسان، حتى في العدو، ورفض كل تجريد من الإنسانية
ما لبث سيلين، ككثر آخرين، أن غادر روسيا بعد مدة قصيرة، مخافة أن تكون مواقفهم سببا للزج بهم في السجن. لكن مكتبته الصغيرة لا تزال قائمة في الطبقة الأرضية من مبنى متداعي السقف والجدران.
وتشرح كاراسيفا أن مجموعة الكتب التي تحويها المكتبة تضم أعمالا تنتمي إلى الديستوبيا أو أدب المدينة الفاسدة المحكومة بالفوضى والشر، وأخرى عن معسكرات الغولاغ السوفياتية المخصصة للاعتقال، ومؤلفات لكتاب معاصرين ينتقدون الكرملين، وكتيبات التعليم السياسي السوفياتي، إضافة إلى روايات خفيفة “لتصفية الذهن”.
وليس بين الكتب ما هو محظور. ويمكن تاليا إتاحتها للقراء، مع أن الكتب التي ألفها أشخاص مصنفون على أنهم “عملاء للخارج” يفترَض لدى عرضها للبيع في المكتبات أن تكون موضوعة داخل مظاريف تحجب غلافها.
وتتمتع كاراسيفا، من وجهة نظر قانونية، بالحق في شرح مضامين الكتب. وتقول “كلما قرأ المرء مؤلفات أدب المدينة الفاسدة، زادت حريته، إذ هي تظهر له المخاطر، وطرق تجنبها ومقاومتها”.
وتتحدث أمينة المكتبة التي تخفي وراء نظارتها السميكة خزان معرفة، عن رائعة أورويل “1984”، التي يروي فيها محاولة موظف في “وزارة الحقيقة” إبداء مقاومة في ظل دكتاتورية شديدة الذكاء في قدرتها على إخضاع الأفراد وتسطيحهم.
وتتناول مسؤولة المكتبة التدمير الذاتي الثوري في رواية “الشياطين” لدوستويفسكي، والديستوبيا في أعمال الروسي فلاديمير سوروكين، ومناهضة العنصرية لدى الأميركي هاربر لي، والصرخة من أجل الإنسانية لدى الألماني إريك ماريا ريمارك.
وتشير كاراسيفا إلى أنها مؤرخة متقاعدة، ومتخصصة في تاريخ روما القديمة، ولاسيما “الانتقال من الجمهورية إلى الدكتاتورية”.
ولا تنسى كاراسيفا وصف فيلم “باربي” بأنه “أعمق مما يبدو”، علما أن الشريط الأميركي عن الدمية الشهيرة عرض أخيرا في قاعة الاجتماعات الوحيدة بالمكتبة.
وكان ديمتري تشيستوبالوف (18 عاما) موجودا في القاعة. ويقصد هذا الناشط من حزب “يابلوكو” المعارض – وهي مجموعة مضطهدة لكنها لا تزال قانونية – المكتبة لمشاهدة الأفلام والالتقاء بشباب آخرين.
ويقول “هنا، يمكننا أن نكبر، رغم كل ما يحدث في بلدنا. يمكننا أن ننسى هذا الخوف، ونشعر بالحرية، وبالراحة، ونشعر بأننا لسنا وحدنا في هذا النظام الهائل الذي يلتهمنا”.
وتلاحظ المحامية أناستاسيا رودنكو (41 عاما) التي شاركت في تأسيس المكتبة “مؤشرات” في روسيا إلى الشمولية التي تناولها أورويل في روسيا في “1984”. وتشعر أولا بـ”الخوف الذي يكبل”.
ثم أذهلها مدى صحة الشعار الموجود في الكتاب “الجهل هو القوة”، لأن الروس الذين “لا يحاولون فهم ما يحدث، يعيشون حياة جيدة جدا”، في رأيها.
وفي الساحة المركزية في إيفانوفو، بالقرب من لوحة تخلد ذكرى أشخاص قتلتهم السلطة القيصرية خلال تظاهرة مناهضة للحرب عام 1915، تتحدث رودنكو عن “مأساتها الشخصية” التي عانتها.
ويشارك شقيقها وزوجها، وهما ضابطان في الجيش الروسي، في “العملية العسكرية الخاصة”، وهو التعبير الملطف الذي فرضه الكرملين لوصف هجومه على أوكرانيا.
ولا يمكنها الخوض كثيرا في الموضوع، إذ أن أي أقوال حساسة يمكن أن تدلي بها قد تؤدي إلى عقوبة، وحتى إلى إيداعها السجن، ولا يوفر لها كونها محامية أو زوجة عسكري أي حصانة.
وفي يونيو 2023، فرضت عليها الجهات القضائية غرامة مالية بتهمة “تشويه سمعة” الجيش. واستند الحكم، كما الحال غالبا، إلى رسائل عبر “تلغرام” ذكرت فيها أنها شاهدت فيلما وثائقيا عن المعارض أليكسي نافالني. وتمكن زوجها من الحضور إلى الجلسة لدعمها.
وما إن تبدأ رودنكو، أوكرانية الأصل لجهة والدها، بالتحدث عن “الألم الكبير” لكونها عاجزة في مواجهة الحرب التي شنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حتى تجهش فجأة بالبكاء، مع أنها أصلا مرحة وباسمة ومفعمة بالحيوية.
لكنها تحب زوجها، وباتت تحبه “حتما أكثر” منذ أن غادر للقتال. وترد على من يدينونها بسبب هذا التنافر ويتساءلون عن سبب بقائهما معا بالقول “وأنتم، ماذا كنتم لتفعلوا؟”.